39- واستمروا - أيها المؤمنون - في قتال المشركين حتى يمتنعوا عن إفسادهم لعقائد المؤمنين بالاضطهاد والأذى ، فإن انتهوا عن الكفر وإيذاء المؤمنين ، وخلص الدين لله ، فإن الله تعالى عليم بأعمالهم ومجازيهم عليها{[74]} .
وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم بمعاملة الكافرين ، فقال : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي : شرك وصد عن سبيل اللّه ، ويذعنوا لأحكام الإسلام ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين ، أن يدفع شرهم عن الدين ، وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له ، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان .
فَإِنِ انْتَهَوْا عن ما هم عليه من الظلم فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه منهم خافية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : وإن يعد هؤلاء لحربك ، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر ، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم ، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ولا يُعبد إلاّ الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة ، ويكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله يقول : حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقاتِلُوهُمْ حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني : حتى لا يكون شرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : وَقاتِلُوهُمْ حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : الفتنة : الشرك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقاتِلُوهُمْ حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ : يقول : قاتلوهم حتى لا يكون شرك ، و وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ حتى يقال : لا إله إلاّ الله ، عليها قاتل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وإليها دعا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقاتِلُوهُمْ حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : ختى لا يكون شرك .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، في قوله : وَقاتُلوهُم حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون بلاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : وَقاتِلُوهُمْ حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ : أي لا يفتُر مؤمن عن دينه ، ويكون التوحيد لله خالصا ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقاتِلُوهُمْ حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون كفر ، وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ لا يكون مع دينكم كفر .
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء ، فكتب إليه عروة : سلامْ عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو أما بعد : فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وسأخبرك به ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله :
كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، أن الله أعطاه النبوّة ، فنعم النبي ونعم السيد ، ونعم العشيرة فجزاه الله خيرا وعرّفنا وجهه في الجنة ، وأحيانا على ملته ، وأماتنا عليها ، وبعثنا عليها . وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه ، لم ينفروا منه أوّل ما دعاهم إليه ، وكانوا يسمعون له حتى ذكر طواغيَتهم . وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال ، أنكر ذلك عليه ناس ، واشتدّوا عليه ، وكرهوا ما قال ، وأغروا به من أطاعهم ، فانعطف عنه عامة الناس ، فتركوه ، إلاّ من حفظه الله منهم وهم قليل . فمكث بذلك ما قدّر الله أن يمكث ، ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم ، فكانت فتنة شديدة الزلزال ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله من شاء منهم . فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة ، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي لا يُظلم أحد بأرضه ، وكان يُثْنَى عليه مع ذلك . وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها ، ومساكن لتجارتهم يجدون فيها رتاعا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا . فأمرهم بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة ، وخافوا عليهم الفتن ، ومكث هو فلم يبرح ، فمكث ذلك سنوات يشتدّون على من أسلم منهم . ثم إنه فشا الإسلام فيها ، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم فلما رأوا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل أرض الحبشة مخافتها وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال . فلما استرخى عنهم ودخل في الإسلام من دخل منهم ، تحدث بهذا الاسترخاء عنهم ، فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد استرخى عمن كان منهم بمكة وأنهم لا يفتنون ، فرجعوا إلى مكة وكادوا يأمنون بها ، وجعلوا يزدادون ويكثرون . وإنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير ، وفشا بالمدينة الإسلام ، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلما رأت قريش ذلك ، توامرت على أن يفتنوهم ، ويشدّوا عليهم ، فأخذوهم وحرصوا على أن يفتنوهم ، فأصابهم جهد شديد ، وكانت الفتنة الاَخرة ، فكانت ثنتين : فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وأذن لهم في الخروج إليها ، وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة . ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نفسا رءؤس الذين أسلموا ، فوافوه بالحجّ ، فبايعوه بالعقبة ، وأعطوه على : أنا منك وأنت منا ، وعلى : أن من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا . فاشتدت عليهم قريش عند ذلك ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة ، وهي الفتنة الاَخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج هو ، وهي التي أنزل الله فيها : وَقاتِلُوهُمْ حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة بن الزبير ، أنه كتب إلى الوليد : أما بعد ، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وعندي بحمد الله من ذلك علم بكلّ ما كتبت تسألني عنه ، وسأخبرك إن شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن مجاهد : وَقاتِلُوهُمْ حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : يَسَاف ونائلة صنمان كانا يُعبدان .
وأما قوله : فإن انْتَهَوْا فإن معناه : فإن انتهوا عن الفتنة ، وهي الشرك بالله ، وصاروا إلى الدين الحقّ معكم . فإنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يقول : فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الإسلام لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم والأشياء كلها متجلية له لا تغيب عنه ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين .
وقد قال بعضهم : معنى ذلك : فإن انتهوا عن القتال .
والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب ، لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال ، فإنه كان فرضا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا .
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } لا يوجد فيهم شرك . { ويكون الدين كله لله } وتضمحل عنهم الأديان الباطلة . { فإن انتهوا } عن الكفر . { فإن الله بما يعملون بصير } فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم . وعن يعقوب " تعملون " بالتاء على معنى فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بصير ، فيجازيكم ويكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبب .
عطف على جملة { إن الذين كفروا ينفقون أموالَهم } [ الأنفال : 36 ] الآية ، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة { فقد مضتْ سنة الأولين } [ الأنفال : 38 ] فتكون مما يدخل في حكم جَواب الشرط . والتقدير : فإن يعودوا فقاتلوهم ، كقوله : { وإن عدتم عدنا } [ الإسراء : 8 ] وقوله { وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله } [ التوبة : 3 ] والضمير عائِد إلى مشركي مكة .
والفتنة اضطراب أمر الناس ومَرَجهم ، وقد تقدم بيانها غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر } في سورة [ البقرة : 102 ] وقوله : { وحسبوا أن لا تكون فتنة } في سورة [ العقود : 71 ] .
والمراد هنا أن لا تكون فتنة من المشركين لأنه لما جُعل انتفاء والفتنة غاية لقتالهم ، وكان قتالهم مقصوداً منه إعدامُهم أوْ إسلامهم ، وبأحَد هذين يكون انتفاء الفتنة ، فنتج من ذلك أن الفتنة المرادَ نفيُها كانت حاصلة منهم وهي فتنتهم المسلمين لا محالة ، لأنهم إنما يفتِنون مَن خالفهم في الدين فإذا أسلموا حصل انتفاء فتنتهم وإذا أعدمهم الله فكذلك .
وهذه الآية دالة على ما ذهب إليه جمهور علماء الأمة من أن قتال المشركين واجب حتى يسلموا ، وأنهم لا تقبل منهم الجزية ، ولذلك قال الله تعالى هنا : { حتى لا تكون فتنة } وقال في الآية الأخرى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] .
وهي أيضاً دالة على ما رآه المحققون من مؤرخينا : من أن قتال المسلمين المشركين إنما كان أوله دفاعاً لأذى المشركين ضعفاء المسلمين ، والتضييققِ عليهم حيثما حلوا ، فتلك الفتنة التي أشار إليها القرآن ولذلك قال في الآية الأخرى : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل } [ البقرة : 191 ] .
والتعريف في { الدين } للجنس وتقدم الكلام على نظيرها في سورة البقرة ، إلاّ أن هذه الآية زيد فيها اسم التأكيد وهو { كله } وذلك لأن هذه الآية أسبق نزولاً من آية البقرة فاحتيج فيها إلى تأكيد مفاد صيغة اختصاص جنس الدين بأنه لله تعالى ، لئلا يتوهم الاقتناع بإسلام غالب المشركين فلما تقرر معنى العموم وصار نصاً من هذه الآية عُدل عن إعادته في آية البقرة تطلباً للإيجاز .
وقوله : { فإن الله بما يعملون بصير } أي عليم كناية عن حسن مجازاته إياهم لأن القادر على نفع أوليائه ومطيعيه لا يحُول بينه وبين إِيصال النفع إليهم الإخفاء حال من يُخلص إليه ، فلما أخبروا بأن الله مطلع على انتهائهم عن الكفر إن انتهوا عنه وكان ذلك لا يظن خلافه علم أن المقصود لازم ذلك .
وقرأ الجمهور : { يعلمون } بياء الغائب وقرأه رُوَيْس عن يعقوب بتاء الخطاب .