المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

وقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } الآية ، أمر من الله عز وجل فرض به على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار ، و «الفتنة » قال ابن عباس وغيره معناها الشرك ، وقال ابن إسحاق : معناها حتى لا يفتن أحد عن دينه كما كانت قريش تفعل بمكة بمن أسلم كبلال وغيره ، وهو مقتضى قول عروة بن الزبير في جوابه لعبد الملك بن مروان حين سأله عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً{[5347]} ، وقوله { ويكون الدين كله لله } أي لا يشرك معه صنم ولا وثن ولا يعبد غيره ، وقال قتادة حتى تستوسق{[5348]} كلمة الإخلاص لا إله إلا الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذه المعاني تتلازم كلها ، وقال الحسن : حتى لا يكون بلاء ، وهذا يلزم عليه القتال في فتن المسلمين الفئة الباغية ، على سائر ما ذكرناه من الأقوال يكون المعتزل في فسحة ، وعلى هذا جاء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه أما نحن فقد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وأما أنت وأصحابك فتزيدون أن نقاتل حتى تكون فتنة .

قال القاضي أبو محمد : فمذهب عمر أن «الفتنة » الشرك في هذه الآية وهو الظاهر ، وفسر هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله »{[5349]} ، ومن قال المعنى حتى لا يكون شرك فالآية عنده يريد بها الخصوص فيمن لا يقبل منه جزية ، قال ابن سلام : وهي في مشركي العرب ، ثم قال الله تعالى : { فإن انتهوا } أي عن الكفر فإن الله بصير بعملهم مجاز عليه ، عنده ثوابه وجميل المعاوضة عليه{[5350]} وقرأ يعقوب بن إسحاق وسلام بن سليمان «بما تعملون » بالتاء أي في قتالكم وجدكم وجلادكم عن دينه .


[5347]:- روى ابن جرير الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة: "سلام عليك، فإني أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فأنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وسأخبرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله" ثم حدثه كيف بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وكيف قابله قومه بالتعذيب له ولأصحابه، بالسعي لفتنة المسلمين، وكيف أمرهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بالهجرة إلى الحبشة، فلما فشا الإسلام ودخل فيه من دخل وبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة، وعلموا أن المسلمين صاروا بمأمن فهم لا يفتنون رجعوا إلى مكة، فلما انتشر الإسلام بالمدينة عادت قريش إلى التآمر على فتنة المسلمين. قال عروة في آخر رسالته: "وكانت فتنة الآخرة". إلى أن قال: "فاشتدت عليهم قريش، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج هو، وهي التي أنزل الله فيها {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} اهـ. وكتاب عروة هذا في تفسير الطبري.
[5348]:- بمعنى: تجتمع، يقال: استوسق الشيء: اجتمع وانضم، واستوسق الأمر: انتظم، واستوسق له الأمر: أمكنه أن يجمع السلطة والكلمة في يده.
[5349]:- الحديث متواتر، ورواه عن أبي هريرة البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، ورمز له السيوطي في (الجامع الصغير) بأنه صحيح.
[5350]:- جاء في بعض النسخ "المعاوضة" بدلا من "المقارضة".