32- بسبب ذلك الطغيان وحب الاعتداء في بعض النفوس أوجبنا قتل المعتدي ، لأنه من قتل نفساً بغير ما يوجب القصاص ، أو بغير فساد منها في الأرض ، فكأنه قتل الناس جميعاً ، لأنه هتك حرمة دمائهم ، وجرّأ عليها غيره ، وقتل النفس الواحدة كقتل الجميع في استجلاب غضب الله وعذابه ، ومن أحياها بالقصاص لها ، فكأنما أحيا الناس كلهم ، لصيانته دماء البشر ، فيستحق عليهم عظيم الثواب من ربه . ولقد أرسلنا إليهم رسلنا مؤكدين حكمنا لهم بالأدلة والبراهين ، ثم إن كثيراً من بني إسرائيل بعد ذلك البيان المؤكد أسرفوا في إفسادهم في الأرض{[53]} .
{ 32 } { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }
يقول تعالى { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ } الذي ذكرناه في قصة ابني آدم ، وقتل أحدهما أخاه ، وسنه القتل لمن بعده ، وأن القتل عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والآخرة . { كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أهل الكتب السماوية { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } أي : بغير حق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } ؛ لأنه ليس معه داع يدعوه إلى التبيين ، وأنه لا يقدم على القتل إلا بحق ، فلما تجرأ على قتل النفس التي لم تستحق القتل علم أنه لا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره ، وإنما ذلك بحسب ما تدعوه إليه نفسه الأمارة بالسوء . فتجرؤه على قتله ، كأنه قتل الناس جميعا .
وكذلك من أحيا نفسا أي : استبقى أحدا ، فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله ، فمنعه خوف الله تعالى من قتله ، فهذا كأنه أحيا الناس جميعا ، لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل .
ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين :
إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك ، فإنه يحل قتله ، إن كان مكلفا مكافئا ، ليس بوالد للمقتول .
وإما أن يكون مفسدا في الأرض ، بإفساده لأديان الناس أو أبدانهم أو أموالهم ، كالكفار المرتدين والمحاربين ، والدعاة إلى البدع الذين لا ينكف شرهم إلا بالقتل .
وكذلك قطاع الطريق ونحوهم ، ممن يصول على الناس لقتلهم ، أو أخذ أموالهم .
{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } التي لا يبقى معها حجة لأحد . { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ } أي : من الناس { بَعْدِ ذَلِكَ } البيان القاطع للحجة ، الموجب للاستقامة في الأرض { لَمُسْرِفُونَ } في العمل بالمعاصي ، ومخالفة الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج .
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمّ إِنّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ من جَرّ ذلك وجريرته وجنايته ، يقول : من جرّ القاتل أخاه من ابني آدم اللذَين اقتصصنا قصتهما الجريرة التي جرّها وجنايته التي جناها ، كتبنا على بني إسرائيل . يقال منه : أجَلْتُ هذا الأمر : أي جرررته إليه وكسبته آجُلُه له أجْلاً ، كقولك : أخذته أخذا ، ومن ذلك قول الشاعر :
وأهْلِ خِباءٍ صَالحٍ ذاتُ بَيْنِهِمْ ***قَد احْتَرَبوا فِي عاجِلٍ أنا آجِلُهْ
يعني بقوله : أنا آجله : آنا الجارّ ذلك عليه والجاني .
فمعنى الكلام : من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلما ، حكمنا علي بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسا ظلما بغير نفس قَتَلت فُقِتل بها قصاصا أو فَسَادٍ في الأرْضِ يقول : أو قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الأرض ، فاستحقت بذلك قتلها . وفسادها في الأرض إنما يكون بالحرب لله ولرسوله وإخافة السبيل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جلّ ثناؤه : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنّما أحيْا النّاس جَمِيعا فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن قتل نبيا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن شدّ على عضد نبيّ أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو عمار حسين بن حُرَيْثٍ المَرْوَزِيّ ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسع جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من شدّ على عضد نبيّ أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا . ومن قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إْسرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنّما قَتَلَ النّاس جَمِيعا يقول : من قتل نفسا واحدة حرّمتها ، فهو مثل من قتل الناس جميعا . وَمَنْ أحْياها يقول : من ترك قتل نفس واحدة حرّمتها مخافتي واستحيا أن يقتلها ، فهو مثل استحياء الناس جميعا يعني بذلك الأنبياء .
وقال آخرون : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا عند المقتول في الإثم وَمَنْ أحيْاها فاستنقذها من هلكة فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا عند المستنقذ . ( ذكر من قال ذلك ) :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، فيما ذكر عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا عند المقتول ، يقول في الإثم : ومن أحياها فاستنقذها من هلكة ، فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقَذ .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن قاتل النفس المحرّم قتلها يصلي النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعا ، من أحياها : من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : مَنْ أحْياها فَكأنَمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من كفّ عن قتلها فقد أحياها ، ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا . قال : ومن أوبقها .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : من أوبق نفسا فكما لو قتل الناس جميعا ، ومن أحياها وسلم من طلبها فلم يقتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا ، ومن أحياها وسلم من طلبها فلم يقتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد : فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنَما أحيْا النّاسَ جَمِيعا لم يقتلها ، وقد سلم منه الناس جميعا لم يقتل أحدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، قال : أخبرنا عبدة ابن أبي لُبابة ، قال : سألت مجاهدا ، أو سمعته يُسْأل عن قوله : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : لو قتل الناس جميعا كان جزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما .
حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، عن الأعرج ، عن مجاهد في قوله : فَكأنَما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا ، جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك من العذاب قال ابن جريج ، قال مجاهد : وَمَنْ أحْياها فَكأنَما أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من لم يقتل أحدا فقد استراح الناس منه .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : أوبق نفسا .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : في الإثم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا ، وقوله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ قال : يصير إلى جهنم بقتل المؤمن ، كما أنه لو قتل الناس جميعا لصار إلى جهنم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : هو كما قال . وقال : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا فإحياؤها لا يقتل نفسا حرّمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعا ، يعني أنه من حرّم قتلها إلا بحقّ حيي الناس منه جميعا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد : وَمَنْ أحيْاها قال : ومن حرّمها فلم يقلتها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن العلاء ، قال : سمعت مجاهدا يقول : مَنْ أحْياها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من كفّ عن قتلها فقد أحياها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : هي كالتي في النساء : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزاؤُهُ جَهَنّمُ في جزائه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَكأنمَا قَتَل النّاسَ جَمِيعا كالتي في سورة النساء : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا في جزائه وَمَنْ أحْياها ولم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد في قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : التفت إلى جلسائه فقال : هو هذا وهذا .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، لأنه يجب عليه من القصاص به والقود بقتله ، مثل الذي يجب عليه من القود والقصاص لو قتل الناس جميعا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : يجب عليه من القتل مثل لو أنه قتل الناس جميعا . قال : كان أبي يقول ذلك .
وقال آخرون : معنى قوله : وَمَنْ أحيْاها من عفا عمن وجب له القصاص منه فلم يقتله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا يقول : من أحياها أعطاه الله جلّ وعزّ من الأجر مثلَ لو أنه أحيا الناس جميعا . أحياها فلم يقتلها وعفا عنها . قال : وذلك وليّ القتيل ، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت . قال : كان أبي يقول ذلك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن يوسن ، عن الحسن في قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيَعا قال : من عفا .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : وَمَنْ أحيْاها فَكأنّمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من قُتل حميم له فعفا عن دمه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : العفو بعد القدرة .
وقال آخرون : معنى قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا ومن أنجاها من غرق أو حرق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : وَمَنْ أحيْاها فَكأنَما أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من أنجاها من غَرَق أو حَرَق أو هلكة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاه : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسع جَمِيعا قال : من غَرَق أو حَرَق أو هَدَم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : وَمَنْ أحيْاها قال : أنجاها . وقال الضحاك بما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي عامر ، عن الضحاك ، قال : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ قال : من تروّع أو لم يتورّع .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا يقول : لو لم يقتله لكان قد أحيا الناس ، فلم يستحلّ محرّما . وقال قتادة والحسن في ذلك بما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ قال : عَظُم ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ . . . الاَية : من قتلها على غير نفس ولا فساد أفسدته فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا عظُم والله أجْرُها ، وعظُم وِزْرُها فأحيها يا ابن آدم بمالك ، وأحيها بعفوك إن استطعت ، ولا قوّة إلا بالله . وإنا لا نعلمه يحلّ دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه فعليه القتل ، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل متعمدا فعليه القَوَد .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : تلا قتادة : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْيها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : عَظُم والله أجرُها ، وَعظُم والله وِزْرُها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرا ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين ، قال : ثني سليمان بن عليّ الرّبْعي ، قال : قلت للحسن : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسً . . . الاَية ، أهي لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سعيد بن زيد ، قال : سمعت خالدا أبا الفضل ، قال : سمعت الحسن تلا هذه الاَية : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ . . . إلى قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا ثم قال : عَظّم والله في الوزر كما تسمعون ، ورغّب والله في الأجر كما تسمعون إذا ظننت يا ابن آدم أنك لو قتلت الناس جميعا فإن لك من عملك ما تفوز به من النار ، كَذَبَتْك والله نفسك ، وكَذَبَكَ الشيطان .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : فَكأنَما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : وزرا وَمَنْ أحيْاها فَكأنّمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا . قال : أجرا .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : تأويل ذلك أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلتها فاستحقت القود بها والقتل قصاصا ، أو بغير فساد في الأرض ، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها ، فكأنما قتل الناس جميعا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جلّ ثناؤه ، كما أوعده ذلك من فعله ربّه بقوله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما .
وأما قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا فأولى التأويلات به قول من قال : من حرّم قتل من حرّم الله عزّ ذكره قتَله على نفسه ، فلم يتقدم على قتله ، فقد حِييَ الناس منه بسلامتهم منه ، وذلك إحياؤه إياها . وذلك نظير خبر الله عزّ ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربه ، إذ قال له إبراهيم : ربّيَ الّذِين يُحْيِى ويُمِيتُ قال أنا أُحْيِى وأُمِيتُ . فكان معنى الكافر في قيله : أنا أحيى وأميت : أنا أترك من قدرت على قتله وفي قوله : وأميت : قَتْلُه من قتله . فكذلك معن الإحياء في قوله : وَمَنْ أحْياها : من سلم الناس من قتله إياهم ، إلا فيما أذن الله في قتله منهم فَكأنمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الاَية ، لأنه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضرّ مقام قتل جميع النفوس ، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس في عاجل النفع ، فكان معلوما بذلك أن معنى الإحياء : سلامة جميع النفوس منه ، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة ، فقد سلم منه جميع النفوس ، وأن الواحدة منها التي يقوم قتلها مقام جميعها إنما هو في الوزر ، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررا من فقد بعض .
القول في تأويل قوله تعالى : ولَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بالبَيّناتِ ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ في الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ .
وهذا قسم من الله جلّ ثناؤه أقسم به ، إن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصّ الله قصصهم وذكر نبأهم في الاَيات التي تقدمت من قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ إلى هذا الموضع . بالبَيّناتِ يعني : بالاَيات الواضحة ، والحجج البينة على حقية ما أرسلوا به إليهم وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم وأداء فرائض الله عليهم ، يقول الله عزّ ذكره : ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ يعني أن كثيرا من بني إسرائيل ، والهاء والميم في قوله : ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ من ذكر بني إسرائيل ، وكذلك ذلك في قوله : وَلَقَدْ جارَتْهُمْ بعد ذلك ، يعني بعد مجييء رسل الله بالبينات في الأرض . لمُسْرِفُونَ يعني : أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله ، ومخالفون أمر الله ونهيه ، ومحادوا الله ورسله ، باتباعهم أهواءهم وخلافهم على أنبيائهم وذلك كان إسرافهم في الأرض .
{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } بسببه قضينا عليهم ، وأجل في الأصل مصدر أجل شرا إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم ، من جراك فعلته ، أي من أن جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل ، ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشوء من أجل ذلك . { أنه من قتل نفسا بغير نفس } أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص . { أو فساد في الأرض } أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق . { فكأنما قتل الناس جميعا } من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل ، وجرأ الناس عليه ، أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم . { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل ، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا ، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها وترغيبا في المحاماة عليها . { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به ، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر .