القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيَ أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَآءً لّلسّآئِلِينَ * ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالاً رواسي ، وهي الثوابت في الأرض من فوقها ، يعني : من فوق الأرض على ظهرها .
وقوله : وَبارَكَ فِيها يقول : وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها . وقد ذكر عن السديّ في ذلك ما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وبَارَكَ فِيها قال : أنبت شجرها .
وَقَدّرَ فِيها أقواتها . اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : أرزاقها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَقَدّرَ فِيها أقواتها قال : قدّر فيها أرزاق العباد ، ذلك الأقوات .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتها يقول : أقواتها لأهلها .
وقال آخرون : بل معناه : وقدّر فيها ما يصلحها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن خليد بن دعلج ، عن قتادة ، قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : صلاحها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدّر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها : خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها ، وساكنها من الدوابّ كلها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : جبالها ودوابها وأنهارها وبحارها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدّر فيها أقواتها من المطر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : من المطر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدّر في كلّ بلدة منها ما لم يجعله في الاَخر منها لمعاش بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا أبو محصن ، قال : حدثنا حسين ، عن عكرمة ، في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : اليماني باليمن ، والسابريّ بسابور .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا أبو محصن ، عن حصين ، قال : قال عكرمة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها اليمانية باليمن ، والسابرية بسابور ، وأشباه هذا .
حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت حصينا عن عكرمة في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : في كل أرض قوت لا يصلح في غيرها ، اليماني باليمن ، والسابري بسابور .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : البلد يكون فيه القوت أو الشيء لا يكون لغيره ، ألا ترى أن السابريّ إنما يكون بسابور ، وأن العصب إنما يكون باليمن ونحو ذلك .
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : حدثنا ابن عبد الواحد بن زياد ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : السابريّ بسابور ، والطيالسة من الريّ .
حدثني إسماعيل ، قال : حدثنا أبو النضر صاحب البصري ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن مطرّف ، عن الضحاك في قوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال : السابريّ من سابور ، والطيالسة من الريّ والحبر من اليمن .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها ، وذلك ما يقوتهم من الغذاء ، ويصلحهم من المعاش ، ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها أنه قدّر فيها قوتا دون قوت ، بل عمّ الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات ، ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء ، وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرفّ في البلاد لما خصّ به بعضا دون بعض ، ومما أخرج من الجبال من الجواهر ، ومن البحر من المآكل والحليّ ، ولا قول في ذلك أصحّ مما قال جلّ ثناؤه : قدّر في الأرض أقوات أهلها ، لما وصفنا من العلة .
وقال جلّ ثناؤه : في أرْبَعَةِ أيّامٍ لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فرغ من خلق الأرض وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة أيام ، أوّلهنّ يوم الأحد ، وآخرهنّ يوم الأربعاء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : خلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء .
وقال بعض نحويي البصرة : قال : خلق الأرض في يومين ، ثم قال في أربعة أيام ، لأنه يعني أن هذا مع الأوّل أربعة أيام ، كما تقول : تزوّجت أمس امرأة ، واليوم ثنتين ، وإحداهما التي تزوّجتها أمس .
وقوله : سَوَاءً للسائِلِينَ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضمهم : تأويله : سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض ، وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة ، وقدّر فيها الأقوات بأهلها ، وجده كما أخبر الله أربعة أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سَوَاءً للسّائِلِينَ من سأل عن ذلك وجده ، كما قال الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة سَوَاءً للسّائِلِينَ قال : من سأل فهو كما قال الله .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاء للسّائِلِينَ يقول : من سأل فهكذا الأمر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق ، فإن الله قد قدّر له من الأقوات في الأرض ، على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله سَوَاءً للسّائِلِينَ قال : قدّر ذلك على قدر مسائلهم ، يعلم ذلك أنه لا يكون من مسائلهم شيء إلا شيء قد علمه قبل أن يكون .
واختلفت القراء في قراءة ذلك . فقرأته عامة قراء الأمصار غير أبي جعفر والحسن البصري : سَوَاءً بالنصب . وقرأه أبو جعفر القارىء : «سَوَاءٌ » بالرفع . وقرأ الحسن : «سَوَاءٍ » بالجر .
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراءة الأمصار ، وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه ، ولصحة معناه . وذلك أن معنى الكلام : قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة ، وعلى ما يصلحهم .
وقد ذُكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : «وَقَسّمَ فِيها أقْوَاتَها » .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب سواءً ، فقال بعض نحويي البصرة : من نصبه جعله مصدرا ، كأنه قال : استواء . قال : وقد قُرىء بالجرّ وجعل اسما للمستويات : أي في أربعة أيام تامّة . وقال بعض نحويي الكوفة : من خفض سواء ، جعلها من نعت الأيام ، وإن شئت من نعت الأربعة ، ومن نصبها جعلها متّصلة بالأقوات . قال : وقد تُرفع كأنه ابتداء ، كأنه قال : ذلك سَوَاءً للسّائِلِينَ يقول : لمن أراد علمه .
والصواب من القول في ذلك أن يكون نصبه إذا نصب حالاً من الأقوات ، إذ كانت سواء قد شبهت بالأسماء النكرة ، فقيل : مررت بقوم سواء ، فصارت تتبع النكرات ، وإذا تبعت النكرات انقطعت من المعارف فنصبت ، فقيل : مررت بإخوتك سواء ، وقد يجوز أن يكون إذا لم يدخلها تثنية ولا جمع أن تشبه بالمصادر . وأما إذا رُفعت ، فإنما تُرفع ابتداء بضمير ذلك ونحوه ، وإذا جُرّت فعلى الإتباع للأيام أو للأربعة .