ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }
يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله ، الجاحدين بدينه وكتابه ، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئا ، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم ، ويقولون { نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون { وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن } وليس للأولاد والأموال قدر عند الله ، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة ، كما قال تعالى { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار ، أي : حطبها ، الملازمون لها دائما أبدا ، وهذه الحال التي ذكر الله تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا ، سنته الجارية في الأمم السابقة .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ . . . . } .
الوقود - بفتح الواو - هو ما توقد به النار كالحطب وغيره . وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت . والوقود - بضم الواو - المصدر عند أكثر اللغوين .
والمعنى : إن الذين كفروا بالحق لما جاءهم ، وعموا وصموا عن الاستجابة له ، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة ، ولن تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي استحقوه بسبب كفرهم ، واغترارهم بكثرة المال ، وعزة النفر ، وقوة العصبية وقد أكد - سبحانه - هذا الحكم ردا على مزاعمهم الباطلة من أن ذلك سينفعهم فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا : { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } فبين - سبحانه - أنه بسبب كفرهم الذى أصروا عليه ، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم أي نفع من وقوع عذاب الله عليهم .
ومن في قوله { مِّنَ الله } لابتداء الغاية و { شَيْئاً } منصوب على المصدرية . أي شيئا من الاغناء . أو النفع ، لأن الذى ينفع الناس يوم القيامة إنما هو إيمانهم وعملهم الصالح .
والإشارة في قوله { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } لأولئك الكافرين الذين غرهم بالله الغرور . أى : وأولئك الكافرون الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ولم يعيروا أسماعهم أي التفات إلى الحق هم وقود النار أي حطبها . أي أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى لكأنهم هم مادتها التي بها تتقد وتشتعل .
وجىء بالإشارة في قوله { وأولئك } لاستحضارهم في الأذهان حتى لكأنهم بحيث يشار إليهم ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيأتي من الخبر وهو قوله { هُمْ وَقُودُ النار } . وكانت الاشارة للبعيد ، للإشعار بغلوهم في الكفر ، وانغماسهم فيه إلى منتهاه ، ولذلك كانت العقوبة شديدة .
وقوله { وأولئك } مبتدأ ، وهم ضمير فصل والخبر قوله : { وَقُودُ النار } والجملة مستأنفة مقررة لعدم الإغناء . وفي هذا التذييل تهديد شديد للكفار الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ببيان أن ما اغتروا به لن يحول بينهم وبين الخلود في النار .
قال الفخر الرازي ما ملخصه : اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عن الإنسان كل ما كان منتفعا به . ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة .
أما الأول فهو المراد بقوله { لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً } وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد . فبين الله - تعالى - أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا . ونظير هذه الآية قوله - تعالى - { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وأما القسم الثاني من أسباب العذاب فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة ، وإليه الإشارة بقوله : { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } وهذا هو النهاية في العذاب ، فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس .
هم الكفار الذين لا يقرون ببعث إنما هي على وجه الدهر وإلى يوم القيامة في زينة الدنيا وهي المال والبنون ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية ، أن ذلك المتهم فيه لا يغني عن صاحبه شيئاً ولا يمنعه من عذاب الله وعقابه ، و { من } في قوله : { من الله } لابتداء الغاية ، والإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي - بعد - متناولة كل كافر ، وقرأ أبو عبد الرحمن{[2979]} : «لن يغني » بالياء ، على تذكير العلامة ، والوقود بفتح الواو ما يحترق في النار من حطب ونحوه ، وكذلك هي قراءة جمهور الناس ، وقرا الحسن ومجاهد وجماعة غيرهما { وُقُود } بضم الواو وهذا على حذف مضاف تقديره ، حطب { وقود النار } ، والوقود بضم الواو المصدر ، وقدت النار تقد إذا اشتعلت ، والدأْب والدأَب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب - إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه ، ويقال للعادة - دأب - فالمعنى في الآية ، تشبيه هؤلاء في لزومهم الكفر ودوامهم عليه بأولئك المتقدمين ، وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب هؤلاء مثل ما أصاب أولئك من العقاب .
استئناف كلام ناشيء عن حكاية ما دعا به المؤمنون : من دوام الهداية ، وسؤال الرحمة ، وانتظار الفوز يوم القيامة ، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم ، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة . وتعقيب دعاء المؤمنين ، بذكر حال المشركين ، إيماء إلى أنّ دعوتهم استجيبت . والمراد بالذين كفروا : المشركون ، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن وقيل : الذين كفروا بنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم أريد هنا قُريظة والنضير وأهلُ نجران ؛ ويُرجَّح هذا بأنّهم ذُكِّروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود فإنّ اليهود والنصارى أعلق بأخبار فرعون . كما أنّ العرب أعلق بأخبار عاد وثمود ، وأنّ الردّ على النصارى من أهمّ أغراض هذه السورة . ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين : من المشركين ، وأهل الكتابَيْن ، ويكون التذكير بفرعون لأنّ وعيد اليهود في هذه الآية أهم .
ومعنى « تُغني » تُجزِي وتكفي وتدفع ، وهو فِعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بعن نحو : « ما أغني عني مَالِيَهْ » .
ولدلالة هذا الفعل على الإجزاء والدفع ، كان مؤذناً بأنّ هنالك شيئاً يدفع ضُرّه ، وتُكفى كلفتُه ، فلذلك قَد يذكرون مع هذا الفعل متعلِّقاً ثانياً ويُعَدُّونَ الفعل إليه بحرف ( مِن ) كما في هذه الآية . فتكون ( مِن ) للبدل والعوض على ما ذهب إليه في « الكشاف » ، وجعل ابن عطية ( من ) للابتداء .
وقوله : { من الله } أي من أمر يضاف إلى الله ؛ لأنّ تعليق هذا الفعل ، تعليقاً ثانياً ، باسم ذات لايقصد منه إلاّ أخصّ حال اشتهرت به ، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدّر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة . والتقدير هنا من رحمة الله ، أو من طاعته ، إذا كانت ( مِنْ ) للبدل وكَذا قدّره في « الكشاف » ، ونظّره بقوله تعالى : { وإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً } [ النجم : 28 ] . وعلى جعل ( من ) للابتداء كما قال ابن عطية تقدّر من غضب الله ، أو من عذابه ، أي غناء مبتدِئاً من ذلك : على حدّ قولهم : نَجَّاه من كذا أي فصله منه ، ولا يلزم أن تكون ( مِن ) مَعَ هذا الفعل ، إذا عدّي بعَن ، مماثلة لمِنْ الواقعة بعد هذا الفعل الذي يُعَدّ بعن ، لإمكان اختلاف معنى التعلّق باختلاف مساق الكلام . والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ ( شيء ) مع ذكر المتعلِّقين كما في الآية ، وبدون ذكر متعلِّقين ، كما في قول أبي سفيان ، يومَ أسْلَمَ : « لقد علمتُ أنْ لَوْ كان معه إله غيرُه لقد أغنى عنّي شيئاً » .
وانتصب قوله : { شيئاً } على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئاً من الغَناء . وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفاً ، بله الغناء المهم ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي .
وقد ظهر بهذا كيفية تصرفّ هذا الفعل التصرّفَ العجيب في كلامهم ، وانفتح لك ما انغلق من عبارة الكشّاف ، وما دونها ، في معنى هذا التركيب .
وقد مرّ الكلام على وقوع لفظ شيء عند قوله : { ولنبلونَّكم بشيء من الخوف } [ البقرة : 155 ] . وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا ؛ لأنّ الغناءَ يكون بالفداء بالمال ، كدفع الديات والغرامات ، ويكون بالنصر والقتال ، وأوْلى مَن يدافع عن الرجل ، من عشيرته ، أبناؤه ، وعن القبيلة أبناؤُها . قال قيس بن الخطيم :
ثَأرْتُ عَدِيَّا والخَطِيمَ ولَمْ أضعْ *** وَلاَيَة أشْيَاخٍ جُعِلْتُ إزَاءَها
والأموال المكاسب التي تقتات وتدخّرُ ويتعاوض بها ، وهي جمع مال ، وغلب اسم المال في كلام جلِّ العرب على الإبل قال زهير :
* صَحيحاتِ مالٍ طَالعات بمخرم *
وغلب في كلام أهل الزرع والحرث على الجنّات والحوائط وفي الحديث « كان أبو طلحة أكثرَ أنصاري بالمدينة مالاً وكان أحَبُّ أمواله إليه بئر حاء » ، ويطلق المال غالباً على الدراهم والدنانير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس « أيْن المال الذي عند أم الفضل . » والظاهر أنّ هذا وعيد بعذاب الدنيا ؛ لأنّه شُبِّه بأنّه { كدأب ءال فرعون } إلى قوله { فأخذهم الله بذنوبهم } وشأنُ المشبّه به أن يكون معلوماً ؛ ولأنّه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله : { وأولئك هم وقود النار } .
وجيء بالإشارة في قوله : { وأولئك } لاستحضارهم كأنّهم بحيث يشار إليهم ، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيأتي من الخَبر وهو قوله : { هم وقود النار } . وعطفت هذه الجملة ، ولم تفصل ، لأنّ المراد من التي قبلها وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة بقرينة قوله ، في الآية التي بعد هذه : { ستُغْلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] . والوَقود بفتح الواو ما يوقد به كالوَضوء ، وقد تقدّم نظيره في قوله : { التي وقودها الناس والحجارة } في سورة البقرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا}: إن الذين جحدوا الحقّ الذي قد عرفوه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم، ومنافقي العرب وكفارهم الذين في قلوبهم زيغ، فهم يتبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلاَدُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا}: أن أموالهم وأولادهم لن تنجيهم من عقوبة الله إن أحلها بهم عاجلاً في الدنيا على تكذيبهم بالحقّ بعد تبيّنهم، واتباعهم المتشابه طلب اللبس فتدفعها عنهم، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئا، وَهُمْ فِي الآخِرَةِ {وَقُودُ النّارِ} يعني بذلك حطبها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} وذلك أنهم كانوا يستنصرون بأولادهم وأموالهم في الدنيا، ويستعينون بها على غيرهم، فظنوا أنهم يستنصرون بهم في الآخرة، ويدفعون بهم عن أنفسهم العذاب، وهو كقولهم: {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35]، فأخبرهم الله جل وعلا أن أموالكم وأولادكم لا تغني عنكم من عذاب الله شيئا...
{والله شديد العقاب} ليس كعذاب الدنيا، أنه لا على الانقضاء والنفاذ، ولكن على الدوام فيها والخلود أبد الآبدين. فنعوذ بالله منها...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
ومعنى قوله (لن يغني): أي لن ينفع، ولن يدفع، وإنما سمي المال غنى، لأنه ينفع الناس ويدفع عنهم الفقر والنوائب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فلا فداء ينفعهم، ولا غناء يدفعهم، ولا مال يُقبَلُ منهم، ولا حجاب يُرفَع عنهم، ولا مقال يسمع فيهم، بهم يُسَعَّرُ الجحيم، ولهم الطرد الأليم، والبعد الحميم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
هو قول الكافرين يوم القيامة: شغلتنا عن الحق أموالنا وأهلونا، يقول لا عذر لهم فيه، ولا يغنيهم ذلك (وأولئك هم وقود النار)...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هم الكفار الذين لا يقرون ببعث، إنما هي على وجه الدهر وإلى يوم القيامة في زينة الدنيا وهي المال والبنون، فأخبر الله تعالى في هذه الآية، أن ذلك المتهم فيه لا يغني عن صاحبه شيئاً ولا يمنعه من عذاب الله وعقابه، و {من} في قوله: {من الله} لابتداء الغاية، والإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم، وهي -بعد- متناولة كل كافر... والوقود -بفتح الواو- ما يحترق في النار من حطب ونحوه، وكذلك هي قراءة جمهور الناس، وقرأ الحسن ومجاهد وجماعة غيرهما {وُقُود} بضم الواو، وهذا على حذف مضاف تقديره، حطب {وقود النار}، والوُقود -بضم الواو- المصدر، وقدت النار تقد، إذا اشتعلت.
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم، حكى كيفية حال الكافرين وشديد عقابهم، فهذا هو وجه النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله {إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} قولان الأول: المراد بهم وفد نجران، وذلك لأنا روينا في بعض قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه: إني لأعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ولكنني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال والجاه. فالله تعالى بين أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة. والقول الثاني: أن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ.
المسألة الثانية: اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعا به، ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة...
أما الأول: فهو المراد بقوله {لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم} وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد، فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب فبين الله تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم، فما عداه بالتعذر أولى، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 88، 89] وقوله {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا} [الكهف: 46] وقوله {ونرثه ما يقول ويأتينا فردا} [مريم: 80] وقوله {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} [مريم: 80].
وأما القسم الثاني: من أسباب كمال العذاب، فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وأولئك هم وقود النار}... وهذا هو النهاية في شرح العذاب فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس. المسألة الثالثة: في قوله {من الله} قولان: أحدهما: التقدير: لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. والثاني: قال أبو عبيدة {من} بمعنى عند، والمعنى لن تغني عند الله شيئا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام في تفسير {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} ما مثاله: يقال إن هذه الآية وما قبلها في تقرير التوحيد سواء كان ردا على نصارى نجران أو كان كلاما مستقلا، فإن التوحيد لما كان أهم ركن للإسلام كان مما تعرف البلاغة أن يبدأ بتقرير الحق في نفسه، ثم يؤتى ببيان حال أهل المناكرة والجحود ومناشئ اغترارهم بالباطل وأسباب استغنائهم عن ذلك الحق أو اشتغالهم عنه، وأهمها الأموال والأولاد فهي تنبئهم هنا بأنها لا تغني عنهم في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، إذ يجمع الله فيه الناس ويحاسبهم بما عملوا، بل ولا في أيام الدنيا لأن أهل الحق لا بد أن يغلبوهم على أمرهم، وما أحوج الكافرين إلى هذا التذكير أن الجحود إنما يقع من الناس للغرور بأنفسهم وتوهمهم الاستغناء عن الحق، فإن صاحب القوة والجاه إذا وعظ بالدين عند هضم حق من الحقوق لا يؤثر فيه الوعظ، ولكنه إذا رأى أن الحق له واحتاج إلى الاحتجاج عليه بالدين، فإنه ينقلب واعظا بعد أن كان جاحدا. فهم لظلمة بصيرتهم وغرورهم بما أوتوا من مال وجاه يتبعون الهوى في الدين في كل حال...
قال: فسر مفسرنا (الجلال) "تغني "بتدفع، وهو خلاف ما عليه جمهور المفسرين. وإنما تغني هنا كيغني في قوله عز وجل: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} [يونس: 36] ولا أراك تقول إن معناها لن يدفع من الحق شيئا وإنما معنى "من" هنا البدلية أي إن أموالهم وأولادهم لن تكون بدلا لهم من الله تعالى تغنيهم عنه. فإنهم إذا تمادوا على باطلهم يغلبون على أمرهم في الدنيا ويعذبون في الآخرة كما سيأتي في الآية التي تلي ما بعد هذه بل توعدهم في هذه أيضا بقوله: {وأولئك هم وقود النار} الوقود بالفتح (كصبور) ما توقد به النار من حطب ونحوه. قال الأستاذ الإمام هنا: أي إنهم سبب وجود نار الآخرة كما أن الوقود سبب وجود النار في الدنيا أو أنهم مما توقد به، ولا نبحث عن كيفية، ذلك فإنه من أمور الغيب التي تؤخذ بالتسليم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله، الجاحدين بدينه وكتابه، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئا، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم، ويقولون {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون {وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون} وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة، كما قال تعالى {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار، أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدا، وهذه الحال التي ذكر الله تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا، سنته الجارية في الأمم السابقة ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد هذا البيان، يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب، ويقفون لهذا الدين، ويلقن الرسول [ص] أن ينذرهم ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وأولئك هم وقود النار. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم، والله شديد العقاب. قل للذين كفروا. ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار).. إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم. وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك.. فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون.. وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل. ولكن هذا لا يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا وكفروا، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين انجاهم الله منهم! كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر -وهم كفار- ليقول لهم: إن سنة الله لا تتخلف. وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش. فالعلة هي الكفر. وليس لأحد على الله دالة، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح! (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وأولئك هم وقود النار).. والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية؛ ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، لأنه لا إخلاف لميعاد الله. وهم فيه: (وقود النار).. بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص "الإنسان "ومميزاته، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر (وقود النار).. لا بل إن الأموال والأولاد، ومعهما الجاه والسلطان، لا تغني شيئا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف كلام ناشئ عن حكاية ما دعا به المؤمنون من دوام الهداية، وسؤال الرحمة، وانتظار الفوز يوم القيامة، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة، وتعقيب دعاء المؤمنين، بذكر حال المشركين، إيماء إلى أنّ دعوتهم استجيبت. والمراد بالذين كفروا: المشركون، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن، وقيل: الذين كفروا بنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم أريد هنا قُريظة والنضير وأهلُ نجران، ويُرجَّح هذا بأنّهم ذُكِّروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود فإنّ اليهود والنصارى أعلق بأخبار فرعون. كما أنّ العرب أعلق بأخبار عاد وثمود، وأنّ الردّ على النصارى من أهمّ أغراض هذه السورة. ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين: من المشركين، وأهل الكتابَيْن، ويكون التذكير بفرعون لأنّ وعيد اليهود في هذه الآية أهم. ومعنى « تُغني» تُجزِي وتكفي وتدفع، وهو فِعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بعن نحو: « ما أغني عني مَالِيَهْ»...
وقوله: {من الله} أي من أمر يضاف إلى الله؛ لأنّ تعليق هذا الفعل، تعليقاً ثانياً، باسم ذات لا يقصد منه إلاّ أخصّ حال اشتهرت به، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدّر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة. والتقدير هنا من رحمة الله، أو من طاعته، إذا كانت (مِنْ) للبدل وكَذا قدّره في « الكشاف»، ونظّره بقوله تعالى: {وإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً} [النجم: 28]. وعلى جعل (من) للابتداء كما قال ابن عطية تقدّر من غضب الله، أو من عذابه، أي غناء مبتدِئاً من ذلك: على حدّ قولهم: نَجَّاه من كذا أي فصله منه، ولا يلزم أن تكون (مِن) مَعَ هذا الفعل، إذا عدّي بعَن، مماثلة لمِنْ الواقعة بعد هذا الفعل الذي يُعَدّ بعن، لإمكان اختلاف معنى التعلّق باختلاف مساق الكلام. والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ (شيء) مع ذكر المتعلِّقين كما في الآية، وبدون ذكر متعلِّقين، كما في قول أبي سفيان، يومَ أسْلَمَ: « لقد علمتُ أنْ لَوْ كان معه إله غيرُه لقد أغنى عنّي شيئاً». وانتصب قوله: {شيئاً} على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئاً من الغَناء. وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفاً، بله الغناء المهم، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي...
وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا؛ لأنّ الغناءَ يكون بالفداء بالمال، كدفع الديات والغرامات، ويكون بالنصر والقتال، وأوْلى مَن يدافع عن الرجل، من عشيرته، أبناؤه، وعن القبيلة أبناؤُها...
والأموال المكاسب التي تقتات وتدخّرُ ويتعاوض بها، وهي جمع مال... والظاهر أنّ هذا وعيد بعذاب الدنيا؛ لأنّه شُبِّه بأنّه {كدأب ءال فرعون} إلى قوله {فأخذهم الله بذنوبهم} وشأنُ المشبّه به أن يكون معلوماً؛ ولأنّه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله: {وأولئك هم وقود النار}. وجيء بالإشارة في قوله: {وأولئك} لاستحضارهم كأنّهم بحيث يشار إليهم، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيأتي من الخَبر وهو قوله: {هم وقود النار}. وعطفت هذه الجملة، ولم تفصل، لأنّ المراد من التي قبلها وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة بقرينة قوله، في الآية التي بعد هذه: {ستُغْلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد} [آل عمران: 12]. والوَقود بفتح الواو ما يوقد به كالوَضوء، وقد تقدّم نظيره في قوله: {التي وقودها الناس والحجارة} في سورة البقرة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا} كان السبب في كفر من كفر، وزيغ من يزيغ، هو اغترارهم في هذه الحياة الدنيا بكثرة المال، وعزة النفر، وقوة العصبية، مما جعلهم يبغون على الناس، ويبغون على أنفسهم، فتطمس مسالك النور إلى قلوبهم، وإنه لا شيء يدلي بالنفس فتعمى عن الإدراك أكثر من الغرور، ولذلك ذكر سبحانه وتعالى أن هذه الأموال وأولئك الأولاد وإن كانوا العصبة أولى القوة لن تغني عنهم شيئا. وقد أكد القول سبحانه في موضعين في قوله: {إن الذين كفروا} وبهذا يؤكد سبحانه وقوع الكفر منهم، ويؤكد النفي سبحانه في قوله: {لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا} إذ نفى ب:"لن"، فالخبران مؤكدان: الإثبات والنفي، فكفرهم وعدم نفع أعراض الدنيا مؤكدان، وكأن مجرى القول هكذا: غرتهم أماني الدنيا بالأموال والأولاد فكفروا كفرا مؤكدا مع أنه من المؤكد أنها لن تنفعهم بأي نفع، ولن يكون فيها ما يغني عن رحمة الله التي حرموها بسبب كفرهم المؤكد...
وهنا بعض إشارات بيانية منها قوله: {لن تغني عنهم أموالهم} فقد قال بعض المفسرين: إن معناها لن تدفع عنهم من عذاب الله شيئا. فتغني معناها تدفع، والدفع المنفي هو منع العذاب، ولكن كلمة تغني لا تدل على معنى الدفع إلا على سبيل المجاز، الذي يشرح له ويقويه قوله تعالى: {من الله} و "من "هنا بمعنى البدلية، والمعنى يكون على هذا: لا تكون الأموال والأولاد مغنية أي غناء ونافعة أي نفع بدل رحمة الله تعالى وقدرته وإرادته و نفعه لعباده، فالغاية أن الأولاد والأموال لا تجلب رحمة بدل رحمة الله تعالى ونفعه لعباده شيئا من الغناء أو النفع... ثم قوله في نفي نفع الأولاد بعد نفي نفع الأموال {و لا أولادهم} إشارة إلى أن قوة النفع بمقتضى الفطرة والعادات الجارية في الأولاد أكثر، ولذا أكد النفي فيه بعد تأكيده أولا بتكرار "لا" كأن نفي نفع الأموال أسهل قبولا من نفي نفع الأولاد، ولذا زاده توكيدا بعد توكيد، وإن أولئك الكافرين إذا كانوا قد حرموا نفع الأموال والأولاد، ولم يستبدلوا برحمة الله شيئا، فلهم مع ذلك عذاب شديد، ولذا قال سبحانه بعد ذلك: {وأولئك هم وقود النار} الإشارة في قوله: {وأولئك} إلى أولئك الكافرين الذين غرهم غرور الأموال والأولاد فضلوا لفرط اعتزازهم بسلطان المال والعصبية،وفي الإشارة إليهم وهم موصوفون بالكفر المؤكد الذي لا سبيل إلى الشك في ولا الريب بيان ان السبب في العقاب الذي ينزله الله بهم هو هذا الكفر الذي دفع إليه الغرور والاعتزاز بغير الله وبغير الحق.والجملة السامية {وأولئك هم وقود النار} دالة على عقابهم الشديد يوم القيامة... وإن هذا العقاب هو الغرور ينتظر الكفار جميعا،وإن حال منكري الإسلام في الإنكار والجحود والغرور بالمال والولد،والعزة بالنفر والعصبية،كحال من سبقوهم،ولذا ينزل ما نزل بأولئك؛ ولهذا قال سبحانه وتعالت آياته: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم}...
في اللغة يقال: هذا الشيء لا يغني فلاناً، أي أنه يظل محتاجاً إلى غيره؛ لأن الغِنَى هو ألا تحتاج إلى الغير، فالأموال والأولاد لا تُغني أحداً في يوم القيامة، والمسألة لا عزوة فيها، ولا أنساب بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع، فلا أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه. وكان الكافرون على أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك القول الشاذ يقولون: مادام الله قد أعطانا أموالاً وأولاداً في الدنيا فلا بد أن يعطينا في الآخرة ما هو أفضل من ذلك. ولذلك يقول الله لهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً} إذن فالأمر كله مردود إلى الله. صحيح في هذه الدنيا أن الله قد يخلق الأسباب، والكافر تحكمه الأسباب، وكذلك المؤمن، فإذا ما أخذ الكافر بالأسباب فإنه يأخذ النتيجة، ولكن في الآخرة فالأمر يختلف؛ فلن يملك أحد أسباباً، ولذلك يقول الحق عن اليوم الآخر: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]. إن البشر في الدنيا يملكون الأسباب، ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلاف أسبابهم، واختلاف كدحهم في الحياة، واختلاف وجود ما يحقق للإنسان المُتع، لكن الأمر في الآخرة ليس فيه كدح ولا أسباب؛ لأن الإنسان المؤمن يعيش بالمُسبب في الآخرة وهو الله جلت قدرته فبمجرد أن يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن الشيء يأتي له. أما الكفار فلا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، لأنهم انشغلوا في الدنيا بالمال والأولاد وكفروا بالله... وعندما يقول الحق: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} وهنا مسألة يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ، هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالات الله في الأرض تلقوا بعض العذاب في الدنيا؛ لأن الله لا يدّخر كل العقاب للآخرة وإلا لشقي الناس بالكافرين وبالعاصين، ولذلك فإن الله يُعَجِّلُ بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه الدنيا. ويقول الحق مثالاً على ذلك: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}...