{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
يخبر تعالى ، عن عبده وخليله ، إبراهيم عليه السلام ، المتفق على إمامته وجلالته ، الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه ، بل وكذلك المشركون : أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات ، أي : بأوامر ونواهي ، كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده ، ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء ، والامتحان من الصادق ، الذي ترتفع درجته ، ويزيد قدره ، ويزكو عمله ، ويخلص ذهبه ، وكان من أجلِّهم في هذا المقام ، الخليل عليه السلام .
فأتم ما ابتلاه الله به ، وأكمله ووفاه ، فشكر الله له ذلك ، ولم يزل الله شكورا فقال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي : يقتدون بك في الهدى ، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية ، ويحصل لك الثناء الدائم ، والأجر الجزيل ، والتعظيم من كل أحد .
وهذه - لعمر الله - أفضل درجة ، تنافس فيها المتنافسون ، وأعلى مقام ، شمر إليه العاملون ، وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم ، من كل صديق متبع لهم ، داع إلى الله وإلى سبيله .
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام ، وأدرك هذا ، طلب ذلك لذريته ، لتعلو درجته ودرجة ذريته ، وهذا أيضا من إمامته ، ونصحه لعباد الله ، ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون ، فلله عظمة هذه الهمم العالية ، والمقامات السامية .
فأجابه الرحيم اللطيف ، وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال : { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي : لا ينال الإمامة في الدين ، من ظلم نفسه وضرها ، وحط قدرها ، لمنافاة الظلم لهذا المقام ، فإنه مقام آلته الصبر واليقين ، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة ، والأخلاق الجميلة ، والشمائل السديدة ، والمحبة التامة ، والخشية والإنابة ، فأين الظلم وهذا المقام ؟
ودل مفهوم الآية ، أن غير الظالم ، سينال الإمامة ، ولكن مع إتيانه بأسبابها .
{ وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ . . . }
الابتلاء : الاختبار . أي . اختبره ربه - تعالى - بما كلفه به من الأوامر والنواهي ، ومعنى اختبار الله - تعالى - لعبده ، أن يعامله معاملة المختبر مجازاً ، إذ حقيقة الاختيار محالة عليه - تعالى - لعلمه المحيط بالأشياء والله - تعالى - تارة يختبر عباده بالضراء ليصبروا . وتارة بالسراء ليشكروا وفي كلتا الحالتين تبدو النفس البشرية على حقيقتها .
وفي إسناد الابتلاء إلى الرب إشعار للتالي أو للسامع بأنه ابتلاه بما ابتلاه به تربية له ، وتقوية لعزمه ، حتى يستطيع النهوض بعظائم الأمور .
وقد اختلف المفسرون في تعيين المراد بالكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم - عليه السلام - على أقوال كثيرة .
قال ابن جرير : " ولا يجوز الجزم بشيء مما ذ كروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا نبقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، ولعل أرجح الآراء في المراد بهذه الكلمات ، أنها الأوامر التي كلفه الله بها ، فأتى بها على أتم وجه " .
وقوله : { فَأَتَمَّهُنَّ } أي أتى بهن على الوجه الأكمل ، وأداهن أداء تاماً يليق به - عليه السلام - ولذا مدحه الله بقوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } وجيء بالفاء في { فَأَتَمَّهُنَّ } للدلالة على الفور والامتثال . وذلك من شدة العزم ، وقوة اليقين .
وفي إجمال القرآن لتلك الكلمات التي امتحن الله بها إبراهيم ، وفي وصفه له بأنه أتمهن ، إشعار بأنها من الأعمال التي لا ينهض بها إلا ذو عزم قوي يتلقى أوامر ربه بحسن الطاعة وسرعة الامتثال .
وقدم المفعول وهو لفظ إبراهيم ؛ لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم الرب إلى اسمه مع مراعاة الإِيجاز ، فلذلك لم يقل وإذ ابتلى الله إبراهيم .
وجملة { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } مستأنفة لبيان ما من الله به على إبراهيم من الكرامة ورفعة المقام ، بعد أن ذكر - سبحانه - أنه عامله معاملة المختبر له ، إذ كلفه بأمور شاقه فأحسن القيام بها .
جاعلك : من جعل يعني صير . والإِمام : القدوة الذي يؤتم به في أقواله وأفعاله . والمراد بالإِمامة هنا : الرسالة والنبوة ، فإنهما أكمل أنواع الإِمامة ، والرسول أكمل أفراد هذا النوع ، وقد كان إبراهيم - عليه السلام - رسولا يقتدي به الناس في أصول الدين ومكارم الأخلاق .
وقال : { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماًْ } ولم يقل : " إني جاعلك للناس رسولا ، ليكون ذلك دالا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء ، فإن إبراهيم - عليه السلام - قد رحل إلى آفاق كثيرة ، فانتقل من بلاد الكلدان إلى العراق ، وإلى الشام ، وإلى الحجاز ، وإلى مصر وكان في جميع منازلة أسوة حسنة لغيره .
وقد مدح القرآن إبراهيم في كثير من آياته ، ومن ذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } وجملة { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } واقعة موقع الجواب عما من شأنه أن يخطر في نفس السامع ، فكأنه قال : وماذا كان من إبراهيم عندما تلقى من ربه تلك البشارة العظمى ؟ فكان الجواب أن إبراهيم قد التمس الإِمامة لبعض ذريته أيضاً .
أي : قال إبراهيم : واجعل يا رب من ذريتي أئمة يقتدي بهم .
وقد رد الله - تعالى - على قول إبراهيم بقولك { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } .
وإنما قال إبراهيم ومن ذريتي ولم يقل وذريتي ، لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدى بهم فلم يسأل ما هو غير مألوف عادة ، لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء .
أي : قال الله لإبراهيم : قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك لكن لا يصيب عهدي الذي عهدته إليك بالإِمامة الذين ظلموا منهم ، فالعهد هنا بمعنى الإِمامة المشار إليها في قوله : { جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } .
وفي هذه الجملة الكريمة إيجاز بديع ، إذ المراد منها إجابة طلب إبراهيم من الإِنعام على بعض ذريته بالإِمامة كما قال - تعالى - :
{ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } ولكنها تدل صراحة على أن الظالمين من ذريته ليسوا أهلا لأن يكونوا أئمة يقتدي بهم ، وتشير إلى أن غير الظالمين منه قد تنالهم النبوة ، وقد نالت من ذريته إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء .
قال - تعالى - : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ }
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } كلفه بأوامر ونواه ، والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء ، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفهما ، والضمير لإبراهيم ، وحسن لتقدمه لفظا وإن تأخر رتبة ، لأن الشرط أحد التقدمين ، والكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة في قوله تعالى : { التائبون العابدون } الآية وقوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } إلى آخر الآية ، وقوله : { قد أفلح المؤمنون } إلى قوله : { أولئك هم الوارثون } كما فسرت بها في قوله { فتلقى آدم من ربه كلمات } وبالعشر التي هي من سننه ، وبمناسك الحج ؛ وبالكواكب ، والقمرين ، والختان ، وذبح الولد ، والنار ، والهجرة . على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن وبما تضمنته الآيات التي بعدها . وقرئ إبراهيم ربه على أنه دعا ربه بكلمات مثل { أرني كيف تحيي الموتى } . { واجعل هذا البلد آمنا } ليرى هل يجيبه . وقرأ ابن عامر إبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة . { فأتمهن } فأداهن كملا وقام بهن حق القيام ، لقوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفى } وفي القراءة الأخيرة الضمير لربه ، أي أعطاه جميع ما دعاه . { قال إني جاعلك للناس إماما } استئناف إن أضمرت ناصب إذ كأنه قيل : فماذا قال ربه حين أتمهن فأجيب بذلك . أو بيان لقوله ابتلى فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع قواعده ، والإسلام وإن نصبته يقال فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها ، أو جاعل من جعل الذي له مفعولان ، والإمام اسم لمن يؤتم به وإمامته عامة مؤبدة ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه . { قال ومن ذريتي } عطف على الكاف أي وبعض ذريتي ، كما تقول : وزيدا ، في جواب : سأكرمك ، والذرية نسل الرجل ، فعلية أو فعولة قلبت راؤها الثانية ياء كما في تقضيت . من الذر بمعنى التفريق ، أو فعولة أو فعيلة قلبت همزتها من الذرة بمعنى الخلق . وقرئ ذريتي بالكسر وهي لغة . { قال لا ينال عهدي الظالمين } إجابة إلى ملتمسه ، وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة ، وأنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من الله تعالى وعهد ، والظالم لا يصلح لها ، وإنما ينالها البررة الأتقياء ، منهم . وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة ، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة . وقرئ " الظالمون " والمعنى واحد إذ كل ما نالك فقد نلته .
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }( 124 )
والعامل في { إذ } فعل ، تقديره : واذكر( {[1210]} ) إذ ، { ابتلى } معناه اختبر( {[1211]} ) ، و { إبراهيم } يقال إن تفسيره بالعربية أب رحيم( {[1212]} ) ، وقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة «أبراهام » ، وقدم على الفاعل للاهتمام ، إذ كون الرب مبتلياً معلوم ، فإنما يهتم السامع بمن { ابتلي } ، وكون ضمير المفعول متصلاً بالفاعل موجب تقديم المفعول( {[1213]} ) ، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام .
واختلف أهل التأويل في الكلمات( {[1214]} ) ، فقال ابن عباس : هي ثلاثون سهماً ، هي الإسلام كله لم يتمه أحد كاملاً إلا إبراهيم صلوات الله عليه ، عشرة منها في براءة { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] ، عشرة في الأحزاب { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] ، وعشرة في { سأل سائل }( {[1215]} ) [ المعارج : 1 ] ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : الكلمات عشر خصال خمس منها في الرأس المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وفرق الرأس ، وقيل بدل فرق الراس : إعفاء اللحية ، وخمس في الجسد تقليم الظفر ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاستنجاء بالماء ، والاختتان ، وقال ابن عباس أيضاً : هي عشرة خصال ، ست في البدن وأربع في الحج : الختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، والغسل يوم الجمعة ، والطواف بالبيت ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإفاضة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : هي الخلال الست التي امتحن بها ، الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان ، وقيل بدل الهجرة : الذبح ، وقالت طائفة : هي مناسك الحج خاصة ، وروي أن الله عز وجل أوحى إليه أن تطهر ، فتمضمض ، ثم أن تطهر فاستنشق ، ثم أن تطهر فاستاك ، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه ، ثم أن تطهر ففرق شعره ، ثم أن تطهر فاستنجى ، ثم أن تطهر فحلق عانته ، ثم أن تطهر فنتف إبطه ، ثم أن تطهر فقلم أظفاره ، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ما يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة . ( {[1216]} )
قال القاضي أبو محمد : وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم . ( {[1217]} )
وقال الراوي( {[1218]} ) : فأوحى الله إليه { إني جاعلك للناس إماماً } يأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا أقوى الأقوال في تفسير هذه الآية ، وعلى هذه الأقوال كلها فإبراهيم عليه السلام هو الذي أتم .
وقال مجاهد وغيره : إن الكلمات هي أن الله عز وجل قال لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال إبراهيم : تجعلني للناس إماماً ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : تجعل البيت مثابة ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم وأمناً ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : تجعل هذا البلد آمناً ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : وترزق أهله من الثمرات ، قال الله : نعم . ( {[1219]} )
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم ، وقد طول المفسرون في هذا ، وذكروا أشياء فيها بعد فاختصرتها ، وإنما سميت هذه الخصال كلمات ، لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات ، وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه كتب الله له البراءة من النار ، فذلك قوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفى }( {[1220]} ) [ النجم : 37 ] .
والإمام القدوة ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وهو هنا اسم مفرد ، وقيل في غير هذا الموضع : هو جمع آم وزنه فاعل أصله آمم ، فيجيء مثل قائم وقيام وجائع وجياع ونائم ونيام .
وجعل الله تعالى إبراهيم إماماً لأهل طاعته ، فلذلك أجمعت الأمم على الدعوى فيه( {[1221]} ) ، وأعلم الله ، تعالى أنه كان حنيفاً ، وقول إبراهيم عليه السلام : { ومن ذريتي } ، هو على جهة الدعاء والرغبة إلى الله ، أي ومن ذريتي يا رب فاجعل( {[1222]} ) ، وقيل : هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون( {[1223]} ) ؟ والذرية مأخوذة من ذرا يذرو أو من ذرى يذري أو من ذر يذر أو من ذرأ يذرأ ، وهي أفعال تتقارب معانيها ، وقد طول في تعليلها أبو الفتح وشفى . ( {[1224]} )
وقوله تعالى : { قال لا ينال عهدي } ، أي قال الله ، والعهد فيما قال مجاهد : الإمامة ، وقال السدي : النبوءة ، وقال قتادة : الأمان من عذاب الله ، وقال الربيع والضحاك : العهد الدين : دين الله تعالى .
وقال ابن عباس : معنى الآية لا عهد عليك لظالم أن تطيعه ، ونصب { الظالمين } لأن العهد ينال كما ينال( {[1225]} ) ، وقرأ قتادة وأبو رجاء والأعمش «الظالمون » بالرفع ، وإذا أولنا العهد الدين أو الأمان أو أن لا طاعة لظالم فالظلم في الآية ظلم الكفر ، لأن العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر ، وإذا أولنا العهد النبوءة أو الإمامة في الدين فالظلم ظلم المعاصي فما زاد( {[1226]} ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَإِذِ ابْتَلَى}: وإذ اختبر... وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم اختبارا بفرائض فرضها عليه، وأمْرٍ أمَرَه به، وذلك هو الكلمات التي أوحاهنّ إليه وكلفه العمل بهنّ امتحانا منه له واختبارا.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الكلمات التي ابتلى اللّهُ بها إبراهيمَ نبيّه وخليلَهُ صلوات الله عليه؛
فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما... عن ابن عباس في قوله: {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكلِماتٍ} قال: قال ابن عباس: لم يُبْتَلَ أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، ابتلاه الله بكلمات فأتمهنّ قال: فكتب الله له البراءة، فقال: {وَإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى} قال: عشر منها في الأحزاب، وعشر منها في براءة، وعشر منها في المؤمنين وسأل سائل وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما.
وقال آخرون: هي خصال عشرٌ من سنن الإسلام... عن ابن عباس: {وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قصّ الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء...
وقال بعضهم: بل الكلمات التي ابتلي بهن عشر خلال، بعضهنّ في تطهير الجسد، وبعضهنّ في مناسك الحجّ.
وقال آخرون: بل ذلك: {إني جاعلك للناس إماما} في مناسك الحجّ.
وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحجّ خاصة.
وقال آخرون: هي أمور منهن الختان.
وقال آخرون: بل ذلك الخلال الستّ: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهنّ فصبر عليهنّ.
وقال آخرون: الكلمات التي ابتلى بهنّ إبراهيم ربه: {رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ، رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لكَ وَمِنْ ذُرّيَتِنا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنَا، إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحِيمُ، رَبّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه، وأمره أن يعمل بهنّ وأتمهنّ، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل؛ وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل الكلمات، وجائز أن تكون بعضه، لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتُحن فيما بلغنا بكل ذلك، فعمل به وقام فيه بطاعة الله وأَمْره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من الحجة ولم يصحّ فيه شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته... {فَأتَمّهُنّ}: فأتمّ إبراهيم الكلمات، وإتمامه إياهنّ إكماله إياهنّ بالقيام لله بما أوجب عليه فيهنّ وهو الوفاء الذي قال الله جل ثناؤه:"وَإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى" يعني وفّى بما عهد إليه بالكلمات، فأمره به من فرائضه ومحنه فيها، {فأتَمّهُنّ} أي فأدّاهنّ...
{قالَ إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما}: فقال الله: يا إبراهيم إني مُصَيّرك للناس إماما يؤتمّ به ويقتدي به.
وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم: إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما؛ إني مصيرك تؤمّ مَنْ بَعْدَكَ من أهل الإيمان بي وبرسلي، فتقدمهم أنت، ويتبعون هديك، ويستنّون بسنتك التي تعمل بها بأمري إياك ووحيي إليك.
{قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِي}: قال إبراهِيمُ لما رفع الله منزلته وكرّمه، فأعلمه ما هو صانع به من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره ولمن جاء بعده من ذرّيته وسائر الناس غيرهم يهتدي بهديه ويقتدي بأفعاله وأخلاقه: يا ربّ ومن ذرّيتي فاجعل أئمة يقتدي بهم كالذي جعلتني إماما يؤتمّ به ويتقدى بي، مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها... فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه بقوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ}.
والظاهر من التنزيل يدلّ على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه: {وَمِنْ ذُرّيّتِي} في إثر قول الله جل ثناؤه: {إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما} فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذرّيته لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه لكان مبينا، ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره، اكتفى بالذكر الذي قد مضى من تكريره وإعادته، فقال: {وَمِنْ ذُرّيّتِي} بمعنى: ومن ذرّيتي فاجعل مثل الذي جعلتني به من الإمامة للناس.
{قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ}.
هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير، وهو من الله جل ثناؤه جواب لما توهم في مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة مثله، فأخبر أنه فاعل ذلك إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير مصيّره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده بالتكرمة بالإمامة لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به.
واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرّم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه؛
فقال بعضهم: ذلك العهد هو النبوّة... فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبّوة أهل الظلم والشرك.
وقال آخرون: معنى العهد عهد الإمامة، فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذرّيتك بأسرهم ظالما إماما لعبادي يقتدى به.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه... عن ابن عباس: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانقضه.
وقال آخرون: معنى العهد في هذا الموضع: الأمان...
فتأويل الكلام على معنى قولهم، قال الله: لا ينال أماني أعدائي، وأهل الظلم لعبادي أي لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة.
وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهِرَ خبرٍ عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله الذي هو النبوّة والإمامة لأهل الخير، بمعنى الاقتداء به في الدنيا، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الاَخرة، من وفي لله به في الدنيا، من كان منهم ظالما متعدّيا جائرا عن قصد سبيل الحقّ. فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم أن من ولده من يشرك به، ويجور عن قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباده ...
... وأما نصب الظالمين، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين. وذُكر أنه في قراءة ابن مسعود: {لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمُونَ} بمعنى أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله. وإنما جاز الرفع في الظالمين والنصب، وكذلك في العهد لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء، كما يقال: نالني خيرُ فلان ونلت خَيْرَهُ، فيوجه الفعل مرّة إلى الخير ومرّة إلى نفسه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}... يرجع الابتلاء منه إلى وجهين:
أحدهما أن يخرج مخرج الأمر بالشيء أو النهي عنه، لكن الذي ذكر يظهر بالأمر والنهي فسمي ابتلاء من الله.
والثاني: أن يكون ما قدم علم الله الغيب والشهادة أنه يوجد موجودا، ويكون ما قد علم الله أنه سيكون كائنا، وعلى هذا يخرج قوله: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} [محمد: 31] حتى يعلمه موجودا كما علم أنه يوجد كما قال: {عالم الغيب والشهادة} [الأنعام: 73و...] علم الغيب: علم أنه موجود.. وعلم الشهادة: علم [أنها موجودة] حتى يوجد الذي علم أنه يجاهد منهم مجاهدا، ويصبر منهم صابرا...
{قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [فإن قيل: كيف كان قوله: {لا ينال عهدي الظالمين}؟ جوابا لقوله: {ومن ذريتي}، وكانت الرسالة في ذريته كقوله: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} [الزخرف: 28]،
يحتمل قوله: {ومن ذريتي} أحب أن تكون الرسالة تدوم في ذريته] أبدا حتى لا تكون بين الرسل فترات [قيل]: فأخبر أن في ذريته من [هو] ظالم، فلا ينال الظالم عهده...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}: هي إنّ الله ابتلاه في ماله وولده ونفسه فسلم ماله إلى الضيفان، وولده إلى القربان، ونفسه إلى النيران، وقلبه إلى الرّحمن فاتخذه خليلاً.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
البلاء تحقيق الولاء، فأصدقهم ولاءً أشدُّهم بلاء. ولقد ابتلى الحق -سبحانه- خليلَه عليه السلام بما فرض عليه وشرع له، فقام بشرط وجوبها، ووَفَّى بحكم مقتضاها، فأثنى عليه سبحانه بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] -من التوفية- أي لم يُقَصِّر بوجهٍ البتة. يقال حملَّه أعباء النبوة، وطالبه بأحكام الخُلَّة، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شيء، فقام بتصحيح ذلك مختليًا عن جميع ما سواه، سِرًّا وعَلَنًا...
[و] الإمام مَنْ يُقْتَدى به، وقد حقَّق له هذا حتى خاطب جميع الخلائق إلى يوم القيامة بالاقتداء به فقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي اتبعوا ملة إبراهيم يعني التوحيد، وقال: {وَاتَّخَذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى}. هذا هو تحقيق الإمامة. ورتبة الإمامة أن يَفْهَم عن الحق ثم يُفْهِمَ الخَلق؛ فيكون واسطة بين الحق والخَلْق، يكون بظاهره مع الخَلْق لا يفتر عن تبليغ الرسالة، وبباطنه مشاهدًا للحق، لا يتغير له صفاء الحالة، ويقول للخلْق ما يقوله له الحق...
قوله جلّ ذكره: {وَمِن ذُرِّيَّتِي}. نطق بمقتضى الشفقة عليهم، فطلب لهم ما أُكرِم به. فأخبره أن ذلك ليس باستحقاق نَسَب، أو باستيجاب سبب، وإنما هي أقسام مضت بها أحكام فقال له: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها، فهي لا ادِّخَار لها عن أحد وإن كان كافرًا، ولذلك قال جلّ ذكره: {وَارزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}. فقال الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}.
يعني ليس للدنيا من الخطر ما يمنعها عن الكفار، ولكن عهدي لا يناله إلا مَنْ اخترته مِنْ خواص عبادي. أمَّا الطعام والشراب فغير ممنوع من أحد. أمَّا الإسلام والمحاب فغير مبذول لكل أحد...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وحقيقة الإمام: أن يقصد من فعله ما يقصد، وهو من الأَمِّ: وهو القصد.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى ابْتَلَى مَعْنَاهُ اخْتَبَرَ... [أي] أَمَرَ لِيَعْلَمَ مِن الِامْتِثَالِ أَوْ التَّقْصِيرِ مُشَاهَدَةً مَا عَلِمَ غَيْبًا، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ تَعَلُّقًا وَاحِدًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِكَلِمَاتٍ} هِيَ: جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَيَرْجِعُ تَحْقِيقُهَا إلَى كَلَامِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، لَكِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِهَا عَن الْوَظَائِفِ الَّتِي كَلَّفَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُهَا بِالْكَلَامِ سُمِّيَتْ بِهِ، كَمَا يُسَمَّى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلِمَةً؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ كُنْ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ أَحَدُ قِسْمِي الْمَجَازِ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ، فَأَكْمَلَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا قَامَ أَحَدٌ بِوَظَائِفِ الدِّينِ مِثْلُهُ يَعْنِي -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- قَبْلَهُ؛ فَقَدْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُصُوصًا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّهَا الْفِطْرَةُ الَّتِي أَوْعَزَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا إلَيْهِ، وَرَتَّبَهَا عَلَيْهِ.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استقصى في شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل ثم في شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم وختم هذا الفصل بما بدأ به وهو قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي} إلى قوله: {ولا هم ينصرون} شرع سبحانه ههنا في نوع آخر من البيان وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكيفية أحواله، والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام شخص يعترف بفضله جميع الطوائف والملل، فالمشركين كانوا معترفين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخادمي بيته. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا أيضا مقرين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده، فحكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام أمورا توجب على المشركين وعلى اليهود والنصارى قبول قول محمد صلى الله عليه وسلم والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه، وبيانه من وجوه:...
(أحدها): أنه تعالى لما أمره ببعض التكاليف فلما وفى بها وخرج عن عهدتها لا جرم نال النبوة والإمامة وهذا مما ينبه اليهود والنصارى والمشركين على أن الخير لا يحصل في الدنيا والآخرة إلا بترك التمرد والعناد والانقياد لحكم الله تعالى وتكاليفه.
(وثانيها): أنه تعالى حكى عنه أنه طلب الإمامة لأولاده فقال الله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} فدل ذلك على أن منصب الإمامة والرياسة في الدين لا يصل إلى الظالمين، فهؤلاء متى أرادوا وجدان هذا المنصب وجب عليهم ترك اللجاج والتعصب للباطل.
(وثالثها): أن الحج من خصائص دين محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله تعالى ذلك عن إبراهيم ليكون ذلك كالحجة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك.
(ورابعها): أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود والنصارى، فبين الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ووجوب الاقتداء به فكان ذلك مما يوجب زوال ذلك الغضب عن قلوبهم.
(وخامسها): أن من المفسرين من فسر الكلمات التي ابتلى الله تعالى إبراهيم بها بأمور يرجع حاصلها إلى تنظيف البدن وذلك مما يوجب على المشركين اختيار هذه الطريقة لأنهم كانوا معترفين بفضل إبراهيم عليه السلام ويوجب عليهم ترك ما كانوا عليه من التلطخ بالدماء وترك النظافة.
ومن المفسرين من فسر تلك الكلمات بما أن إبراهيم عليه السلام صبر على ما ابتلى به في دين الله تعالى وهو النظر في الكواكب والقمر والشمس ومناظرة عبدة الأوثان، ثم الانقياد لأحكام الله تعالى في ذبح الولد والإلقاء في النار، وهذا يوجب على هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين الذين يعترفون بفضله أن يتشبهوا به في ذلك ويسلكوا طريقته في ترك الحسد والحمية وكراهة الانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهذه الوجوه التي لأجلها ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام...
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أمورا يرجع بعضها إلى الأمور الشاقة التي كلفه بها، وبعضها يرجع إلى التشريفات العظيمة التي خصه الله بها...
وهذه الآية دالة على تكليف حصل بعده تشريف...
أما التكليف فقوله تعالى: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}... [وذلك] أنه تعالى وصف تكليفه إياه ببلوى توسعا لأن مثل هذا يكون منا على جهة البلوى والتجربة والمحنة من حيث لا يعرف ما يكون ممن يأمره، فلما كثر ذلك في العرف بيننا جاز أن يصف الله تعالى أمره ونهيه بذلك مجازا لأنه تعالى لا يجوز عليه الاختبار والامتحان لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد... {فأتمهن} فقام بهن حق القيام، وأداهن أحسن التأدية، من غير تفريط وتوان...
[وأما التشريف فقوله تعالى]: {إني جاعلك للناس إماما} فالإمام: اسم من يؤتم به، أي يأتمون بك في دينك...
قال أهل التحقيق: المراد من الإمام ههنا النبي... وثبت أن الأنبياء في أعلى مراتب الإمامة وجب حمل اللفظ ههنا عليه، لأن الله تعالى ذكر لفظ الإمام ههنا في معرض الامتنان، فلابد وأن تكون تلك النعمة من أعظم النعم ليحسن نسبة الامتنان فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة...
[ثم إن] الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماما للناس حقق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام الساعة، فإن أهل الأديان على شدة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه السلام، وقال الله تعالى في كتابه: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} وقال: {من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} وقال في آخر سورة الحج: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} وجميع أمة محمد عليه الصلاة والسلام يقولون في آخر الصلاة وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
[و] قوله: {إني جاعلك للناس إماما} يدل على أنه عليه السلام كان معصوما عن جميع الذنوب لأن الإمام هو الذي يؤتم به ويقتدى، فلو صدرت المعصية منه لوجب علينا الاقتداء به في ذلك، فيلزم أن يجب علينا فعل المعصية وذلك محال لأن كونه معصية عبارة عن كونه ممنوعا من فعله وكونه واجبا عبارة عن كونه ممنوعا من تركه والجميع محال...
[ف] العهد المأخوذ عليك ليس إلا عهد الخدمة والعبودية، والعهد الذي التزمه الله تعالى من جهته ليس إلا عهد الرحمة والربوبية، ثم إن العاقل إذا تأمل في حال هذه المعاهدة لم يجد من نفسه إلا نقض هذا العهد، ومن ربه إلا الوفاء بالعهد... عهد الربوبية يقتضي إعطاء التوفيق والهداية وعهد العبودية منك يقتضي الجد والاجتهاد في العمل، ثم إنه وفى بعهد الربوبية فإنه ما ترك ذرة من الذرات إلا وجعلها هادية لك إلى سبيل الحق... ثم إنه قال في هذه الآية: {لا ينال عهدي الظالمين} وهذا تخويف شديد...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{بِكَلِمَاتٍ} أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم، عليها السلام،: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]. وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ]} [الأنعام: 115] أي: كلماته الشرعية. وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} أي: قام بهن. قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} أي: جزاء على ما فَعَل، كما قام بالأوامر وتَرَكَ الزواجر، جعله الله للناس قدوة وإمامًا يقتدى به، ويحتذى حذوه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: لما وصل الحق تعالى بالدعوة العامة الأولى في قوله تعالى: {يا أيها الناس} ذكر أمر آدم وافتتاح استخلافه ليقع بذلك جمع الناس كافة في طرفين في اجتماعهم في أب واحد ولدين واحد نظم تعالى بذلك وصل خطاب أهل الكتاب بذكر إبراهيم، ليقع بذلك اجتماعهم أيضاً في أب واحد وملة واحدة اختصاصاً بتبعية الإمامة الإبراهيمية من عموم تبعية الخلافة الآدمية تنزيلاً للكتاب وترفيعاً للخلق إلى علو اختصاص الحق، فكما ذكر تعالى في الابتداء تذكيراً معطوفاً على أمور تجاوزها الإفصاح من أمر آدم عطف أيضاً التذكير بابتداء أمر إبراهيم عليه السلام على أمور تجاوزها الإفصاح هي أخص من متجاوز الأول كما أن إفصاحها أخص من إفصاحها وأعلى رتبة من حيث إن الخلق والأمر مبدوء من حد لم يزل ولا يزال يتكامل إلى غاية ليس وراءها مرمى فقال تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم} انتهى.
و المعنى أنه عامله بالأمر بأمور شاقة معاملة المختبر الممتحن، وقال: {ربه} أي المحسن إليه إشعاراً بأن تكليف العباد هو غاية الإحسان إليهم وفي ابتداء قصته بقوله: {بكلمات فأتمهن} بيان لأن أسنى أحوال العباد الإذعان والتسليم لمن قامت الأدلة على صدقه و المبادرة لأمره دون اعتراض ولا توقف ولا بحث عن علة، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت المدعين لاتباعه من بني إسرائيل حيث اعترضوا في ذبح البقرة وارتكبوا غاية التعنت مع ما في ذبحها من وجوه الحكم بعد أن أساؤوا الأدب على نبيهم في ذلك وفي غيره في أول أمرهم وأثنائه وآخره فأورثهم ذلك نكالاً وبعداً، فظهر أن الصراط المستقيم حال إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم المنعم عليهم؛ والظاهر عطف {إذ} على {نعمتي} في قوله {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 122] أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم فأتم ما ابتلاه به فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله في إيفاء العهد والثبات على الوعد لأجازيكم على ذلك جزائي للمحسنين، والإتمام التوفية لما له صورة تلتئم من أجزاء وآحاد -قاله الحرالي...
فكأنه قيل: فما جوزي على شكره بالإتمام قبل؟ {قال} له ربه، ويجوز أن يكون "قال "بياناً لابتلى {إني جاعلك للناس} أي كافة {إماماً} كما كانت خلافة أبيه آدم لبنيه كافة، والإمام ما يتبع هداية إلى سداد- قاله الحرالي.
واستأنف قوله: {قال} أي إبراهيم {ومن} أي واجعل من {ذريتي} أئمة {قال لا ينال} أي قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك لكن لا ينال {عهدي} الذي عهدته إليك بالإمامة {الظالمين} منهم، لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين؛ وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه لا سيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته فضربت عليهم الذلة وما معها ولا يجزي أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات} شروع في تحقيق أن هُدى الله هو ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد والإسلام الذي هو ملةُ إبراهيمَ عليه السلام، وأن ما عليه أهلُ الكتابين أهواءٌ زائغةٌ وأن ما يدّعونه من أنهم على ملة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام فريةٌ بلا مريةٍ ببيان ما صدر عن إبراهيم وأبنائه الأنبياءِ عليهم السلام من الأقاويل والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيدِ والإسلام وبُطلان الشركِ وبصحة نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وبكونه ذلك النبيِّ الذي استدعاه إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما الصلاة والسلام بقولهما: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً منْهُمْ} [البقرة، الآية: 129]... فإذْ منصوب على المفعولية بمضمر مقدرٍ خوطبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ أيْ واذكر لهم وقت ابتلائِه عليه السلام ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعةِ عن الشرك فيقبلوا الحقَّ ويتركوا ما هم فيه من الباطل...
والتعرُّضُ لعنوان الربوبية تشريفٌ له عليه السلام وإيذانٌ بأن ذلك الابتلاء تربيةٌ له وترشيحٌ لأمر خطير، والمعنى عاملَه سبحانه معاملةَ المختبِرَ حيث كلّفه أوامرَ ونواهِيَ تُظهِرُ بحسن قيامِه بحقوقها قُدرتُه على الخروج عن عُهدة الإمامةِ العظمى وتحمّلِ أعباءِ الرسالة، وهذه المقالةُ وتذكيرُها الناسَ لإرشادهم إلى طريق إتقانِ الأمور ببنائها على التجربة وللإيذان بأن بِعثةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أيضاً مبنيةٌ على تلك القاعدة الرصينة واقعةٌ بعد ظهور استحقاقِه عليه السلام للنبوة العامة، كيف لا وهي التي أُجيب بها دعوةُ إبراهيمَ عليه السلام كما سيأتي...
وقولُه عز وجل: {قَالَ} على تقدير انتصاب إذْ بمضمر جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الكلام فإن الابتلاء تمهيدٌ لأمر معظَّم وظهورُ فضيلة المبتلى من دواعي الإحسان إليه... والواو في المعنى داخلةٌ على قال أي وقال إذ ابتلى الخ...
{وَمِن ذُرّيَتِي} عطْفٌ على الكاف و (من) تبعيضيةٌ متعلقة بجاعل أي وجاعل بعضَ ذريتي... أو بمحذوف أي واجعل فريقاً من ذريتي إماماً، وتخصيصُ البعض بذلك لبَداهة استحالة إمامةِ الكلِّ وإن كانوا على الحق...
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال ينساقُ إليه الذهنُ كما سبق {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} ليس هذا رداً لدعوتِه عليهِ السلامُ بلْ إجابةً خفيةً لها وعِدَةً إجماليةً منه تعالى بتشريف بعضِ ذريتِه عليه السلام بنيل عهدِ الإمامةِ حسبما وقع في استدعائه عليه الصلاة والسلام من غير تعيين لهم بوصفٍ مميزٍ لهم عن جميع مَنْ عداهم فإن التنصيصَ على حرمانِ الظالمين منه بمعزلٍ من ذلك التمييزِ إذ ليس معناه أنه ينالُ كلَّ من ليس بظالم منهم ضرورةَ استحالةِ ذلك كما أشير إليه ولعل إيثارَ هذه الطريقةِ على تعيين الجامعين لمبادئ الإمامة من ذريته إجمالاً أو تفصيلاً وإرسالَ الباقين لئلا ينتظمَ المقتدون بالأئمةِ من الأمةِ في سلك المحرومين.
وفي تفصيل كل فِرقةٍ من الإطناب ما لا يخفى مع ما في هذه الطريقة من تخييبِ الكفرةِ الذين كانوا يتمنَّوْن النبوة، وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من نيلها.
[و] إنما أوثِرَ النيلُ على الجعلِ إيماءً إلى أن إمامة الأنبياءِ عليهم السلام من ذريته عليه السلام كإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ ويوسفَ وموسى وهارونَ وداودَ وسليمانَ وأيوبَ ويونسَ وزكريا ويحيى وعيسى وسيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامة إبراهيمَ عليه السلام تنال كلا منهم في وقت قدّره الله عز وجل...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كان الكلام في أول السورة إلى هذه الآية بأسلوب واحد في سياق واحد: ذكر حقية الكتاب وكونه من نصوع البرهان بحيث يدفع ريب المرتابين أن يدنو منه أو يتسامى إليه، ثم ذكر أصناف الناس في أمر الإيمان به وعدم الإيمان به وأطال الحجاج والمناظرة في خطاب أهل الكتاب خاصة لما تقدم من أنهم كانوا موضع الرجاء في المبادرة إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به لأنه وافقهم في أصل الدين وصدق أنبياءهم، وكتبهم وذكرهم بما نسوا، وعلمهم ما جهلوا، وأصلح لهم ما حرفوا وزادهم معرفة بأسرار الدين وحكمته، كما أنهم كانوا في موضع الشبهة عند المشركين والمنافقين بما كفروا، وفي موضع الحجة عليهم بما آمنوا، قال تعالى في الاحتجاج على المشركين {26: 197 أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} وقد جاءت محاجة أهل الكتاب على طريقة الإطناب لما كانوا عليه من جمود القرائح والبعد عن البلاغة كما حكى عنهم أنهم قالوا "قلوبنا غلف "ومن فساد الأذهان بالتعود على التأويل والتحريف، فكان يبدأ لهم المعنى ويعاد، ويساق إليهم القول بطرق بينة، ويؤكد بضروب من التأكيد، تبعد به عن قبول التأويل والتحويل، وكان مما حجوا به التذكير بحال سلفهم الأنبياء وبحالهم معهم من عصيانهم وإيذائهم بل قتلهم في عهدهم، والغرور بانتظار شفاعتهم والاستغناء بها من بعدهم...
ثم إن الكلام في هذه الآية "وإذ ابتلى إبراهيم ربه" وما بعدها موجه إلى مشركي العرب، ووجه الاتصال بينها وبين ما قبلها أن ذلك كان يتضمن الاحتجاج على أهل الكتاب بسلفهم الصالح، وهذا يتضمن الاحتجاج على مشركي قريش وأمثالهم بسلفهم الصالح، فإنهم ينتسبون إلى إسماعيل وإبراهيم ويفتخرون بأنهما بنيا لهم الكعبة معبدهم الأكبر، وكانوا في عهد التنزيل قد اختلطوا بالأمم المجاورة التي تعرف لهم هذا النسب...
وإنك لترى الكلام هنا جاريا على طريقة الإيجاز والإشارة لما كان عليه العرب من حدة الفكر وصفاء الأذهان، ودقة الفهم ورقة الوجدان، على أن هذه الآيات تصلح حجة على الفريقين لأن أهل الكتاب كافة يجلون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويعتقدون نبوته، والإسرائيليون منهم ينتسبون إليه، ولكن الخطاب في قصته موجه إلى العرب أولا وبالذات، فتلك حجج القرآن على أهل الكتاب الذي جاء لإصلاح دينهم وترقيتهم فيه ودين الله واحد في جوهره، وهذه حججه على أهل الشرك والوثنية الخاصة التي جاء لمحوها من الأرض وإثبات نقيضها وهو التوحيد والتنزيه وإثبات البعث والنشور، وقد أقام الحجج على هذين الأصلين من الطرق العقلية والكونية في مواضع كثيرة ولا سيما في السور المكية...
وقال شيخنا في الدرس: جعل التكليف بالكلمات لأنها تدل عليها وتعرف بها عادة ولم يذكر الكلمات ما هي ولا الإتمام كيف كان، لأن العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال وأن المقام مقام إثبات أن الله تعالى عامل إبراهيم معاملة المبتلى أي المختبر له لتظهر حقيقة حاله ويترتب عليها ما هو أثر لها، فظهر بهذا الابتلاء والاختبار فضله بإتمامه ما كلفه الله تعالى إياه وإتيانه به على وجه الكمال. هذا هو المتبادر...
قال شيخنا: ولم يقل: فقال إني جاعلك، للإشعار بأن هذه الإمامة بمحض فضل الله تعالى واصطفائه لا بسبب إتمام الكلمات، فإن الإمامة هنا عبارة عن الرسالة وهي لا تنال بكسب الكاسب. وليس في الكلام دليل على أن الابتلاء كان قبل النبوة. وأما فائدة الابتلاء فهي تعريف إبراهيم عليه السلام بنفسه وأنه جدير بما اختصه الله به، وتقوية له على القيام بما يوجه إليه وقد تحققت إمامته للناس بدعوته إياهم إلى التوحيد الخالص – وكانت الوثنية قد عمتهم وأحاطت بهم – فقام على عهده بالحنيفية وهي الإيمان بتوحيد الله والبراءة من الشرك وإثبات الرسالة، وتسلسل ذلك في ذريته خاصة فلم ينقطع منها دين التوحيد، ولذلك وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم...
وماذا قال إبراهيم لما بشره الله تعالى بجعله إماما للناس {قال ومن ذريتي} أي قال: واجعل من ذريتي أئمة للناس، وهو إيجاز في الحكاية عنه لا يعهد مثله إلا في القرآن. وقد جرى إبراهيم صلى الله عليه وسلم على سنة الفطرة في دعائه هذا فإن الإنسان لما يعلم من أن بقاء ولده بقاء له يحب أن تكون ذريته على أحسن حال يكون هو عليها، ليكون له حظ من البقاء جسدا وروحا.
ومن دعاء إبراهيم الذي حكاه الله عنه في السورة المسماة باسمه {14: 40 رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} وقد راعى الأدب في طلبه، فلم يطلب الإمامة لجميع ذريته بل لبعضها، لأنه الممكن وفي هذا مراعاة لسنن الفطرة أيضا. وذلك من شروط الدعاء وآدابه فمن خالف في دعائه سنن الله في خليقته أو في شريعته فهو غير جدير بالإجابة، بل هو سيء الأدب مع الله تعالى، لأنه يدعوه لأن يبطل لأجله سنته التي لا تتبدل ولا تتحول أو ينسخ شريعته بعد ختم النبوة وإتمام الدين...
وبماذا أجاب الله إبراهيم حين دعاه هذا الدعاء؟ {قال لا ينال عهدي الظالمين} أي إنني أعطيك ما طلبت وسأجعل من ذريتك أئمة للناس ولكن عهدي بالإمامة لا ينال الظالمين. لأنهم ليسوا بأهل لأن يقتدي بهم، ففي العبارة من الإيجاز ما يناسب ما قبلها وإنما اكتفى في الجواب بذكر المانع من منصب الإمامة مطلقا وهو الظلم لتنفير ذرية إبراهيم من الظلم وتبغيضه إليهم ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته، ويربوهم على التباعد عنه لكيلا يقعوا فيه فيحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها، ولتنفير سائر الناس من الظالمين وترغيبهم عن الاقتداء بهم، فإن الناس قد اعتادوا الاقتداء بالرؤساء والملوك الظالمين لأنفسهم ولغيرهم بالخروج عن الشريعة إلا ما يوافق أهواءهم، ويحرفون أو يؤولون الأحكام لتطابق شهواتهم، وقد درجوا على ذلك في كل عصر ما عدا عصر النبوة وما قاربه، كعصر خلافة النبوة كما يعلم من شهادة التاريخ التي لا ترد...
(قال الأستاذ): الإمامة الصحيحة والأسوة الحسنة هي فيما تكون عليه الأرواح من الصفات الفاضلة والملكات العلمية التي تملك على صاحبها طرق العمل فتسوقه إلى خيرها وتزعه عن شرها، ولاحظ للظالمين في شيء منها، وإنما هم أصحاب الرسم وأهل الخداع والانخداع بالظاهر، ولذلك يصفون أعمالهم وأحكامهم بالرسمية، وقد جعل الله إبراهيم إماما للناس وذكر لنا في كتابه كثيرا من صفاته الجليلة كقوله تعالى {16: 119 إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا} الآيات وقوله {11: 74 إن إبراهيم لحليم أواه منيب} ولم يذكر لنا شيئا من زيه وصفة ثيابه، ولا وصف أنواع طعامه وشرابه، بل أرشدنا إلى أن دعوته الصالحة لا يدخل فيها ولا ينتفع بها أحد من ذريته إلا من اجتنب الظلم لنفسه وللناس...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى، عن عبده وخليله، إبراهيم عليه السلام، المتفق على إمامته وجلالته، الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه، بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات، أي: بأوامر ونواهي، كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده، ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء، والامتحان من الصادق، الذي ترتفع درجته، ويزيد قدره، ويزكو عمله، ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام، الخليل عليه السلام... فأتم ما ابتلاه الله به، وأكمله ووفاه، فشكر الله له ذلك، ولم يزل الله شكورا فقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} أي: يقتدون بك في الهدى، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم، والأجر الجزيل، والتعظيم من كل أحد...
وهذه -لعمر الله- أفضل درجة، تنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام، شمر إليه العاملون، وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم، من كل صديق متبع لهم، داع إلى الله وإلى سبيله. فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته، لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضا من إمامته، ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية...
فأجابه الرحيم اللطيف، وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: لا ينال الإمامة في الدين، من ظلم نفسه وضرها، وحط قدرها، لمنافاة الظلم لهذا المقام، فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة، والشمائل السديدة، والمحبة التامة، والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟ ودل مفهوم الآية، أن غير الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في القطاعات التي مضت من هذه السورة كان الجدل مع أهل الكتاب، دائرا كله حول سيرة بني إسرائيل، ومواقفهم من أنبيائهم وشرائعهم، ومن مواثيقهم وعهودهم، ابتداء من عهد موسى -عليه السلام- إلى عهد محمد [ص] أكثره عن اليهود، وأقله عن النصارى، مع إشارات إلى المشركين، عند السمات التي يلتقون فيها مع أهل الكتاب، أو يلتقي معهم فيها أهل الكتاب. فالآن يرجع السياق إلى مرحلة تاريخية أسبق من عهد موسى.. يرجع إلى إبراهيم.. وقصة إبراهيم -على النحو الذي تساق به في موضعها هذا- تؤدي دورها في السياق، كما أنها تؤدي دورا هاما فيما شجر بين اليهود والجماعة المسلمة في المدينة من نزاع حاد متشعب الأطراف. إن أهل الكتاب ليرجعون بأصولهم إلى إبراهيم عن طريق إسحاق -عليهما السلام- ويعتزون بنسبتهم إليه، وبوعد الله له ولذريته بالنمو والبركة، وعهده معه ومع ذريته من بعده. ومن ثم يحتكرون لأنفسهم الهدى والقوامة على الدين، كما يحتكرون لأنفسهم الجنة أيا كان ما يعملون! وإن قريشا لترجع بأصولها كذلك إلى إبراهيم عن طريق إسماعيل -عليهما السلام- وتعتز بنسبتها إليه؛ وتستمد منها القوامة على البيت، وعمارة المسجد الحرام؛ وتستمد كذلك سلطانها الديني على العرب، وفضلها وشرفها ومكانتها. وقد وصل السياق فيما مضى إلى الحديث عن دعاوى اليهود والنصارى العريضة في الجنة: (وقالوا:لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى).. وعن محاولتهم أن يجعلوا المسلمين يهودا أو نصارى.. ليهتدوا.. (وقالوا:كونوا هودا أو نصارى تهتدوا).. كذلك وصل إلى الحديث عن الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها...
فالأن يجيء الحديث عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق؛ والحديث عن البيت الحرام وبنائه وعمارته وشعائره.. في جوه المناسب، لتقرير الحقائق الخالصة في ادعاءات اليهود والنصارى والمشركين جميعا حول هذه النسب وهذه الصلات. ولتقرير قضية القبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون.. كذلك تجيء المناسبة لتقرير حقيقة دين إبراهيم -وهي التوحيد الخالص- وبعد ما بينها وبين العقائد المشوهة المنحرفة التي عليها أهل الكتاب والمشركون سواء؛ وقرب ما بين عقيدة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب -وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه- وعقيدة الجماعة المسلمة بآخر دين. ولتقرير وحدة دين الله، واطراده على أيدي رسله جميعا، ونفي فكرة احتكاره في أيدي أمة أو جنس. وبيان أن العقيدة تراث القلب المؤمن لا تراث العصبية العمياء. وأن وراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس ولكن على قرابة الإيمان والعقيدة. فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أي جيل ومن أي قبيل فهو أحق بها من أبناء الصلب واقرباء العصب! فالدين دين الله. وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب ولا صهر!!! هذه الحقائق التي تمثل شطرا من الخطوط الأساسية في التصور الإسلامي، يجلوها القرآن الكريم هنا في نسق من الأداء عجيب، وفي عرض من الترتيب والتعبير بديع.. يسير بنا خطوة خطوة من لدن إبراهيم -عليه السلام- منذ أن ابتلاه ربه واختبره فاستحق اختياره واصطفاءه، وتنصيبه للناس إماما.. إلى أن نشأت الأمة المسلمة المؤمنة برسالة محمد [ص] استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام؛ فاستحقت وراثة هذه الأمانة دون ذرية إبراهيم جميعا، بذلك السبب الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة. سبب الإيمان بالرسالة، وحسن القيام عليها، والاستقامة على تصورها الصحيح. وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق:أن الإسلام -بمعنى إسلام الوجه لله وحده- كان هو الرسالة الأولى، وكان هو الرسالة الأخيرة.. هكذا اعتقد إبراهيم، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى.. ثم آلت أخيرا إلى ورثة إبراهيم من المسلمين.. فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها، ووريث عهودها وبشاراتها. ومن فسق عنها، ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم، فقد فسق عن عهد الله، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشاراته. عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم، لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته، وهم ورثته وخلفاؤه! لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة.. وعندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته، لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده بانحرافهم عن عقيدته.. ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون. فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم.. كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب؛ حافل بالإشارات الموحية، والوقفات العميقة الدلالة، والإيضاح القوي التأثير. فنأخذ في استعراض هذا النسق العالي في ظل هذا البيان المنير:
وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم. مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل. والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم! عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى. أو تلك الثقة: (قال: إني جاعلك للناس إماما).. إماما يتخذونه قدوة، ويقودهم إلى الله، ويقدمهم إلى الخير، ويكونون له تبعا، وتكون له فيهم قيادة. عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر: الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد. ذلك الشعور الفطري العميق، الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة وتمضي في طريقها المرسوم، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق، وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق.. ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله؛ وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى. وعلى أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث، تلبية لتلك الفطرة، وتنشيطا لها لتعمل، ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد. وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها؛ وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة. وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى. وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة. ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان، وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق، وفكرة عن تكوينها أدق، وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل، أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح: (قال: ومن ذريتي؟).. وجاءه الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه، يقرر القاعدة الكبرى التي أسلفنا.. إن الإمامة لمن يستحقونها بالعمل والشعور، وبالصلاح والإيمان، وليست وراثة أصلاب وأنساب. فالقربى ليست وشيجة لحم ودم، إنما هي وشيجة دين وعقيدة. ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم إن هي إلا دعوى الجاهلية، التي تصطدم اصطداما أساسيا بالتصور الإيماني الصحيح: (قال: لا ينال عهدي الظالمين) ...
والظلم أنواع وألوان: ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي.. والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة: امامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة الصلاة.. وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة. فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها. ومن ظلم -أي لون من الظلم- فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها؛ بكل معنى من معانيها. وهذا الذي قيل لإبراهيم -عليه السلام- وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع فيتنحية اليهود عن القيادة والإمامة، بما ظلموا، وبما فسقوا، وبما عتوا عن أمر الله، وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم.. وهذا الذي قيل لإبراهيم -عليه السلام –
وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم. بما ظلموا، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم.. ودعواهم الإسلام، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله. إن التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل. ولا يعترف بقربى ولا رحم إذا أنبتت وشيجة العقيدة والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل.. وهو يفصل بين جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته، بل يفصل بين الوالد والولد، والزوج والزوج إذا انقطع بينهما حبل العقيدة. فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر. ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة. والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة.. إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا.. إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة. وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين.. إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم.. وهذا هو التصور الإيماني، الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني، في كتاب الله الكريم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعاً له، لأن العرب أشد اختصاصاً بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه، ومنتمين قديماً للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين. فحقيق أن نجعل قوله {وإذ ابتلى} عطفاً على قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] كما دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من كفر المشركين بالخالق في قوله: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} [البقرة: 28]، عقبت تلك التذكرة بإنذار من يكفر بآيات الله من ذرية آدم بقوله: {فإما يأتينكم مني هدى} [البقرة: 38] الآية، ثم خص من بين ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عُهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقاً لما معهم، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم. فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم... ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك، ثم طوي بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} [البقرة: 133] ليفضي إلى قوله: {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا} [البقرة: 135] فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء منها وكذلك اليهود والنصارى.
وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم وإبراهيم، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم. فتعين أن تقدير الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات...
وفي هذه الآية مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام، لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيهاً على مزية هذا الدين...
والابتلاء افتعال من البلاء، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار... وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمناً انتظار فعله أو تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه بأوامر ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به، وليس في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إِشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف، ولك أن تجعله استعارة تمثيلية، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة، وهذا يدل على أن إبراهيم أوحى إليه بنبوءة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل ما أمر به أوحى إليه بالرسالة وهي في قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} فتكون جملة {إني جاعلك للناس إماماً} بدل بعض من جملة {وإذ ابتلى}، ويجوز أن يكون الابتلاء هو الوحي بالرسالة ويكون قوله: {إني جاعلك للناس إماماً} تفسيراً لابتلى...
وتقديمُ المفعول وهو لفظ (إبراهيم) لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز فلذلك لم يقل وإذ ابتلى اللَّهُ إبراهيم...
وقوله: {فأتمهن} جيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة العزم. والإتمام في الأصل الإتيان بنهاية الفعل أو إكمال آخر أجزاء المصنوع...
وتعدية فعل أَتم إلى ضمير (كلمات) مجاز عقلي، وهو من تعليق الفعل بحاوي المفعول لأنه كالمكان له وفي معنى الإتمام قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفَّى}
[النجم: 37]، وقوله: {قد صدقت الرؤيا} [الصافات: 105]، فالإفعال هنا بمعنى إيقاع الفعل على الوجه الأتم وليس المراد بالهمز التصيير أي صيرها تامة بعد أن كانت ناقصة إذ ليس المراد أنه فعل بعضها ثم أتى بالبعض الآخر، فدل قوله: {فأتمهن} مع إيجازه على الامتثال وإتقانِه والفورِ فيه. وهذه الجملة هي المقصود من جزء القصة فيكون عطفها للدلالة على أنه ابتُلي فامتثَل كقولك دعوت فلاناً فأجاب.
وجملة {قال إني جاعلك للناس إماماً} مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما اقتضاه قوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} من تعظيم الخبر والتنويه به، لما يقتضيه ظرف (إذْ) من الإشارة إلى قصة من الأخبار التاريخية العظيمة فيترقب السامع ما يترتب على اقتصاصها، ويجوز أن يكون الفصل على طريقة المقاولة لأن هذا القول مجاوبة لما دل عليه قوله: {ابتلى}...
والإمام مشتق من الأَم بفتح الهمزة وهو القصد وهو وزن فِعَال من صيغ الآلة سماعاً كالعِمَاد... والرداء، فأصله ما يحصل به الأَم أي القصد. ولما كان الدال على الطريق يقتدي به الساير دل الإمام على القدوة والهادي... والمراد بالإمام هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة والرسول أكمل أفراد هذا النوع. وإنما عدل عن التعبير برسولاً إلى {إماماً} ليكون ذلك دالاً على أن رسالته تنفع الأمة المرسَل إليها بطريق التبليغ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء، فإن إبراهيم عليه السلام رحل إلى آفاق كثيرة فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى الشام والحجاز ومصر، وكان في جميع منازله محل التبجيل ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء.
وقد قيل إن دين بَرْهَمَا المتَّبَع في الهند أصلُه منسوب إلى اسم إبراهم عليه السلام مع تحريف أدخل على ذلك الدين كما أدخل التحريف على الحنيفية.
وليتأتَّى الإيجاز في حكاية قول إبراهيم الآتي {ومن ذريتي}، فيكون قد سأل أن يكون في ذريته الإمامةُ بأنواعها من رسالةٍ ومُلك وقدوة على حسب التهيُّؤ فيهم، وأقل أنواع الإمامة كونُ الرجل الكاملِ قدوةً لبنيه وأهل بيته وتلاميذه...
و {ينال} مضارع نال نيلاً بالياء إذا أصاب شيئاً والتحق به أي لا يصيب عهدي الظالمين أي لا يشملهم، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد. وسمي وعد الله عهداً لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك فصار وعده عهداً ولذلك سماه النبيء عهداً في قوله "أَنشُدك عهدك ووعدك"، أي لا ينال وعدي بإجابة دعوتك الظالمين منهم، ولا يحسن أن يفسر العهد هنا بغير هذا وإن كان في مواقع من القرآن أريد به غيره...
ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهداً بأنه مع ذريته ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين. والمراد بالظالمين ابتداء المشركون أي الذين ظلموا أنفسهم إذ أشركوا بالله قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] والظلم يشمل أيضاً عمل المعاصي الكبائر كما وقع في قوله تعالى: {ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} [الصافات: 113] وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45] فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة وأعلاها الشرك بالله تعالى...
وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة لاتصافهم بأنواع من الظلم كالشرك وتحريف الكتاب وتأويله على حسب شهواتهم والانهماك في المعاصي حتى إذا عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم. وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله فيفهم من العلة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم العهد...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.. يفهم من هذه الآية أن اللَّه علم أن من ذريّة إبراهيم ظالمين. وقد صرح تعالى في مواضع أُخر بأنّ منهم ظالمًا وغير ظالم. كقوله: {وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ 113}، وقوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً في عَقِبِهِ} الآية...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية "أب الأنبياء وخليل الرحمن "كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان. ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله {يا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاَماً عَلَى إبرَاهِيمَ}، بل يتناول ملة إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس. وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
* الحقيقة الأولى: إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} -{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ
* الحقيقة الثانية: إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَالذِي أوحَيناَ إلَيكَ ومَا وَصَّيناَ بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ مَا تَدعُوهُمُ إليهِ}
* الحقيقة الثالثة: إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)} قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
* الحقيقة الرابعة: إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِّلَّةِ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُم المُسلِمينَ مِن قَبلُ وفي هَذاَ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}.
* الحقيقة الخامسة: إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس {وَإذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً، واتَّخَذُوا مِن مَّقَام إبرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَعَهِدنَا إلَى إبراهِيمَ وإسمَاعِيلَ أن طَهِّرا بَيتِي لِلطَائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}- {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدَىً لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، مَّقَامُ إبرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَن استطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً}.
* الحقيقة السادسة: إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا. وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}. {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}. -{فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكينَ}.
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة... والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام. فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى: {وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبُّهُ يِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}. أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر: {إِنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}، {وَإِبرَاهِيمَ الذِي وَفَّى}، {وَاتَّخّذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلاً}.
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل قَالَ: {وَمِن ذُرِّيَّتِي}. فأجابه الحق سبحانه وتعالى: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ (124)}. وفي هذا المعنى قوله تعالى: {إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم}. {فَإذاَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ}. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)...
يأتي الحق سبحانه وتعالى إلى قصة إبراهيم عليه السلام.. ليصفي الجدل والتشكيك الذي أحدثه اليهود عند تغيير القبلة.. واتجاه المسلمين إلى الكعبة المشرفة بدلا من بيت المقدس.. كذلك الجدل الذي أثاره اليهود بأنهم شعب الله المختار وأنه لا يأتي نبي إلا منهم. يريد الله تبارك وتعالى أن يبين صلة العرب بإبراهيم وصلتهم بالبيت.. فيقول الحق جل جلاله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه}.. ومعناها اذكر إذا ابتلى الله إبراهيم.. وإذ هنا ظرف وهناك فرق بينها وبين إذا الشرطية في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح "1 "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا "2 "} (سورة النصر).. وقوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}... [ف] معناها اذكر وقت أن ابتلى إبراهيم بكلمات.
ما معنى الابتلاء؟ الناس يظنون أنه شر ولكنه في الحقيقة ليس كذلك.. لأن الابتلاء هو امتحان إن نجحنا فيه فهو خير وإن رسبنا فيه فهو شر.. فالابتلاء ليس شرا ولكنه مقياس لاختبار الخير والشر. الذي ابتلى هو الله سبحانه.. هو الرب.. والرب معناه المربي الذي يأخذ من يربيه بأساليب تؤهله إلى الكمال المطلوب منه.. ومن أساس التربية أن يمتحن المربي من يربيه ليعلم هل نجح في التربية أم لا؟
والابتلاء هنا بكلمات والكلمات جمع كلمة.. والكلمة قد تطلق على الجملة مثل قوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا" 4 "ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا" 5 "} (سورة الكهف). إذن فالكلمة قد تطلق على الجملة وقد تطلق على المفرد...
والكلمة المرادة في هذه الآية هي التكليف من الله. قوله سبحانه: افعل ولا تفعل.. فكأن التكليف من الله مجرد كلمة وأنت تؤدي مطلوبها أو لا تؤديه.. وقد اختلف العلماء حول الكلمات التي تلقاها إبراهيم من ربه.. نقول لهم أن هذه الكلمات لابد أن تناسب مقام إبراهيم أبي الأنبياء.. إنها ابتلاء يجعله أهلا لحمل الرسالة.. أي لابد أن يكون الابتلاء كبيراً.. ولقد قال العلماء أن الابتلاءات كانت عشرة وقالوا أربعين منها عشرة في سورة التوبة وهي قوله تعالى: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله} (من الآية 112 سورة التوبة). وهذه رواية عبد الله بن عباس.. وعشرة ثانية في سورة المؤمنون. وفي قوله سبحانه: {قد أفلح المؤمنون "1" الذين هم في صلاتهم خاشعون "2" والذين هم عن اللغو معرضون "3" والذين هم للزكاة فاعلون "4" والذين هم لفروجهم حافظون "5" إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين "6" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون "7" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون "8" والذين هم على صلواتهم يحافظون "9" أولئك هم الوارثون "10 "} (سورة المؤمنون). وبعد ذلك قال: {أولئك هم الوارثون}. وفي سورة الأحزاب يذكر منهم قوله جل جلاله: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما" 35 "} (سورة الأحزاب). وفي سورة المعارج يقول: {إلا المصلين "22" الذين هم على صلاتهم دائمون "23" والذين في أموالهم حق معلوم "24" للسائل والمحروم "25" والذين يصدقون بيوم الدين "26" والذين هم من عذاب ربهم مشفقون "27" إن عذاب ربهم غير مأمون "28" والذين هم لفروجهم حافظون "29" إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين "30" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون "31" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون "32" والذين هم بشهاداتهم قائمون "33" والذين هم على صلاتهم يحافظون "34 "} (سورة المعارج).
نخرج من هذا الجدل، بأن نقول إن الله ابتلى إبراهيم بكلمات تكليفية افعل كذا ولا تفعل كذا.. وابتلاه بأن ألقي في النار وهو حي فلم يجزع ولم يتراجع ولم يتجه إلا لله وكانت قمة الابتلاء أن يذبح ابنه. وكون إبراهيم أدى جميع التكليفات بعشق وحب وزاد عليه من جنسها.. وكونه يلقى في النار ولا يبالي يأتيه جبريل فيقول ألك حاجة فيرد إبراهيم أما إليك فلا.. وأما إلى الله فعلمه بحالي يغنيه عن سؤالي.. وكونه وهو شيخ كبير يبتلى بذبح ابنه الوحيد فيطيع بنفس مطمئنة ورضا بقدر الله.. يقول الحق: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى" 36 "وإبراهيم الذي وفى" 37 "} (سورة النجم). أي وفّى كل ما طلب منه وأداه بعشق للمنهج ولابتلاءات الله..
لقد نجح إبراهيم عليه السلام في كل ما ابتلى به أو اختبر به.. والله كان أعز عليه من أهله ومن نفسه ومن ولده.. ماذا كافأه الله به؟ قال: {قال إني جاعلك للناس إماماً} (من الآية 124 سورة البقرة). أي أن الحق تبارك وتعالى أئتمنه أن يكون إماماً للبشر.. والله سبحانه كان يعلم وفاء إبراهيم ولكنه اختبره لنعرف نحن البشر كيف يصطفي الله تعالى عباده المقربين وكيف يكونون أئمة يتولون قيادة الأمور..
استقبل إبراهيم هذه البشرى من الله وقال كما يروي لنا القرآن الكريم: {قال ومن ذريتي} (من الآية 124 سورة البقرة). ما هي الذرية؟ هي النسل الذي يأتي والولد الذي يجئ.. لأنه يحب استطراق الخير على أولاده وأحفاده وهذه طبيعة البشر، فهم يعطون ثمرة حركتهم وعملهم في الحياة لأولادهم وأحفادهم وهم مسرورون.. ولذلك أراد إبراهيم أن ينقل الإمامية إلى أولاده وأحفاده.. حتى لا يحرموا من القيم الإيمانية تحرس حياتهم وتؤدي بهم إلى نعيم لا يزول.. ولكن الله سبحانه وتعالى يرد على إبراهيم بقضية إيمانية أيضا هي تقريع لليهود.. الذي تركوا القيم وعبدوا المادة فيقول جل جلاله: {لا ينال عهدي الظالمين} (من الآية 124 سورة البقرة). فكأن إبراهيم بأعماله قد وصل الإمامية.. ولكن هذا لا ينتقل إلا للصالحين من عباده العابدين المسبحين. وقول الحق سبحانه: {لا ينال عهدي الظالمين} مقصود به اليهود الذين باعوا قيمهم الإيمانية بالمادة، وهو استقراء للغيب أنه سيأتي من ذرية إبراهيم من سيفسق ويظلم. ومن العجائب أن موسى وهارون عليهما السلام كانا رسولين.. الرسول الأصلي موسى وهارون جاء ليشد أزره لأنه فصيح اللسان.. وشاءت إرادة الله سبحانه أن تستمر الرسالة في ذرية هارون وليس في ذرية موسى.. والرسالة ليست ميراثا..
وقوله تعالى {لا ينال عهدي الظالمين}.. فكأن عهد الله هو الذي يجذب صاحبه أي هو الفاعل..
نأتي بعد ذلك إلى مسألة الجنس والدم واللون.. بنوة الأنبياء غير بنوة الناس كلهم فالأنبياء اصطفاؤهم اصطفاء قيم وأبناؤهم هم الذين يأخذون منهم هذه القيم وليسوا الذين يأخذون الجنس والدم واللون.. ولو رجعنا إلى قصة نوح عليه السلام حين غرق ابنه.. رفع يديه إلى السماء وقال: {رب إن ابني من أهلي} (من الآية 45 سورة هود). فرد عليه الحق سبحانه وتعالى فقال: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} (من الآية 46 سورة هود). إن أهل النبوة هم الذين يأخذون القيم عن الأنبياء.. ولولا أن الحق سبحانه قال لنا {إنه عمل غير صالح}.. لاعتقدنا أنه ربما جاء من رجل آخر أو غير ذلك.. ولكن الله يريدنا أن نعرف أن عدم نسبة ابن نوح إلى أبيه بسبب {إنه عمل غير صالح}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ونلتقي في هذه الآية بإبراهيم، في موقف الإنسان الذي يتعرّض للابتلاء والاختبار، ليظهر، من خلال ذلك، ما يملك من طاقاتٍ كبيرة تؤهله لحمل الرسالة وللقيادة، ونلاحظ أنَّ القرآن قد أجمل الكلمات التي كانت وسيلةً للابتلاء فلم يفصح بالحديث عنها، ولكنَّه حدّثنا عن إتمامها من دون أن يتضح هل كان الإتمام من إبراهيم (ع) أو من اللّه في ما يحتمله الضمير في الكلمة، ولم يفصِّل لنا كيف كان هذا الإتمام؛ هل هو في وعي إبراهيم (ع) للكلمة وحفظها في فكره في مقابل النسيان، أم في تجسيدها العملي في الواقع التطبيقي للحياة، لأنَّ القضية لا تختلف باختلاف التفاصيل في ما يريد القرآن أن يفيض فيه أو يفصح عنه من انطلاق العهد الإلهي من موقع الاختبار والكفاءة لا من موقع الاختيار التلقائي، فإنَّ ذلك هو ما نحتاج أن نتعرفه، أمّا التفاصيل، فقد يحتاج المؤمنون الذين عاشوا في عهد إبراهيم أن يعرفوها لأنها تتصل بخطواتهم الفكرية والعملية في الحياة، ولا بُدَّ أن يكونوا قد عرفوها في ما دعاهم إليه من أحكام وتعاليم.
نجاح إبراهيم في الاختبار وجعله إماماً للنّاس:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ} أي اختبره في حركته في خطّ المسؤولية الرسالية التي تعمل على تغيير الحياة، من الواقع الكافر الضالّ إلى الواقع الإيماني المستقيم في الخطّ الذي يحقّق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، ليظهر إخلاصه للّه وقدرته على تحمّل المسؤولية، كما يختبر اللّه رسله وعباده الصالحين في المواقع الصعبة التي تتحدّى طاقاتهم لتعبِّر عن نفسها بقوّة وصلابة وإخلاص،
{بِكَلِمَاتٍ} مما أوحى به إليه من آياته في الصحف التي أنزلها عليه، وفي المسؤولية المتنوّعة التي حمّله إياها،
{فَأَتَمَّهُنَّ} ووفّاهنّ حقّهن بالدعوة تارةً وبالانقياد أخرى، وبالحركة المتحدية في مواجهة الكفر والاستكبار ثالثة، فلم ينقص شيئاً من دعوته، ولم يهمل موقفاً من مسؤوليته، ولم يبتعد خطوةً واحدةً عن ساحات التحدّي الكبير، وبذلك استحق درجة القدوة الحسنة الكبيرة التي يُراد للنّاس الأخذ بها وموقع الولاية التي هيّأه لها، لتنفتح النبوّة المنطلقة في خطّ التبليغ على الإمامة المتحرّكة في خطّ الواقع، مما يُوجِدُ تكاملاً بينهما لا انفصالاً. وهناك وجه آخر لتفسير {فَأَتَمَّهُنَّ} بإرجاع الضمير إلى اللّه في إتمام كلماته.
{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ للنّاس إِمَامًا} في تطوّر النبوّة الدعوة إلى الإمامة الحركة. وربما كانت المسألة كنايةً عن الرسالة كلّها في خطّها الفكري والعملي، بحيث يكون الاختبار الإلهي بالكلمات واستيعاب إبراهيم لهن في موقع التكليف بالرسالة، حركةً مترتبةً متدرجة، إذ لا دليل على أنَّ الجعل كان بعد النبوّة، بل كلّ ما هناك أنّ الآية توحي بأَن ثمّة إيحاءً من اللّه بالكلمات الرسالية، وإعلاناً له بأنها تمثّل خطّ الإمامة بمعنى الولاية النبوية والقدوة الحركية في حياته. وقد لا نجد في القرآن الكريم أيّ شاهد على أنَّ الإمامة تحمل مفهوماً مقابلاً للنبوّة في مفهومها الواقعي العام، لأنَّ الوحي الذي ينزل على النبيّ أو الرسالة التي يحملها الرسول، ليسا تعبيراً عن حالةٍ ثقافية في وعي النبيّ ترتبط بذاته أو تنفتح على غيره في عملية سماع مجرّد لآياتها، بل هما معنيان حركيان في عملية الاهتداء والاقتداء والمتابعة، مما تختزنه كلمة الإمامة في مضمون الائتمام الذي يعني الاقتداء والمتابعة، وهذا ما نلاحظه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فإنَّ الصفات المذكورة للأئمة هي صفات الأنبياء في مهمّة نبوّتهم ورسالتهم، من الهداية بأمر اللّه والوحي المنفتح على فعل الخيرات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، من خلال وعيهم اليقيني لآيات اللّه، وصبرهم الحركي في مواجهة التحدّيات والعقبات من قبل أعداء اللّه...
وقد نستوحي من القرآن أنَّ إبراهيم كان عارفاً بطبيعة المهمّة ومطمئناً إليها، فلما أتمّ الكلمات، أو أتمّ اللّه له الكلمات، ونجح في الامتحان، لم يفاجأ بالعهد الإلهي في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ للنّاس إِمَامًا} فلم يصدر عنه أيّ ردّ فعلٍ في ما واجهه من مسؤولية جديدة في نطاق ذاته، بل كان ردّ فعله منطلقاً من التفكير في مستقبل العهد وامتداده، فهل هو من العهود التي تقتصر عليه من خلال المهمّة المحدودة بالزمان والمكان والشخص، أم هو من العهود التي تمتد بامتداد الذريّة في مدى الزمن، فتساءل: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} في استفهامٍ متطلّعٍ مستشرف يحمل طابع الأمنية التي يحملها الإنسان في فطرته لذرّيته في كلّ خيرٍ يحصل له. وكان الجواب حاسماً ينطلق في عملية تحديد للقاعدة الرسالية التي تبرر إعطاء العهد لأي إنسانٍ في كلّ زمان ومكان {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، فليست القضية امتيازاً إرثياً أو تكريماً شخصياً يتصل بالذات، كما هو شأن الملوك الذين يعيشون هاجس وراثة الملك عندما يفكرون في الذرية، بل القضية مسؤولية رسالية تتصل بحياة النّاس في ما يفكرون وفي ما يعيشون، وبخلافة اللّه في الأرض في ما يريد من تنظيم وتدبير، وبعبادة اللّه الواحد الأحد في ما تحقّق من وحي وما تثير من روحانية، فلا بُدَّ لمن يحملها من كفاءةٍ روحية وفكرية وعملية في ما تمثّله الكفاءة من معاني الاستقامة والانسجام مع الخطّ العام للرسالة وللدعوة، فهي عهد اللّه الذي يجعله للصالحين من عباده المنسجمين مع خطّ العدل في أنفسهم من أجل أن يقوم النّاس بالقسط، فلا ينال عهده الظالمين الذين يظلمون مَنْ فوقهم بالمعصية، ومَنْ دونهم بالغلبة، ويظاهرون القوم الظلمة... ويظلمون أنفسهم في ذلك كلّه، وهكذا كان الجواب دستوراً عملياً لكلّ رسالة ورسول...
أمّا ما نستوحيه من هذه الآية، فهو قضيتان أساسيتان: المسؤولية تمنح بعد الاختبار:
إنَّ المسؤولية لا تُمنح إلاَّ بعد الابتلاء والاختبار، ولا سيما إذا كانت تتعلّق بالأمر الذي يستدعي تغيير الأمّة في حاضرها ومستقبلها، فلا يمكن أن تُجعل على أساس انطباعاتٍ عامة، أو على أساس المجاملات والمحسوبيات الخاصة... وإنَّ القدوة في الأفعال والأقوال لا يمكن أن تجعل لإنسان إلاَّ بعد أن تثبت كفاءته في مجال الإخلاص في السلوك والتعامل والعلاقات، لأنَّ معنى القدوة، أن يكون الشخص هو الوجه الذي يتجه النّاس إليه والقاعدة التي يتحرّك المجتمع منها، فكيف يمكن أن يتحقّق ذلك من دون الابتلاء والخبرة الطويلة؟!
الظالمون لا يصلحون للقيادة: إنَّ القائمين على شؤون الأمّة لا بُدَّ أن يكونوا بالمستوى الذي يرتفعون به عن صفة الظلم في حياتهم، لأنَّ الإنسان الذي يعيش الظلم في حياته لا يمكن أن ينطلق بعيداً في محاربة الظلم ورفعه عن حياة النّاس...
لأنَّ قضية المسؤولية ترتبط بالتاريخ العميق للشخصية، بالإضافة إلى الحاضر الذي يمثّل الانضباط في مواقع المسؤولية...