ثم بين - سبحانه - ما يكون بين هذا الإِنسان الكافر وبين قرينه من الشياطين يوم القيامة ، فقال - تعالى - : { حتى إِذَا جَآءَنَا قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين } .
أى : لقد استمر هذا المعرض عن ذكر الله فى غيه . ومات على ذلك حتى إذا جاءنا يوم القيامة لحساب والجزاء ، { قَالَ } لقرينه الذى صده عن طريق الحق . .
{ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } أى : أتمنى أن تكون المسافة التى بينى وبينك من البعد والمفارقة ، كالمسافة التى بين المشرق والمغرب .
فالمراد بالمشرقين المشرق والمغرب فعبر - سبحانه - بالمشرق على سبيل التغليب لأحدهما على الآخر .
{ فَبِئْسَ القرين } أى : فبئس القرين أنت - أيها الشيطان - فالمخصوص بالذم محذوف .
فإذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به ، { قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ أي : فبئس القرين كنت لي في الدنيا ] {[26043]}
وقرأ بعضهم : " حتى إذا جاءانا " يعني : القرين والمقارن .
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن سعيد الجُرَيري قال : بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة سَفَع بيده شيطان فلم يفارقه ، حتى يصيرهما الله تعالى إلى النار ، فذلك حين يقول : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } {[26044]}
والمراد بالمشرقين هنا{[26045]} هو ما بين المشرق والمغرب . وإنما استعمل هاهنا تغليبا ، كما يقال{[26046]} القمران ، والعمران ، والأبوان ، [ والعسران ] {[26047]} . قاله ابن جرير وغيره .
[ ولما كان الاشتراك في المصيبة في الدنيا يحصل به تسلية لمن شاركه في مصيبته ، كما قالت الخنساء تبكي أخاها :
ولَوْلا كثرةُ الباكين حَوْلي*** عَلَى قَتْلاهم لقتلتُ نَفْسي
وما يَبْكُون مثلَ أخي ولكن*** أُسَلِّي النفسَ عنه بالتأسِّي
قطع الله بذلك بين أهل النار ، فلا يحصل لهم بذلك تأسي وتسلية ولا تخفيف ] . {[26048]}
وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وقتادة والزهري والجحدري : «حتى إذا جاءانا » على التثنية ، يريد العاشي والقرين ، قاله سعيد الجريري وقتادة . وقرأ أبو عمرو والحسن وابن محيصن والأعرج وعيسى والأعمش وعاصم{[10209]} وحمزة والكسائي : «جاءنا » يريد العاشي وحده . وفاعل : { قال } هو العاشي .
وقوله : { بعد المشرقين } يحتمل ثلاثة معان ، أحدهما : أن يريد بعد المشرق من المغرب ، فسماهما مشرقين ، كما يقال : القمران والعمران ، قال الفرزدق :
لما قمراها والنجوم الطوالع{[10210]} . . . والثاني : أن يريد مشرق الشمس في أطول يوم ، ومشرقها في أقصر يوم ، فكأنه أخذ نهايتي المشارق . والثالث : أن يريد { بعد المشرقين } من المغربين ، فاكتفى بذكر { المشرقين } .
{ حتّى } ابتدائية ، وهي تفيد التسبب الذي هو غاية مجازية . فاستعمال { حتّى } فيه استعارة تبعية . وليست في الآية دلالة على دوام الصد عن السبيل وحسبان الآخرين الاهتداء إلى فناء القرينين ، إذ قد يؤمن الكافر فينقطع الصدّ والحُسبان فلا تغْتَّر بتوهم من يزعمون أن الغاية الحقيقية لا تفارق { حتّى } في جميع استعمالاتها .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر { جاءانا } بألف ضمير المثنى عائداً على من يعش عن ذكر الرحمان وقرينِه ، أي شيطانه ، وأفرد ضمير { قال } لرجوعه إلى من يعش عن ذكر الرحمان خاصة ، أي قال الكافر متندماً على ما فرط من اتّباعه إياه وائتِمارِهِ بأمره . وقرأ الجمهور { جاءنا } بصيغة المفرد والضمير المستتر في { قال } عائد إلى { من يعش عن ذكر الرحمن } [ الزخرف : 36 ] ، أي قال أحدهما وهو الذي يعشو . والمعنى على القراءتين واحد لأن قراءة التثنية صريحة في مجيء الشيطان مع قرينه الكافر وأن المتندم هو الكافر ، والقراءة بالإفراد متضمنة مجيء الشيطان من قوله : { يا ليت بيني وبينك بُعْدَ المشرقين } إذ عُلم أن شيطانه القرينَ حاضر من خطاب الآخر إياه بقوله : { وبَيْنَك } . وحرف { يا } أصله للنداء ، ويستعمل للتلهف كثيراً كما في قوله { يا حسرة } [ يس : 30 ] وهو هنا للتلهف والتندم .
والمشرقان : المشرق والمغرب ، غلب اسم المشرق لأنه أكثر خطوراً بالأذهان لتشوف النفوس إلى إشراق الشمس بعد الإظلام .
والمراد بالمشرق والمغرب : إما مكان شروق الشمس وغروبها في الأفق ، وإما الجهة من الأرض التي تبدو الشمسُ منها عند شروقها وتغيب منها عند غروبها فيما يلوح لطائفة من سكان الأرض . وعلى الاحتمالين فهو مَثَل لشدة البعد . وأضيف { بعد } إلى { المشرقين } بالتثنية بتقدير : بعد لهما ، أي مختص بهما بتأويل البعد بالتباعد وهو إيجاز بديع حَصل من صيغة التغليب ومن الإضافة . ومُسَاواته أن يقال بُعْد المَشْرق من المغرب والمغربِ من المشرق فنابت كلمة { المشرقين } عن ست كلمات .
وقوله { فبئس القرين } ، بَعْدَ أن تمنى مفارقته فرّع عليه ذمّاً فالكافر يذم شيطانه الذي كان قريناً ، ويُعرِّض بذلك للتفصّي من المؤَاخذة ، وإلقاءِ التبعة على الشيطان الذي أضَلّه .
والمقصود من حكاية هذا تفظيع عواقب هذه المقارنة التي كانت شغفَ المتقارنَيْن ، وكذلك شأن كل مقارنة على عمل سّيىء العاقبة . وهذا من قبل قوله تعالى : { الأخلاء يومئذٍ بعضُهم لبعض عدوٌ إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ] . والمقصود تحذير النّاس من قرين السوء وذم الشياطين ليعافهم النّاس كقوله : { إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوّاً } [ فاطر : 6 ] .