77- وكان إخراج الصواع من حقيبة أخيه مفاجأة أخجلت إخوته ، فتنصلوا باعتذار يبرئ جماعتهم دونه ، ويطعنه هو ويوسف ، ويوحي بأن السرقة طبع ورثاه من قبل الأم ، وقالوا : ليس بعجيب أن تقع منه سرقة إذ سبقه إلى ذلك أخوه الشقيق ، وفطن يوسف إلى طعنهم الخفي ، فساءه ، ولكنه كتم ذلك ، وأضمر في نفسه جواباً لو صارحهم به لكان هذا الجواب : أنتم أسوأ منزلة وأحط قدرا ، والله أعلم وأصدق علماً بكلامكم الذي تصفون به أخاه بوصمة السرقة .
فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ } هذا الأخ ، فليس هذا غريبا منه . { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } يعنون : يوسف عليه السلام ، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهما ما يصدر من السرقة ، وهما ليسا شقيقين لنا .
وفي هذا من الغض عليهما ما فيه ، ولهذا : أسرها يوسف في نفسه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أي : لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون ، بل كظم الغيظ ، وأسرَّ الأمر في نفسه . و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه ، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } منا ، من وصفنا بالسرقة ، يعلم الله أنا براء منها ، ثم سلكوا معه مسلك التملق ، لعله يسمح لهم بأخيهم .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله إخوة يوسف في أعقاب ثبوت تهمة السرقة على أخيه " بنيامين " فقال - تعالى - { قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ . . . }
أى : قال إخوة يوسف - عليه السلام - بعد هذا الموقف المحرج لهم . إن يسرق بنيامين هذا الصواع الخاص بالملك فقد سرق أخ له من قبل - وهو يوسف - ما يشبه ذلك .
وقولهم هذا يدل على أن صنيعهم بيوسف وأخيه ما زال متمكناً من نفوسهم .
وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة في مرادهم بقولهم هذا ، ومن بين هذه الروايات ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الآية : " سرق يوسف - عليه السلام - صنماً لجده وكان هذا الصنم من ذهب وفضه ، فكسره وألقاه في الطريق ، فعير إخوته بذلك " .
وقوله { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } بيان لموقفه من مقالتهم ، والضمير في { فأسرها } يعود إلى تلك المقالة التي قالوها .
أى : سمع يوسف - عليه السلام - ما قاله إخوته في حقه وفى حق شقيقه فساءه ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، ولم يظهر لهم تأثره مما قالوه وإنما رد عليهم بقوله : { قَالَ أَنْتُمْ } أيها الإخوة { شَرٌّ مَّكَاناً } أى : موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو برئ ، لأنكم أنتم الذين كذبتم على أبيكم وخدعتموه ، وقلتم له بعد أن ألقيتم أخاكم في الجب ، لقد أكله الذئب .
{ والله } - تعالى - { أَعْلَمْ } مننى ومنكم { بِمَا تَصِفُونَ } به غيركم من الأوصاف التي يخالفها الحق ، ولا يؤيدها الواقع .
وقال{[15237]} إخوة يوسف لما رأوا الصّواع قد أخرج من متاع بنيامين : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } يتنصلون إلى العزيز من التشبه{[15238]} به ، ويذكرون أن هذا فعل كما فَعَل أخ له من قبل ، يعنون به يوسف ، عليه السلام .
قال سعيد بن جبير ، عن قتادة{[15239]} : كان يوسف قد سرق صنما لجده ، أبي أمه ، فكسره .
وقال محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قال : كان أول ما دخل على يوسف من البلاء ، فيما بلغني ، أن عمته ابنة إسحاق ، وكانت أكبر ولد إسحاق ، وكانت إليها منطقة إسحاق ، وكانوا يتوارثونها بالكبر ، فكان من اختباها{[15240]} ممن وليها كان له سَلَما لا ينازع فيه ، يصنع فيه ما يشاء{[15241]} وكان يعقوب حين ولُد له يوسف قد حضنته عمته ، فكان منها وإليها ، فلم يُحب أحدٌ شيئا من الأشياء حبها إياه ، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات وقعت نفس يعقوب عليه فأتاها ، فقال : يا أخيَّه{[15242]} سلّمى إليّ يوسف ، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة . قالت : فوالله ما أنا بتاركته . ثم قالت : فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه ، لعل ذلك يسلّيني عنه - أو كما قالت . فلما خرج من عندها يعقوب ، عمدت إلى منطقة إسحاق ، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت : فقدت منطقة إسحاق ، عليه السلام ، فانظروا من أخذها ومن أصابها ؟ فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت . فكشفوهم فوجدوها مع يوسف . فقالت : والله إنه لي لسَلَمٌ ، أصنع فيه ما شئت . فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر . فقال لها : أنت وذاك ، إن كان فعل ذلك فهو سَلَم لك ما أستطيع غير ذلك . فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت . قال : فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } {[15243]}
وقوله : { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ } {[15244]} يعني : الكلمة التي بعدها ، وهي قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } {[15245]} أي : تذكرون . قال هذا في نفسه ، ولم يبده لهم ، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر ، وهو كثير ، كقول الشاعر :{[15246]}
جَزَى بَنُوه أبا الغيلان عن كبَرٍ *** وحسْن فعل{[15247]} كما يُجزَى سنمّار
وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة ، في منثورها وأخبارها وأشعارها .
قال العوفي ، عن ابن عباس : { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ } قال : أسر في نفسه : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ }
{ قالوا إن يسرق } بنيامين . { فقد سرق أخ له من قبل } يعنون يوسف . قيل ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه السلام وكانت تحضن يوسف وتحبه ، فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها فشدت المنطقة على وسطه ، ثم أظهرت ضياعها فتفحص عنها فوجدت محزومة عليه فصارت أحق به في حكمهم . وقيل كان لأبي أمه صنم فسرقه وكسره وألقاه في الجيف . وقيل كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل . وقيل دخل كنيسة وأخذ تمثالا صغيرا من الذهب . { فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } أكنها ولم يظهرها لهم ، والضمير للإجابة أو المقالة أو نسبة السرقة وقيل إنها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله : { قال أنتم شر مكانا } فإنه بدل من أسرها . والمعنى قال في نفسه أنتم شر مكانا أي منزلة في السرقة لسرقتكم أخاكم ، أو في سوء الصنيع مما كنتم عليه ، وتأنيثها باعتبار الكلمة أو الجملة ، وفيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن . { والله أعلم بما تصفون } وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون .
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ( 77 )
الضمير في { قالوا } لإخوة يوسف ، والأخ الذي أشاروا إليه هو يوسف ، ونكروه تحقيراً للأمر ، إذ كان مما لا علم للحاضرين به ، ثم ألصقوه ببنيامين ، إذ كان شقيقه ، ويحتمل قولهم : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } تأويلين :
أحدهما : أنهم حققوا السرقة في جانب بنيامين ويوسف عليهما السلام ، بحسب ظاهر الحكم ، فكأنهم قالوا : إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل ، لأن أخاه يوسف كان قد سرق . فهذا من الإخوة إنحاء على ابني راحيل : يوسف وبنيامين .
والوجه الآخر الذي يحتمله لفظهم يتضمن أن السرقة في جانب يوسف وبنيامين - مظنونة - كأنهم قالوا : إن كان هذا الذي رمى به بنيامين حقاً في نفسه فالذي رمى به يوسف قبل حق إذاً ، وكأن قصة يوسف والظن به قوي عندهم بما ظهر في جهة وبنيامين .
وقال بعض المفسرين : التقدير : فقد قيل عن يوسف إنه سرق ، ونحو هذا من الأقوال التي لا ينطبق معناها على لفظ الآية .
وهذه الأقوال منهم عليهم السلام إنما كانت بحسب الظاهر وموجب الحكم في النازلتين ، فلم يقعوا في غيبة ليوسف ، وإنما قصدوا الإخبار بأمر جرى ليزول بعض المعرة عنهم ، ويختص بها هذان الشقيقان .
وأما ما روي في سرقة يوسف فثلاثة وجوه : الجمهور منها على أن عمته كانت ربته ، فلما شب أراد يعقوب أخذه منها ، فولعت به وأشفقت من فراقه ، فأخذت منطقة إسحاق - وكانت متوارثة عندهم - فنطقته بها من تحت ثيابه ، ثم صاحت وقالت : إني قد فقدت المنطقة ويوسف قد خرج بها ، ففتشت فوجدت عنده ، فاسترقَّته - حسبما كان في شرعهم - وبقي عندها حتى ماتت فصار عند أبيه .
وقال إدريس عن أبيه : إنما أكل بنو يعقوب طعاماً فأخذ يوسف عرقاً{[6762]} فخبأه فرموه لذلك بالسرقة ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : إنما أمرته أمه أن يسرق صنماً لأبيها ، فسرقه وكسره ، وكان ذلك - منها ومنه - تغييراً للمنكر ، فرموه لذلك بالسرقة ، وفي كتاب الزجاج : أنه كان صنم ذهب{[6763]} .
والضمير في قوله : { فأسرها } عائد يراد به الحزة التي حدثت في نفس يعقوب من قوله ، والكلام يتضمنها ، وهذا كما تضمن الكلام الضمير الذي في قول حاتم :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى*** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر{[6764]}
وهذا كقوله تعالى : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم }{[6765]} [ النحل : 110 ] فهي مراد بها الحالة المتحصلة من هذه الأفعال .
وقال قوم : أسر المجازاة ، وقال قوم : أسر الحجة . وما قدمناه أليق . وقرأ ابن أبي عبلة : «فأسره يوسف » بضمير تذكير .
وقوله : { أنتم شر مكاناً } الآية ، الظاهر منه أنه قالها إفصاحاً فكأنه أسر لهم كراهية مقالتهم ثم تجهمهم بقوله : { أنتم شر مكاناً } أي لسوء أفعالكم ، والله يعلم إن كان ما وصفتموه حقاً ، وفي اللفظ إشارة إلى تكذيبهم ، ومما يقوي هذا عندي أنهم تركوا الشفاعة بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة بالشيخ صلى الله عليه وسلم .
وقالت فرقة - وهو ظاهر كلام ابن عباس - لم يقل يوسف هذا الكلام إلا في نفسه - وإنما هو تفسير للذي أسر في نفسه ، أي هذه المقالة هي التي أسر ، فكأن المراد في نفسه : أنتم***
وذكر الطبري هنا قصصاً اختصاره : أنه لما استخرجت السقاية من رحل بنيامين قال إخوته : يا بني راحيل ألا يزال البلاء ينالنا من جهتكم ؟ فقال بنيامين : بل بنو راحيل ينالهم البلاء منكم : ذهبتم بأخي فأهلكتموه ، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم . فقالوا : لا تذكر الدراهم لئلا نؤخذ بها . ثم دخلوا على يوسف فأخذ الصواع فنقره فطن ، فقال : إنه يخبر أنكم ذهبتم بأخ لكم فبعتموه ، فسجد بنيامين وقال : أيها العزيز سل صواعك هذا يخبرك بالحق .
قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القصص الذي آثرنا اختصاره . وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه ، فأمر بنياً له ، فمسه ، فسكن غضبه ، فقال روبيل : لقد مسني أحد من ولد يعقوب ، ثم إنهم تشاوروا في محاربة يوسف - وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك - فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه ، فرأوا من قوته ما استعظموه عند ذلك وقالوا : { يا أيها العزيز*** } [ يوسف : 88 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال إخوة يوسف: {قالوا إن يسرق} بنيامين، {فقد سرق أخ له من قبل} يعنون يوسف... فلما سمع يوسف مقالتهم، {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم}، ولم يظهرها لهم، {قال} في نفسه: {أنتم شر مكانا}، ولم يُسمِعهم، قال: أنتم أسوأ صنعا فيما صنعتم بيوسف، {والله أعلم بما تصفون}، يعني بما تقولون من الكذب أن يوسف سرق...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ" يعنون أخاه لأبيه وأمه وهو يوسف...
وقوله: "فَأسَرّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ولَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أنْتُمْ شَرّ مَكانا وَاللّهُ أعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ "يعني بقوله: «فأسرّها»: فأضمرها، وقال: «فأسرّها» فأنث، لأنه عنى بها الكلمة، وهي: «أنتمّ شرّ مكانا، والله أعلم بما تصفون»...
وقوله: "وَاللّهُ أعْلَمُ بِما تَصِفُونَ" يقول: والله أعلم بما تكذّبون فيما تصفون به أخاه بنيامين...
فمعنى الكلام إذن: فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، قال: أنتم شرّ عند الله منزلاً ممن وصفتموه بأنه سرق، وأخبث مكانا بما سلف من أفعالكم، والله عالم بكذبكم، وإن جهله كثير ممن حضر من الناس...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعض أهل التأويل: كانت سرقته أنه كان صنم من ذهب لجده أبي أمه، فسرق ذلك لئلا يعبده دون الله، ولكنا لا نعلم ذلك، ونعلم أنهم كذبوا في قولهم: (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وأرادوا أن يتبرؤوا منه، وينفوا ذلك عن أنفسهم ليعلم أنه ليس منهم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قالوا إن يسرق فقد سَرَق أخ له من قبلُ} يعنون يوسف. وفي هذا القول منهم وجهان:
أحدهما: أنه عقوبة ليوسف أجراها الله تعالى على ألسنتهم، قاله عكرمة.
والثاني: ليتبرؤوا بذلك من فعله لأنه ليس من أمهم وأنه إن سرق فقد جذبه عِرق أخيه السارق لأن في الاشتراك في الأنساب تشاكلاً في الأخلاق...
... اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك: إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضا سارقا، وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة لأنهما من أم أخرى...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وقولهم:"إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل"، لا يدل على الجزم بأنه سرق، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي: إن كان وقعت منه سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله، فقد سرق أخ له من قبل. والتعليق على الشرط على أنّ السرقة في حق بنيامين وأخيه ليس مجزوماً بها، كأنهم قالوا: إنْ كان هذا الذي رمي به بنيامين حقاً فالذي رمي به يوسف من قبل حق، لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين، ولذلك قالوا: إن ابنك سرق. وقيل: حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر، فكأنهم قالوا: إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل، لأن أخاه يوسف قد كان سرق، فعلى هذا القول يكون قولهم إنحاء على يوسف وبنيامين. وقيل: التقدير فقد قيل عن يوسف إنه سرق، وقولهم هذا هو بحسب الظاهر والإخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم، وتختص بالشقيقين. وتنكير أخ في قوله: فقد سرق أخ له من قبل، لأنّ الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له: لأنه كان شقيقه... والضمير في قوله: فأسرها يفسره سياق الكلام أي: الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم...
وقيل: أسر المجازاة، وقيل: الحجة... والظاهر من قوله: "أنتم شر مكاناً"، خطابهم بهذا القول في الوجه، فكأنه أسر كراهية مقالتهم، ثم وبخهم بقوله: أنتم شر مكاناً، وفيه إشارة إلى تكذيبهم وتقوية أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيه الشيخ يعقوب عليه السلام... ومعنى "شر مكاناً "أي منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة لسرقتكم أخاكم من أبيكم. ومعنى "أعلم بما تصفون "يعني: هو أعلم بما تصفون منكم، لأنه عالم بحقائق الأمور، وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: إن انتزاع أخيهم منهم -بعد تلك المواثيق التي أكدوها لأبيهم- لداهية تطيش لها الحلوم، فماذا كان فعلهم عندها؟ فقيل: {قالوا} تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم {إن يسرق} فلم يجزموا بسرقته، لعلمهم بأمانته، وظنهم أن الصواع دس في رحله وهو لا يشعر، كما دست بضاعتهم في رحالهم وإنما أوهى ظنهم هذا سكوت أخيهم عن الاعتذار به، على أنه قد ورد أنهم لاموه فقال لهم: وضعه في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالهم {فقد سرق أخ} أي شقيق {له} ولما كان ما ظنوه كذلك في زمن يسير، أدخلوا الجار فقالوا: {من قبل} يعنون يوسف عليه الصلاة والسلام... {فأسرها} أي إجابتهم عن هذه القولة القبيحة {يوسف في نفسه} على تمكنه مما يريد بهم من الانتقام.
ولما كان ربما ظن ظان أنه بكتهم بها بعد ذلك، نفى هذا الظن بقوله تعالى: {ولم يبدها} أي أصلاً {لهم} فكأنه قيل: فما قولته التي أسرها في نفسه؟ فقيل: {قال أنتم شر مكاناً} أي من يوسف وأخيه، لأن ما نسب إليهما من الشر إنما هو ظاهراً لأمر خير اقتضاه، وأما أنتم ففعلتكم بيوسف شر مقصود منكم ظاهراً وباطناً، ونسبة الشر إلى مكانهم أعظم من نسبته إليهم، وإنما قدم الإخبار بالإسرار مع اقترانه بالإضمار قبل الذكر، لئلا يظن بادئ بدء أنهم سمعوا ما وصفهم به من الشر {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {أعلم بما تصفون} منكم، وأنه ليس كما قلتم؛ والوصف: كلمة مشتقة من أصل من الأصول لتجري على مذكور فتفرق بينه وبين غيره بطريق النقيض كالفرق بين العالم والجاهل ونحوهما، فكأنه قيل: إن ذلك القول على فحشه ليس مغنياً عنهم ولا عن أبيهم شيئاً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما بُهتوا بوجود الصُّوَاع في رحل أخيهم اعتراهم ما يعتري المبهوت فاعتذروا عن دعواهم تنزههم عن السرقة، إذ قالوا: {وما كنا سارقين} [سورة يوسف: 73]، عذراً بأن أخاهم قد تسرّبت إليه خصلة السرقة من غير جانب أبيهم فزعموا أن أخاه الذي أشيع فقده كان سرق من قبلُ، وقد علم فتيان يوسف عليه السلام أن المتهم أخ من أمّ أخرى، فهذا اعتذار بتعريض بجانب أمّ أخويهم وهي زوجة أبيهم...
وإنما قالوا: قد سرق أخ له من قبل} بهتاناً ونفياً للمعرة عن أنفسهم. وليس ليوسف عليه السلام سرقة من قبل، ولم يكن إخوة يوسف عليه السلام يومئذٍ أنبياء. وشتان بين السرقة وبين الكذب إذا لم تترتب عليه مضرة.
وكان هذا الكلام بمسمع من يوسف عليه السلام في مجلس حكمه.
وقوله: {فأسرها يوسف} يجوز أن يعود الضمير البارز إلى جملة {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} على تأويل ذلك القول بمعنى المقالة على نحو قوله تعالى: {إنها كلمة هو قائلها بعد قوله: {رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} [سورة المؤمنون: 99]. ويكون معنى أسرها في نفسه أنه تحملها ولم يظهر غضباً منها، وأعرض عن زجرهم وعقابهم مع أنها طعن فيه وكذب عليه. وإلى هذا التفسير ينحو أبو علي الفارسي وأبو حيان. ويكون قوله: {قال أنتم شر مكانا} كلاماً مستأنفاً حكايةً لما أجابهم به يوسف عليه السلام صراحة على طريقة حكاية المحاورة، وهو كلام موجه لا يقتضي تقرير ما نسبوه إلى أخي أخيهم، أي أنتم أشدّ شرّاً في حالتكم هذه لأنّ سرقتكم مشاهدة وأما سرقة أخي أخيكم فمجرد دعوى، وفعل {قال} يرجح هذا الوجه.
ويجوز أن يكون ضمير الغيبة في {فأسرها} عائد إلى ما بعده وهو قوله: {قال أنتم شر مكانا}. وبهذا فسر الزجاج والزمخشري، أي قال في نفسه، وهو يشبه ضمير الشأن وَالقصة، لكن تأنيثه بتأويل المقولة أو الكلمة، وتكون جملة {قال أنتم شر مكانا} تفسيراً للضمير في {أسرها}.
والإسرار، على هذا الوجه، مستعمل في حقيقته، وهو إخفاء الكلام عن أن يسمعه سامع.
وجملة {ولم يبدها لهم} قيل هي توكيد لجملة {فأسرها يوسف}. وشأن التوكيد أن لا يعطف. ووجه عطفها ما فيها من المغايرة للتي قبلها بزيادة قيد لهم المشعر بأنه أبدى لأخيه أنهم كاذبون.
ويجوز أن يكون المراد لهم يُبدِ لهم غَضَباً ولا عقاباً كما تقدم مبالغة في كظم غيظه، فيكون في الكلام تقدير مضاف مناسب، أي لم يُبْد أثرها.
و {شرّ} اسم تفضيل، وأصله أشرّ، و {مكانا} تمييز لنسبة الأشَرّ.
وأطلق المكان على الحالة على وجه الاستعارة، والحالة هي السرقة، وإطلاق المكان والمكانة على الحالة شائع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} في آخر سورة الأنعام (135)، وهو تشبيه الاتّصاف بوصف مّا بالحلول في مكان. والمعنى أنهم لما علّلوا سرقة أخيهم بأن أخاه من قبل قد سرق فإذا كانت سرقة سابقة من أخ أعدّت أخاه الآخر للسرقة، فهم وقد سبقهم أخَوَانَ بالسرقة أجدر بأن يكونوا سَارقين من الذي سبَقه أخ واحد. والكلام قابل للحمل على معنى أنتم شر حالة من أخيكم هذا والذي قبله لأنهما بريئان مما رميتموهما به وأنتم مجرمون عليهما إذ قذفتم أولهما في الجب، وأيدتم تهمة ثانيهما بالسرقة.
ثم ذيله بجملة {والله أعلم بما تصفون}، وهو كلام جامع أي الله أعلم بصدقكم فيما وصفتم أو بكذبكم. والمراد: أنه يعلم كذبهم، فالمراد: أعلم لحال ما تصفون.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
استيقظ الحقد الدفين، فكذبوا على يوسف، وهو يخاطبهم، وهم في كلاءته، وحمايته، فقالوا: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} وإذا كانوا قد سلموا بالسرقة، لأنهم قامت لديهم الظاهرة الدالة عليها، فلماذا كان الافتراء على أخيه، وهم الذين سرقوه من أبيه، وألقوه في الجب، ولكنه الحقد والحسد لم يقتلهما الزمان، وأسر ذلك يوسف في نفسه، ولم يبدها لهم، كرما وهو القوي المسيطر ولكنه ليس جبارا، وليس حانقا، لأن الله سبحانه وتعالى جعل النتيجة خيرا ونعمة له، وكانت بحكم الله تعالى التمهيد لذلك السلطان، فكيف ينتقم وإذا كان لم يبد ما أسر فإنه وصفهم بوصفهم الحقيقي، وقال ما هو نفي للسرقة عن أخيه ونفسه {قال أنتم شر مكانا}، أي أنتم شر منزلة عند الله لأنكم سرقتم أخاكم، وصنعتم السوء من غير جريرة من أبيكم ولا أخيكم، {والله أعلم} علما ليس مثله علم {بما تصفون}، ولو كانوا يعلمون أنه أخوهم يوسف لأدركوا المغزى والمرمى من القول، ولكنهم لم يعلموا، ولم يتوهموا أن يكون هو يوسف والضمير في {فأسرها} يعود إلى الفرية أو الكلمة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} وحاول المفسرون أن يبحثوا في تاريخ يوسف عن هذه السرقة التي ألصقوها به، كما لو كانت حقيقةً، ولم يَدُرْ في أذهانهم، أن المسألة قد تكون مجرّد كذبة استثارها حقدهم على يوسف وأخيه، وعقدتهم التي يحملونها في داخل نفوسهم. وإلاّ فما معنى الحديث عن يوسف، وما المناسبة التي تفرضها طبيعة المشكلة التي يعيشونها في مسألة السرقة ليتحدثوا بهذا الأسلوب؟!...