البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} (77)

وقولهم : إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، لا يدل على الجزم بأنه سرق ، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي : إن كان وقعت منه سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله ، فقد سرق أخ له من قبل .

والتعليق على الشرط على أنّ السرقة في حق بنيامين وأخيه ليس مجزوماً بها ، كأنهم قالوا : إنْ كان هذا الذي رمى به بنيامين حقاً فالذي رمى به يوسف من قبل حق ، لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين ، ولذلك قالوا : إن ابنك سرق .

وقيل : حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر ، فكأنهم قالوا : إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل ، لأن أخاه يوسف قد كان سرق ، فعلى هذا القول يكون قولهم إنحاء على يوسف وبنيامين .

وقيل : التقدير فقد قيل عن يوسف إنه سرق ، وقولهم هذا هو بحسب الظاهر والإخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم ، وتختص بالشقيقين .

وتنكير أخ في قوله : فقد سرق أخ له من قبل ، لأنّ الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له : لأنه كان شقيقه .

والجمهور على أن السرقة التي نسبت هي أن عمته ربته وشب ، وأراد يعقوب أخذه ، فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق ، وكانت متوارثة عندهم ، فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت : فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف ، فاسترقته حسبما كان في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت ، فصار عند أبيه .

وقال قتادة وابن جبير : أمرت أمه أن يسرق صنماً .

وفي كتاب الزجاج : من ذهب لأبيها فسرقه وكسره ، وكان ذلك منها تغييراً للمنكر .

وقال ابن إدريس عن أبيه : إنما أكل بنو يعقوب طعاماً ، فأخذ يوسف عرقاً فنحاه .

وقيل : كان في البيت غاق أو دجاجة ، فأعطاها السائل .

وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي ، وابن أبي شريح عن الكسائي ، والوليد بن حسان عن يعقوب وغيرهم : فقد سرق بالتشديد مبنياً للفعول بمعنى نسب إلى السرقة ، بمعنى جعل سارقاً ولم يكن كذلك حقيقة .

والضمير في قوله : فأسرها يفسره سياق الكلام أي : الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم كما فسره في قول حاتم :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر

وقيل : أسر المجازاة ، وقيل : الحجة .

وقال الزمخشري : اختار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً ، وإنما أنث لأن قوله : أنتم شر مكاناً جملة أو كلمة على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة ، كأنه قيل : فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله .

وقرأ عبد الله ، وابن أبي عبلة : فأسره بضمير تذكير .

قال الزمخشري : يريد القول أو الكلام انتهى .

والظاهر من قوله : أنتم شر مكاناً ، خطابهم بهذا القول في الوجه ، فكأنه أسر كراهية مقالتهم ، ثم وبخهم بقوله : أنتم شر مكاناً ، وفيه إشارة إلى تكذيبهم وتقوية أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم ، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيه الشيخ يعقوب عليه السلام .

وقال قوم : لم يقل يوسف هذا الكلام لهم مواجهة ، إنما قاله في نفسه ، وهو تفسير قوله : الذي أسر في نفسه ، وهو قول الزمخشري المتقدم .

ومعنى شر مكاناً أي منزلة في السرق ، لأنكم سارقون بالصحة لسرقتكم أخاكم من أبيكم .

ومعنى أعلم بما تصفون يعني : هو أعلم بما تصفون منكم ، لأنه عالم بحقائق الأمور ، وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه .

وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه ، فأمر يوسف ابناً له يمسه فسكن غضبه فقال روبيل : لقد مسني أحد من ولد يعقوب ، ثم أنهم تشاوروا في محاربة يوسف وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك ، فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه ، فرأوا من قوته ما استعظموه وعند ذلك .