المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{۞قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} (77)

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ( 77 )

الضمير في { قالوا } لإخوة يوسف ، والأخ الذي أشاروا إليه هو يوسف ، ونكروه تحقيراً للأمر ، إذ كان مما لا علم للحاضرين به ، ثم ألصقوه ببنيامين ، إذ كان شقيقه ، ويحتمل قولهم : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } تأويلين :

أحدهما : أنهم حققوا السرقة في جانب بنيامين ويوسف عليهما السلام ، بحسب ظاهر الحكم ، فكأنهم قالوا : إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل ، لأن أخاه يوسف كان قد سرق . فهذا من الإخوة إنحاء على ابني راحيل : يوسف وبنيامين .

والوجه الآخر الذي يحتمله لفظهم يتضمن أن السرقة في جانب يوسف وبنيامين - مظنونة - كأنهم قالوا : إن كان هذا الذي رمى به بنيامين حقاً في نفسه فالذي رمى به يوسف قبل حق إذاً ، وكأن قصة يوسف والظن به قوي عندهم بما ظهر في جهة وبنيامين .

وقال بعض المفسرين : التقدير : فقد قيل عن يوسف إنه سرق ، ونحو هذا من الأقوال التي لا ينطبق معناها على لفظ الآية .

وهذه الأقوال منهم عليهم السلام إنما كانت بحسب الظاهر وموجب الحكم في النازلتين ، فلم يقعوا في غيبة ليوسف ، وإنما قصدوا الإخبار بأمر جرى ليزول بعض المعرة عنهم ، ويختص بها هذان الشقيقان .

وأما ما روي في سرقة يوسف فثلاثة وجوه : الجمهور منها على أن عمته كانت ربته ، فلما شب أراد يعقوب أخذه منها ، فولعت به وأشفقت من فراقه ، فأخذت منطقة إسحاق - وكانت متوارثة عندهم - فنطقته بها من تحت ثيابه ، ثم صاحت وقالت : إني قد فقدت المنطقة ويوسف قد خرج بها ، ففتشت فوجدت عنده ، فاسترقَّته - حسبما كان في شرعهم - وبقي عندها حتى ماتت فصار عند أبيه .

وقال إدريس عن أبيه : إنما أكل بنو يعقوب طعاماً فأخذ يوسف عرقاً{[6762]} فخبأه فرموه لذلك بالسرقة ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : إنما أمرته أمه أن يسرق صنماً لأبيها ، فسرقه وكسره ، وكان ذلك - منها ومنه - تغييراً للمنكر ، فرموه لذلك بالسرقة ، وفي كتاب الزجاج : أنه كان صنم ذهب{[6763]} .

والضمير في قوله : { فأسرها } عائد يراد به الحزة التي حدثت في نفس يعقوب من قوله ، والكلام يتضمنها ، وهذا كما تضمن الكلام الضمير الذي في قول حاتم :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى*** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر{[6764]}

وهذا كقوله تعالى : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم }{[6765]} [ النحل : 110 ] فهي مراد بها الحالة المتحصلة من هذه الأفعال .

وقال قوم : أسر المجازاة ، وقال قوم : أسر الحجة . وما قدمناه أليق . وقرأ ابن أبي عبلة : «فأسره يوسف » بضمير تذكير .

وقوله : { أنتم شر مكاناً } الآية ، الظاهر منه أنه قالها إفصاحاً فكأنه أسر لهم كراهية مقالتهم ثم تجهمهم بقوله : { أنتم شر مكاناً } أي لسوء أفعالكم ، والله يعلم إن كان ما وصفتموه حقاً ، وفي اللفظ إشارة إلى تكذيبهم ، ومما يقوي هذا عندي أنهم تركوا الشفاعة بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة بالشيخ صلى الله عليه وسلم .

وقالت فرقة - وهو ظاهر كلام ابن عباس - لم يقل يوسف هذا الكلام إلا في نفسه - وإنما هو تفسير للذي أسر في نفسه ، أي هذه المقالة هي التي أسر ، فكأن المراد في نفسه : أنتم***

وذكر الطبري هنا قصصاً اختصاره : أنه لما استخرجت السقاية من رحل بنيامين قال إخوته : يا بني راحيل ألا يزال البلاء ينالنا من جهتكم ؟ فقال بنيامين : بل بنو راحيل ينالهم البلاء منكم : ذهبتم بأخي فأهلكتموه ، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم . فقالوا : لا تذكر الدراهم لئلا نؤخذ بها . ثم دخلوا على يوسف فأخذ الصواع فنقره فطن ، فقال : إنه يخبر أنكم ذهبتم بأخ لكم فبعتموه ، فسجد بنيامين وقال : أيها العزيز سل صواعك هذا يخبرك بالحق .

قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القصص الذي آثرنا اختصاره . وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه ، فأمر بنياً له ، فمسه ، فسكن غضبه ، فقال روبيل : لقد مسني أحد من ولد يعقوب ، ثم إنهم تشاوروا في محاربة يوسف - وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك - فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه ، فرأوا من قوته ما استعظموه عند ذلك وقالوا : { يا أيها العزيز*** } [ يوسف : 88 ] .


[6762]:العرق بفتح العين: اللحم المطبوخ، وقيل: عظم أخذ جل لحمه.
[6763]:وقيل: إن يوسف كان يسرق من طعام المائدة للمساكين، حكاه ابن عيسى. وقال الحسن: إنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه.
[6764]:البيت في (اللسان ـ حشرج)، وقد تمثلت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين دخلت على أبيها عند موته، والرواية (اللسان): أماوي ما يغني... وحاتم فيه يخاطب زوجه ماوية، والحشرجة: تردد صوت النفس، وهو الغرغرة في الصدر عند الموت، والشاهد فيه أن الضمير في (حشرجت) ليس له مرجع مذكور في الكلام.
[6765]:الآية (110) من سورة (النحل).