49- وأمرناك - أيها الرسول - بأن تحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع رغباتهم في الحكم ، واحذرهم أن يصرفوك عن بعض ما أنزله الله إليك . فإن أعرضوا عن حكم الله وأرادوا غيره ، فاعلم أن الله إنما يريد أن يصيبهم بفساد أمورهم ، لفساد نفوسهم ، بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من مخالفة أحكامه وشريعته ، ثم يجازيهم عن كل أعمالهم في الآخرة{[55]} ، وإن كثيراً من الناس لمتمردون على أحكام الشريعة .
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ } هذه الآية هي التي قيل : إنها ناسخة لقوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ْ }
والصحيح : أنها ليست بناسخة ، وأن تلك الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه ، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق . وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم ، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسنة ، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ْ } ودل هذا على بيان القسط ، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام ، فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ، وما خالف ذلك فهو جور وظلم .
{ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ْ } كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها . ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى ، وهو أوسع ، وهذا في مقام الحكم وحده ، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق ، ولهذا قال : { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ْ } أي : إياك والاغترار بهم ، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [ الله ] إليك ، فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب ، والفرض اتباعه .
{ فَإِن تَوَلَّوْا ْ } عن اتباعك واتباع الحق { فَاعْلَمْ ْ } أن ذلك عقوبة عليهم وأن الله يريد { أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ْ } فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة ، ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول ، وذلك لفسقه .
{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ْ } أي : طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله .
ثم كرر - سبحانه - الأمر لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين اليهود وغيرهم بما أنزله الله - تعالى - وحذره من مكرهم وكيدهم فقال : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال كعب بن أسد وابن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه : فأتوه فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعك يهود ولم يخالفونا . وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدق فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . فأنزل الله فيهم : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } .
إلى قوله : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
وقوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } في محل نصب عطفا على الكتاب في قوله : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق } .
وقوله : { أَن يَفْتِنُوكَ } بدل اشتمال من المفعول في { واحذرهم } كأنه قيل : واحذر فتنتهم كما تقول : أعجبني زيد علمه .
والمراد بالفتنة هنا محاولة إضلاله وصرفه عن الحكم بما أنزل الله .
والمعنى : وأنزلنا إليك الكتاب يا محمد فيه حكم الله ، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلناه إليك ولو كان أقل قليل ؛ بأن يصوروا لك الباطل في صورة الحق ، أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم :
وقد كرر - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله ، لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعي التأكيد ، لأن اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته صلى الله عليه وسلم وإغراءه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم ، ولأنه قد جاء في الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد - سبحانه - أن ينفي هذا الوهم نفيا واضحا وأن يؤكد أن شريعته القرآن هي الشريعة العامة الخالدة التي يجب أن يتحاكم إليها الناس في كل زمان ومكان ، لأنها نسخت ما سبقها من شرائع .
وقوله - تعالى - { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } تيئيس لأولئك اليهود الذين حاولوا إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقضي لهم بما يرضيهم لكي يرضيهم لكي يتبعوه ، ونهى له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه عن الاستجابة لأهواء هؤلاء ولو في أقل القليل مما يتنافى مع الحق الذي أمره الله - تعالى - بالسير عليه في القضاء بين الناس .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة كل من يعرض عن حكم الله - تعالى - فقال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } .
أي : فإن توولا عن حكمك ، وأعرضوا عنك بعد تحاكمهم إليك وأرادوا الحكم بغير ما أنزل الله . فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب بعض هذه الذنوب التي اقترفوها بتوليهم عن حكم الله ، وإعراضهم عنك ، وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغي والضلال ، لأن الأمة التي لا تخضع لحكم شرع الله ، وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها الباطلة ، لابد أن يصيبها العقاب الشديد بسبب ذلك .
وعبر - سبحانه - عما يصيبهم من عقاب بأنه بسبب ارتكابهم لبعض الذنوب ، للإِشارة بأن لهم ذنوبا كثيرة بعضها كاف لإنزال العقوبة الشديدة بهم .
وقوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ } اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، ومتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من مخالفيه ولا سيما اليهود .
أي : وإن كثيرا من الناس لخارجون عن طاعتنا ، ومتمردون على أحكامنا ، ومتبعون لخطوات الشيطان الذي استحوذ عليهم ، وإذا كان الأمر كذلك فلا تبتئس يا محمد عما لقيه من أصحاب النفوس المريضة ، بل اصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم .
وقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك ، والنهي عن خلافه .
ثم قال [ تعالى ]{[9934]} { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي : احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من الأمور ، فلا تغتر بهم ، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة . { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عما تحكم به بينهم من الحق ، وخالفوا شرع الله { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي : فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم . { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي : أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم ، مخالفون للحق ناؤون عنه ، كما قال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقال تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الآية ]{[9935]} [ الأنعام : 116 ] .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وابن صلوبا ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلنا نفتنه عن دينه ! فأتوه ، فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة{[9936]} فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ، {[9937]} ونصدقك ! فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، عز وجل ، فيهم : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } إلى قوله : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله } عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم ، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم ، ويجوز أن يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم . { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي أن يضلوك ويصرفوك عنه ، وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم ، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك . روي ( أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم ، إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فنزلت . { فإن تولوا } عن الحكم المنزل وأرادوا غيره . { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى ، فعبر عنه بذلك تنبيها على أن لهم ذنوبا كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها ، وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد :
أو يرتبط بعض النفوس حمامها *** . . .
{ وإن كثيرا من الناس لفاسقون } لمتمردون في الكفر معتدون فيه .
{ وأن احكم } معطوف على { الكتاب } في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب } [ المائدة : 48 ] ، وقال مكي : وهو معطوف على «الحق » في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } [ المائدة : 48 ] ، والوجهان حسنان ، ويقرأ بضم النون من «أنُ احكم » مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع ، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين ، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله { أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] وقد تقدم ذكر ذلك ، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة ، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه ، وقد يجيء أحياناً مقيداً بما فيه خير ، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر : فهوى رسول الله رأي أبي بكر ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك ؟ قال : حق وافق هوى ، والهوى مقصور ووزنه فعل ، ويجمع على أهواء ، والهواء ممدود ويجمع على أهوية ، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم «أن يفتنوه » أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام ، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له مراراً احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك ، وقوله تعالى : { فإن تولوا } قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم ، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله { الفاسقون } ، قوله تعالى : { فاعلم } الآية وعد للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم ، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم ، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا ، فلذلك خصص البعض دون الكل ، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة ، وقوله تعالى : { وإن كثيراً من الناس لفاسقون } إشارة إليهم ، لكن جاءت العبارة تعمهم وغيره ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولٍّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد .