22- لا تجد قوماً يصدِّقون بالله واليوم الآخر يتبادلون المودة مع من عادى الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو أقرباءهم ، أولئك الذين لا يوالون من تطاول على الله ثَبَّت الله في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بقوة منه ، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ، لا ينقطع عنهم نعيمها ، أحبهم الله وأحبوه أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم الفائزون .
{ 22 } { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
يقول تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : لا يجتمع هذا وهذا ، فلا يكون العبد مؤمنا بالله واليوم الآخر حقيقة ، إلا كان عاملا على مقتضى الإيمان{[1022]} ولوازمه ، من محبة من قام بالإيمان وموالاته ، وبغض من لم يقم به ومعاداته ، ولو كان أقرب الناس إليه .
وهذا هو الإيمان على الحقيقة ، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه ، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي : رسمه وثبته وغرسه غرسا ، لا يتزلزل ، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك .
وهم الذين قواهم الله بروح منه أي : بوحيه ، ومعونته ، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني .
وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار ، ولهم جنات النعيم في دار القرار ، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وتختار ، ولهم أكبر النعيم وأفضله ، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات ، ووافر المثوبات ، وجزيل الهبات ، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية ، ولا فوقه نهاية{[1023]} .
وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله ، محب لمن ترك الإيمان{[1024]} وراء ظهره ، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له ، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه ، فمجرد الدعوى ، لا تفيد شيئا ولا يصدق صاحبها .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة لصفات المؤمنين الصادقين فقال : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } .
وقوله : { يُوَآدُّونَ } من الموادة بمعنى حصول المودة والمحبة .
أي : لا تجد - أيها الرسول الكريم - قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان ، يوالون ويحبون من حارب دين الله - تعالى - وأعرض عن هدي رسوله .
والمقصود من هذه الآي الكريمة النهى عن موالاة المنافقين وأشبهاهم ، وإنما جاءت بصيغة الخبر ، لأنه أقوى وآكد فى التنفير عن موالاة أعداء الله ، إذ الإتيان بصيغة الخبر تشعر بأن القوم قد امتثلوا لهذا النهي ، وأن الله - سبحانه - قد أخبر عنهم بذلك .
وافتتحت الآية بقوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً } لأن هذا الافتتاح يثير شوق السامع لمعرفة هؤلاء القوم .
وقوله : { وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ } تصريح بوجوب ترك هذه الموادة لمن حارب الله ورسوله ، مهما كانت درجة قرابة هذا المحارب .
أي : من شأن المؤمنين الصادقين أن يبتعدوا عن موالاة أعداء الله ورسوله ، ولو كاهن هؤلاء الأعداء{ آبَآءَهُمْ } الذين أتوا إلى الحياة عن طريقهم ، { أَوْ أَبْنَآءَهُمْ } الذين هم قطعة منهم . { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } الذين تربطهم بهم رابطة الدم { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } التي ينتسبون إليها ، وذلك لأن قضية الإيمان يجب أن تقدم كل شىء .
وقدم الآباء لأنهم أول من تجب طاعتهم ، وثنى بالأبناء لأنهم ألصق الناس بهم ، وثلث بالإخوان لأنهم الناصرون لهم ، وختم بالعشيرة لأن التناصر بها يأتى فى نهاية المطاف .
ثم أثنى - سبحانه - على هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين لم يوالوا أعداء الله مهما بلغت درجة قرابتهم فقال : { أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان } .
أي : أولئك الذين لا يوادون أعداء الله مهما كانوا ، هم الذين كتب الله - تعالى - الإيمان فى قلوبهم ، فاختلط بها واختلطت به ، فصارت قلوبهم لا تحب إلا من أحب دين الله ، ولا تبغض إلا من أبغضه .
{ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } أي : وثبتهم وقواهم بنور من عنده - سبحانه - فصاروا بسبب ذلك أشداء على الكفار ، رحماء بينهم .
{ وَيُدْخِلُهُمْ } - سبحانه - يوم القيامة { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } خلوداً أبديا ، { رَضِيَ الله عَنْهُمْ } بسبب طاعتهم له ، { وَرَضُواْ عَنْهُ } بسبب ثوابه لهم .
{ أولئك } الموصوفون بذلك { حِزْبُ الله } الذى يشرف من ينتسب إليه .
{ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } فلاحا ونجاحا ليس بعدهما فلاح أو نجاح .
وقد ذكروا روايات متعددة فى سبب نزول هذه الآية الكريمة ، منها : أنها نزلت فى أبى عبيدة عامر بن الجراح ، فقد قتل أباه - وكان كافرا - فى غزوة بدر .
والآية الكريمة تصدق على أبى عبيدة وغيره ممن حاربوا أباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم ، عندما استحب هؤلاء الآباء والأبناء الكفر على الإيمان .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، وجوب عدم موالاة الكفار والفساق والمنافقين والمجاهرين بارتكاب المعاصى . . . مهما بلغت درجة قرابتهم ، ومهما كانت منزلتهم .
ومن دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندى يدا ولا نعمة " .
ثم قال تعالى :{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي : لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ }[ آل عمران : 28 ] الآية ، وقال تعالى :{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[ التوبة : 24 ] .
وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره : أنزلت هذه الآية { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، حين قتل أباه يوم بدر ؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة ، رضي الله عنهم : { ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته } .
وقيل في قوله : { وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر{ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } في{[28474]} الصديق ، هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن ، { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } في مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } في عمر ، قتل قريبا له يومئذ أيضًا ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ ، والله أعلم .
قلت : ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر ، فأشار الصديق بأن يفادوا ، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو العم والعشيرة ، ولعل الله أن يهديهم . وقال عمر : لا أرى ما رأى يا رسول الله ، هل{[28475]} تمكني من فلان - قريب لعمر - فأقتله ، وتمكن عليًا من عقيل ، وتمكن فلانًا من فلان ، ليعلم الله أنه ليست{[28476]} في قلوبنا هوادة للمشركين . . . القصة بكاملها .
وقوله : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي : من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه ، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان ، أي : كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته .
وقال السدي : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ } جعل في قلوبهم الإيمان .
وقال ابن عباس : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي : قواهم .
وقوله :{ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } كل هذا تقدم تفسيره غير مرة .
وفي قوله :{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } سر بديع ، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العميم .
وقوله :{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : هؤلاء حزبُ الله ، أي : عباد الله {[28477]} وأهل كرامته .
وقوله :{ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم{[28478]} في الدنيا والآخرة ، في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان . ثم قال :{ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
وقد قال بن أبي حاتم : حدثنا هارون بن حميد الواسطي ، حدثنا الفضل بن عَنْبَسة ، عن رجل قد سماه - يقال{[28479]} هو عبد الحميد بن سليمان ، انقطع من كتابي - عن الذَيَّال بن عباد قال : كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري : أعلم أن الجاه جاهان ، جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه ، وأنهم الخامل ذكرهم ، الخفية شخوصهم ، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . " إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء ، الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا ، وإذا حضروا لم يُدْعَوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة " {[28480]} فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله : { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
وقال نُعَيم بن حَمّاد : حدثنا محمد بن ثور ، عن يونس ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ، لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدًا ولا نعمة ، فإني وجدت فيما أوحيته إلي : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان . ورواه أبو أحمد العسكري .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلََئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { لا تَجِدُ قَوْما يُوءْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ }لا تجد يا محمد قوما يصدّقون الله ، ويقرّون باليوم الاَخر يوادّون من حادّ الله ورسوله وشاقّهما وخالف أمر الله ونهيه { وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ } يقول : ولو كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم { أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ }وإنما أخبر الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم } ليسوا من أهل الإيمان بالله ولا باليوم الاَخر ، فلذلك تولّوُا الذين تولّوْهم من اليهود . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لا تَجِدُ قَوْما يُوءْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ } لا تجد يا محمد قوما يؤمنون بالله واليوم الاَخر ، يوادّون من حادّ الله ورسوله : أي من عادى اللّهَ ورسولَه .
وقوله : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ }يقول جلّ ثناؤه : هؤلاء الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم ، أو أبناءهم ، أو إخوانهم ، أو عشيرتهم ، كتب الله في قلوبهم الإيمان . وإنما عُنِي بذلك : قضى لقلوبهم الإيمان ، ففي بمعنى اللام ، وأخبر تعالى ذكره أنه كتب في قلوبهم الإيمان لهم ، وذلك لمّا كان الإيمان بالقلوب ، وكان معلوما بالخبر عن القلوب أن المراد به أهلها ، اجتزى بذكرها مِنْ ذكر أهلها .
وقوله : { وأيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ }يقول : وقوّاهم بِبرْهان منه ونور وهدى { وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ } يقول : ويدخلهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار { خالِدِينَ فِيها }يقول : ماكثين فيها أبدا { رِضِيَ اللّهُ عَنْهُمُ } بطاعتهم إياه في الدنيا { وَرَضُوا عَنْهُ }في الاَخرة بإدخاله إياهم الجنةَ{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللّهِ } يقول : أولئك الذين هذه صفتهم جند الله وأولياؤه { ألا إنّ حِزْبَ اللّهِ }يقول : ألا إن جند الله وأولياءه { هُمُ المُفْلِحون } يقول : هم الباقون المُنْجَحون بإدراكهم ما طلبوا ، والتمسوا ببيعتهم في الدنيا ، وطاعتهم ربهم .
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله }أي لا ينبغي أن تجدهم وادين أعداء الله والمراد أنه لا ينبغي أن يوادوهم { ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } ولو كان المحادون أقرب الناس إليهم ، { أولئك } أي الذين لم يوادوهم { كتب في قلوبهم الإيمان } أثبته فيها وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان فإن جزء الثابت في القلب يكون ثابتا فيه وأعمال الجوارح لا تثبت فيه ، { وأيدهم بروح منه } أي من عند الله وهو نور القلب أو القرآن أو بالنصر على العدو قيل الضمير ل الإيمان فإنه سبب لحياة القلب ، { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم }بطاعتهم { ورضوا عنه } بقضائه أو بما وعدهم من الثواب ، { أولئك حزب الله }جنده وأنصار دينه { ألا إن حزب الله هم المفلحون }الفائزون بخير الدارين .
نفت هذه الآية أن يوجد من يؤمن بالله تعالى حق الإيمان ويلتزم شعبه على الكمال يواد كافراً أو منافقاً . ومعنى يواد : يكون بينهما من اللطف بحيث يود كل واحد منهما صاحبه ، وعلى هذا التأويل قال بعض الصحابة : اللهم لا تجعل لمشرك قبلي يداً فتكون سبباً للمودة فإنك تقول وتلا هذه الآية ، وتحتمل الآية أن يريد بها لا يوجد من يؤمن بالله والبعث يواد { من حاد الله } من حيث هو محاد لأنه حينئذ يود المحادة ، وذلك يوجب أن لا يكون مؤمناً .
ويروى أن هذه الآية نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة ومخاطبته أهل مكة ، وظاهر هذه الآيات ، أنها متصلة المعنى ، وأن هذا في معنى الذم للمنافقين الموالين لليهود ، وإذا قلنا إنها في أمر حاطب جاء ذلك أجنبياً في أمر المنافقين ، وإن كان شبيهاً به ، والإخوان هنا إخوة النسب ، كما عرف الإخوة أنه في النسب ، وقد يكون مستعملاً في إيخاء الود ، و { كتب في قلوبهم الإيمان } معناه : أثبته . وخلقه بالإيجاد ، وذهب أبو علي الفارسي وغيره من المعتزلة ، إلى أن المعنى جعل في قلوبهم علامات تعرف الملائكة بها أنهم مؤمنون ، وذلك لأنهم يرون العبد يخلق إيمانه ، وقد صرح النقاش بهذا المذهب ، وما أراه إلا قاله غير محصل لما قال . وأما أبو علي الفارسي فعن بصر به{[11016]} ، وقرأ جمهور القراء «كَتَب » على بناء الفعل للفاعل ، «والإيمان » بالنصب ، وقرأ أبو حيوة وعاصم في رواية المفضل عنه «كُتِبَ » على بناء الفعل للمفعول ، و «الإيمانُ » بالرفع ، وقوله :{ أولئك } إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية ، لأن المعنى لكنك تجدهم لا يوادون من حاد الله ، وقوله تعالى : { بروح منه } معناه : بهدى ولطف ونور وتوفيق إلهي ينقدح من القرآن ، وكلام النبي عليه السلام ، وقيل : المعنى بالقرآن لأنه روح ، قيل : المعنى بجبريل عليه السلام ، والحزب الطريق الذي يجمعه مذهب واحد ، والمفلح : الفائز ببغيته ، وباقي الآية بين .
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَآدُّونَ مَنْ حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } } .
كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم ، فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادّة من يعادي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ورُويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد استقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود ، فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها .
وافتتاح الكلام ب { لا تجد قوماً } يثير تشويقاً إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادّة من يعلم أنه محادّ الله ورسوله هي مما ينافي الإِيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبساً بها . فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم ، من قبيل قولهم : لا أَرَيَنَّك هاهنا ، أي لا تحضر هنا .
ومنه قوله تعالى : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس : 18 ] أراد بما لا يكون ، لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجوداً ، وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة . وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذٍ مكشوفاً والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة . فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستوراً في المنافقين فكان التحرز من موادّتهم أجدر وأحذر .
والمُوادّة أصلها : حصول المودّة في جانبين . والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودّة ، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتباراً بأن شأن الودّ أن يجلب وُدًّا من المودود للوادّ .
وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقاً لأن الوادَّ الصادق يقابله المودود بمثله . ويعرف ذلك بشواهد المعاملة ، وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يقل الله هنا { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] ، لأن المودة من أحوال القلب فلا تُتَصور معها التقية ، بخلاف قوله : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } إلى قوله : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] .
وقولُه : { ولو كانوا آباءهم } إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد يقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة .
ثم إن الذي يُحَادُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهراً بذلك معلناً به ، أو متجاهراً بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوةٍ دنيوية ، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته قال تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } [ الممتحنة : 9 ] ولم يرخَّص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتّقاء شرّهم إن كان لهم بأس قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] .
وأما من عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شَرّه عن المسلمين ، قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } [ الممتحنة : 8 ] .
ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بيّن شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البرّ والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } [ الممتحنة : 8 ] وأن لكل منهما حالتها .
ف { لو } وصلية وتقدم بيان معنى { لو } الوصلية عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلّي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره .
وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن أهل الإِيمان الكامل لا يوادُّون من فيه معنى من محادّة الله ورسوله بخرق سياج شريعته عمداً والاستخفاف بحرمات الإِسلام ، وهؤلاء مثل أهل الظلم والعدوان في الأعمال من كل ما يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدّين وينبىء عن ضُعف احترامه للدين مثل المتجاهرين بالكبائر والفواحش الساخرين من الزواجر والمواعظ ، ومثل أهل الزيغ والضلال في الاعتقاد ممن يؤذن حالهم بالإِعراض عن أدلة الاعتقاد الحق ، وإيثار الهوى النفسي والعصبية على أدلة الاعتقاد الإِسلامي الحق . فعن الثوري أنه قال : كانوا يرون تنزيل هذه الآية على من يصحب سلاطين الجَور . وعن مالك : لا تجالِسْ القدرية وعَادِهم في الله لقوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } .
وقال فقهاؤنا : يجوز أو يجب هجران ذي البدعة الضالّة أو الانغماس في الكبائر إذا لم يقبل الموعظة .
وهذا كله من إعطاء بعض أحكام المعنى الذي فيه حكم شرعي أو وعيد لمعنى آخر فيه وصفٌ من نوع المعنى ذي الحكم الثابت . وهذا يرجع إلى أنواع من الشبَه في مسالك العلة للقياس فإن الأشياء متفاوتة في الشبه .
وقد استدل أئمة الأصول على حُجِّيّة الإِجماع بقوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنم } [ النساء : 115 ] مع أن مهيع الآية المحْتج بها إنما هو الخروج عن الإِسلام ولكنهم رأوا الخروجَ مراتب متفاوتة فمخالفة إجماع المسلمين كلِّهم فيه شَبه اتّباع غير سبيل المؤمنين .
{ أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } .
الإِشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم { يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } .
والجملة مُستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الأوصاف السابقة ووقوعها عقب ما وصف به المنافقون من محادّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سابقاً وآنفاً ، وما توعدهم الله به أنه أعدّ لهم عذاباً شديداً ولهم عذاب مهين ، وأنهم حزب الشيطان ، وأنهم الخاسرون ، مما يَستشرِف بعده السامع إلى ما سيخبر به عن المتصفين بضد ذلك . وهم المؤمنون الذين لا يوادُّون من حادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وكتابة الإِيمان في القلوب نظير قوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] . وهي التقدير الثابت الذي لا تتخلف آثاره ، أي هم المؤمنون حقاً الذين زين الله الإِيمان في قلوبهم فاتّبعوا كمالَه وسلكوا شُعبه .
والتأييد : التقوية والنصر . وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { وأيدناه بروح القدس } في سورة [ البقرة : 87 ] ، أي أن تأييد الله إياهم قد حصل وتقرّر بالإِتيان بفعل المضيّ للدلالة على الحصول وعلى التحقق والدوام فهو مستعمل في معنييه .
والروح هنا : ما به كمال نوع الشيء من عمل أو غيره ، وروحٌ من الله : عنايته ولطفه . ومعاني الروح في قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } في سورة [ الإِسراء : 85 ] ، ووعدهم بأنه يدخلهم في المستقبل الجنات خالدين فيها .
ورضَى الله عنهم حاصل من الماضي ومحقّق الدوام فهو مِثل الماضي في قوله : { وأيدهم } ، ورضاهم عن ربهم كذلك حاصل في الدنيا بثباتهم على الدين ومعاداة أعدائه ، وحاصل في المستقبل بنوال رضى الله عنهم ونوال نعيم الخلود .
وأما تحويل التعبير إلى المضارع في قوله : { ويدخلهم جنات } فلأنه الأصل في الاستقبال . وقد استغني عن إفادة التحقيق بما تقدمه من قوله تعالى : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } .
وقوله : { أولئك حزب الله } إلى آخره كالقول في { أولئك حزب الشيطان } [ المجادلة : 19 ] . وحرف التنبيه يحصل منه تنبيه المسلمين إلى فضلهم . وتنبيه من يسمع ذلك من المنافقين إلى ما حبا الله به المسلمين من خير الدنيا والآخرة لعل المنافقين يغبطونهم فيخلصون الإِسلام .
وشتان بين الحزبين . فالخسران لحزب الشيطان ، والفلاح لحزب الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وقوله: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر} يعني يصدقون بالله أنه واحد لا شريك له، ويصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {يوادون من حاد الله ورسوله} يعني يناصحون من عادى الله ورسوله... {ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك} الذين لم يفعلوا ذلك {كتب} يقول جعل {في قلوبهم الإيمان} يعني التصديق... {وأيدهم بروح منه} يقول قولهم برحمة من الله عجلت لهم في الدنيا، {ويدخلهم} في الآخرة {جنات} يعني بساتين {تجري من تحتها الأنهار} مطردة، {خالدين فيها} يعني مقيمن في الجنة لا يموتون، {رضي الله عنهم} بأعمالهم الحسنة {ورضوا عنه} يعني عن الله بالثواب والفوز، {أولئك} الذين ذكر {حزب الله} يعني شيعة الله {ألا إن حزب الله} يعني ألا أن شيعة الله {هم المفلحون} يعني الفائزين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {لا تَجِدُ قَوْما يُؤمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ}: لا تجد يا محمد قوما يصدّقون الله، ويقرّون باليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله وشاقّهما وخالف أمر الله ونهيه {وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ} يقول: ولو كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم {أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ} وإنما أخبر الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم} ليسوا من أهل الإيمان بالله ولا باليوم الآخر، فلذلك تولّوُا الذين تولّوْهم من اليهود...
وقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} يقول جلّ ثناؤه: هؤلاء الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، كتب الله في قلوبهم الإيمان. وإنما عُنِي بذلك: قضى لقلوبهم الإيمان، ف"في" بمعنى اللام، وأخبر تعالى ذكره أنه كتب في قلوبهم الإيمان لهم، وذلك لمّا كان الإيمان بالقلوب، وكان معلوما بالخبر عن القلوب أن المراد به أهلها، اجتزى بذكرها مِنْ ذكر أهلها.
وقوله: {وأيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} يقول: وقوّاهم بِبرْهان منه ونور وهدى {وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ} يقول: ويدخلهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار {خالِدِينَ فِيها} يقول: ماكثين فيها أبدا {رِضِيَ اللّهُ عَنْهُمُ} بطاعتهم إياه في الدنيا {وَرَضُوا عَنْهُ} في الآخرة بإدخاله إياهم الجنةَ. {أُولَئِكَ حِزْبُ اللّهِ} يقول: أولئك الذين هذه صفتهم جند الله وأولياؤه. {ألا إنّ حِزْبَ اللّهِ} يقول: ألا إن جند الله وأولياءه {هُمُ المُفْلِحون} يقول: هم الباقون المُنْجَحون بإدراكهم ما طلبوا، والتمسوا ببيعتهم في الدنيا، وطاعتهم ربهم.
المحادَّةُ أن يكون كل واحد منهما في حَدٍّ وحَيِّزٍ غير حدّ صاحبه وحيّزه، فظاهره يقتضي أن يكون المراد أهْلَ الحرب لأنهم في حدّ غير حدّنا...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمناً لا يوالي من كفر، وإن كان من عشيرته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً} من باب التخييل، خيل أن من الممتنع المحال: أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله: {وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءَهُمْ} وبقوله: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} وبمقابلة قوله: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان} [المجادلة: 99] بقوله: {أولئك حزب الله} فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، بل هو الإخلاص بعينه {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} أثبته فيها بما وفقهم فيه وشرح له صدورهم، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} بلطف من عنده حييت به قلوبهم. ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نفت هذه الآية أن يوجد من يؤمن بالله تعالى حق الإيمان ويلتزم شعبه على الكمال يواد كافراً أو منافقاً. ومعنى يواد: يكون بينهما من اللطف بحيث يود كل واحد منهما صاحبه...
{كتب في قلوبهم الإيمان} معناه: أثبته...
وقوله تعالى: {بروح منه} معناه: بهدى ولطف ونور وتوفيق إلهي ينقدح من القرآن، وكلام النبي عليه السلام. والحزب الطريق الذي يجمعه مذهب واحد. والمفلح: الفائز ببغيته.
المعنى أنه لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله، وذلك لأن من أحب أحدا امتنع أن يحب مع ذلك عدوه...
فإن قيل: أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاشرتهم، فما هذه المودة المحرمة المحظورة؟
قلنا: المودة المحظورة هي إرادة منافسه دينا ودنيا مع كونه كافرا، فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه.
ثم إنه تعالى بالغ في المنع من هذه المودة من وجوه؛
(أولها) ما ذكر أن هذه المودة مع الإيمان لا يجتمعان.
(وثانيها) قوله: {ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} والمراد أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع الميل، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مغلوبا مطروحا بسبب الدين.
(وثالثها) أنه تعالى عدد نعمه على المؤمنين، فبدأ بقوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المعنى أن من أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله.
(وثانيها) المراد شرح صدورهم للإيمان بالألطاف والتوفيق.
والنعمة الثانية: قوله: {وأيدهم بروح منه}...
{منه} عائد إلى الإيمان والمعنى أيدهم بروح من الإيمان يدل عليه...
{ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها} وهو إشارة إلى نعمة الجنة.
(النعمة الرابعة) قوله تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وهي نعمة الرضوان، وهي أعظم النعم وأجل المراتب، ثم لما عدد هذه النعم ذكر الأمر الرابع من الأمور التي توجب ترك الموادة مع أعداء الله فقال: {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} وهو في مقابلة قوله فيهم: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
يفهم من قوله تعالى: {حاد الله ورسوله}...أن المراد بهم المحاربون لله ولرسوله الصادون عن سبيله المجاهرون بالعداوة والبغضاء، وهم الذين أخبر عنهم قبل بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول فتشمل الآية المشركين وأهل الكتاب المحاربين المحادين لنا، أي الذين على حد منا، ومجانبة لشؤوننا، تحقيقا لمخالفتنا، وترصدا للإيقاع بنا وأما أهل الذمة الذين بين أظهرنا ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا واستكان لأحكامنا وقضائنا فأولئك لا تشملهم الآية لأنهم ليسوا بمحادين لنا بالمعنى الذي ذكرناه ولذا كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا وجاز التزويج منهم ومشاركتهم والاتجار معهم وعيادة مرضاهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله).. فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين: ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله... (ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)...
. فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان...
(أولئك كتب في قلوبهم الإيمان).. فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن...
وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق... (ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).. جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة... (رضي الله عنهم ورضوا عنه)...
. وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء، في مقام عال رفيع. وفي جو راض وديع.. ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم...
(أولئك حزب الله).. فهم جماعته. المتجمعة تحت لوائه...
. (ألا إن حزب الله هم المفلحون). ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وافتتاح الكلام ب {لا تجد قوماً} يثير تشويقاً إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم. والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادّة من يعلم أنه محادّ الله ورسوله هي مما ينافي الإِيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبساً بها...
والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودّة، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتباراً بأن شأن الودّ أن يجلب وُدًّا من المودود للوادّ. وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقاً لأن الوادَّ الصادق يقابله المودود بمثله. ويعرف ذلك بشواهد المعاملة...
] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلّي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره. وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد...
. {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون}. الإِشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم {يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يمثل خطّاً للفكر والعاطفة والحياة، كما تمثل المحادة لله ورسوله خطّاً آخر في هذه المواقع...فإنّ كلّ واحدٍ منهما ينفي الآخر {وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فلا قيمة لصلة القرابة، مهما كانت قريبة، أمام مسألة العقيدة، فقد تفرض عليه العقيدة في مواقف التحدي أن يقتل الإنسان أباه أو ولده أو أخاه أو أفراد عشيرته إذا وقفوا في الموقف المعادي للإسلام وللمسلمين...
لتأكيد صدق الانتماء إلى حزب الله، الانتماء الى الإسلام بالمعنى البسيط الرسمي الذي يدخل به الإنسان إلى الإسلام، ذلك أن الفارق فيما بينهما، تماماً كما هو الفارق بين الإسلام والإيمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخرين يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم}. نعم، لا يجتمع حبّان متضادّان في قلب واحد، والذين يدّعون إمكانية الجمع بين الاثنين، فإنّهم إمّا ضعفاء الإيمان أو منافقون، ولذلك نلاحظ في الغزوات الإسلامية أنّ جمعاً من أقرباء المسلمين كانوا في صفّ المخالفين والأعداء، ومع ذلك قاتلهم المسلمون حتّى قتلوا قسماً منهم. إنّ حبّ الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة شيء ممدوح، ودليل على عمق العواطف الإنسانية، إلاّ أنّ هذه المحبّة حينما تكون بعيدة عن حبّ الله فإنّها ستفقد خاصيّتها...