{ 22 } { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ }
والعَالِمُون هم أهل العلم الذين يفهمون العبر ويتدبرون الآيات . والآيات في ذلك كثيرة : فمن آيات خلق السماوات والأرض وما فيهما ، أن ذلك دال على عظمة سلطان اللّه وكمال اقتداره الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة ، وكمال حكمته لما فيها من الإتقان وسعة علمه ، لأن الخالق لا بد أن يعلم ما خلقه { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } وعموم رحمته وفضله لما في ذلك من المنافع الجليلة ، وأنه المريد الذي يختار ما يشاء لما فيها من التخصيصات والمزايا ، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويوحد لأنه المنفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة ، فكل هذه أدلة عقلية نبه اللّه العقول إليها وأمرها بالتفكر واستخراج العبرة منها .
{ و } كذلك في { اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } على كثرتكم وتباينكم مع أن الأصل واحد ومخارج الحروف واحدة ، ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كل وجه ولا لونين متشابهين من كل وجه إلا وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز . وهذا دال على كمال قدرته ، ونفوذ مشيئته .
و [ من ]{[645]} عنايته بعباده ورحمته بهم أن قدر ذلك الاختلاف لئلا يقع التشابه فيحصل الاضطراب ويفوت كثير من المقاصد والمطالب .
ثم ذكر - سبحانه - آية ثالثة فقال : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض } أى : ومن آياته الدالة على قدرته التامة على كل شئ ، خلقه للسموات والأرض بتلك الصورة البديعة { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } أى : واختلاف لغاتكم فهذا يتكلم بالعربية ، وآخر بالفارسية وثالث بالرومية . . إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده من اللغات ، بل إن الأمة الواحدة تجد فيها عشرات اللغات التى يتكلم بها أفرادها ، ومئات اللهجات { وَأَلْوَانِكُمْ } أى : ومن آياته كذلك ، اختلاف ألوانكم ، فهذا أبيض ، وهذا أسود ، وهذا لا أصفر ، وهذا أشقر . . مع أن الجميع من أب واحد وأم واحدة وهما آدم وحواء . بل إنك لا تجد شخصين يتطابقان تطابقا تاما فى خلقتهما وشكلهما .
قال صاحب الكشاف : الألسنة : اللغات . او اجناس النطق واشكاله . خالف - عز وجل - بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين فى همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة . . ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله ، وكذلك الصور وتخطيطها ، والألوان وتنويعها ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف ، ولو اتفقت وتشاكلت ، وكانت ضربا واحدا ، لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت مصالح كثيرة . . وهم على الكثرة التى لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون .
{ إِنَّ فِي ذلك } الذى وضحناه لكم { لآيَاتٍ } بينات { لِّلْعَالَمِينَ } - بفتح اللام - وهى قراءة الجمهور ، أى : إن فى ذلك لآيات لجميع أصناف العالم من بار وفاجر ، ومؤمن وكافر .
وقرأ حفص - بكسر اللام - أى إن فى ذلك لآيات لأولى العلم والفهم من الناس .
يقول تعالى : ومن آيات قدرته العظيمة { خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خلق السموات في ارتفاعها واتساعها ، وشفوف أجرامها وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات ، والأرض في انخفاضها وكثافتها وما فيها من جبال وأودية ، وبحار وقفار ، وحيوان وأشجار .
وقوله : { وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ } يعني : اللغات ، فهؤلاء بلغة العرب ، وهؤلاء تَتَرٌ لهم لغة أخرى ، وهؤلاء كَرَج ، وهؤلاء روم ، وهؤلاء إفرنج ، وهؤلاء بَرْبر ، وهؤلاء تكْرور ، وهؤلاء حبشة ، وهؤلاء هنود ، وهؤلاء عجم ، وهؤلاء صقالبة ، وهؤلاء خزر ، وهؤلاء أرمن ، وهؤلاء أكراد ، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله من اختلاف لغات بني آدم ، واختلاف ألوانهم وهي حُلاهم ، فجميع أهل الأرض - بل أهل الدنيا - منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة : كل له عينان وحاجبان ، وأنف وجبين ، وفم وخدان . وليس يشبه واحد منهم الآخر ، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ، ظاهرا كان أو خفيا ، يظهر عند التأمل ، كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئة لا تشبه الأخرى . ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح{[22799]} ، لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر ، { إنَّ فِي ذَلِك لآيات للعَالَمين } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن حججه وأدلته أيضا على أنه لا يُعجزه شيء ، وأنه إذا شاء أمات من كان حيا من خلقه ، ثم إذا شاء أنشره وأعاده كما كان قبل إماتته إياه خلقه السموات والأرض من غير شيء أحدث ذلك منه ، بل بقدرته التي لا يمتنع معها عليه شيء أراده وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ يقول : واختلاف منطق ألسنتكم ولغاتها وألْوَانِكُمْ يقول : واختلاف ألوان أجسامكم إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ للْعالَمِينَ يقول : إن في فعله ذلك كذلك لعبرا وأدلة لخلقه الذين يعقلون أنه لا يعيبه إعادتهم لهيئتهم التي كانوا بها قبل مماتهم من بعد فنائهم . وقد بيّنا معنى العالمين فيما مضى قبل .
{ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم } لغاتكم بأن علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها وأقدره عليها ، أو أجناس نطفكم وأشكاله فإنك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية . { وألوانكم } بياض الجلد وسواده ، أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها ، وحلاها بحيث وقع التمايز والتعارف حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة . { إن في ذلك لآيات للعالمين } لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو انس أو جن ، وقرأ حفص بكسر اللام ويؤيد قوله : { وما يعقلها إلا العالمون } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.