35- الله مصدر النور في السماوات والأرض ، فهو منورهما بكل نور حسي نراه ونسير فيه ، وبكل نور معنوي ، كنور الحق والعدل ، والعلم والفضيلة ، والهدى والإيمان ، وبالشواهد والآثار التي أودعها مخلوقاته ، وبكل ما يدل علي وجود الله ويدعو إلي الإيمان به سبحانه ، وَمَثلُ نوره العظيم وأدلته الباهرة في الوضوح ، كمثل نور مصباح شديد التوهج ، وضع في فجوة من حائط تساعد علي تجميع نوره ووفرة إضاءته ، وقد وضع المصباح في قارورة صافية لامعة لمعان كوكب مشرق ، يتلألأ كالدر ويستمد المصباح وقوده من زيت شجرة كثيرة البركات ، طيبة التربة والموقع ، هي شجرة الزيتون المغروسة في مكان معتدل متوسط ، فلا هي شرقية فتحرم حرارة الشمس آخر النهار ، ولا هي غربية فتحرمها أول النهار ، بل هي علي قمة الجبل ، أو في فضاء الأرض تفيد من الشمس في جميع أجزاء النهار ، يكاد زيت هذه الشجرة لشدة صفائه يضيء ، ولو لم تمسسه نار المصباح ، فهذه العوامل كلها تزيد المصباح إضاءة فوق إضاءة ، ونوراً علي نور .
وهكذا تكون الشواهد المنبثة في الكون حسيها ومعنويها آيات واضحة لا تدع مجالا للشك في وجود الله ، وفي وجوب الإيمان به وبرسالاته وما جاءت به . والله يوفق من يشاء إلي الإيمان عن طريقها ، إذا حاول الانتفاع بنور عقله . وقد أتى الله بالأمثلة المحسوسة ليسهل إدراك الأمور المعقولة ، وهو سبحانه واسع العلم ، يعلم من نظر في آياته ، ومن أعرض واستكبر ، ومجازيهم علي ذلك .
{ 35 } { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الحسي والمعنوي ، وذلك أنه تعالى بذاته نور ، وحجابه -الذي لولا لطفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه- نور ، وبه استنار العرش ، والكرسي ، والشمس ، والقمر ، والنور ، وبه استنارت الجنة . وكذلك النور المعنوي يرجع إلى الله ، فكتابه نور ، وشرعه نور ، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور . فلولا نوره تعالى ، لتراكمت الظلمات ، ولهذا : كل محل ، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر ، { مَثَلُ نُورِهِ } الذي يهدي إليه ، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين ، { كَمِشْكَاةٍ } أي : كوة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ } من صفائها وبهائها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : مضيء إضاءة الدر . { يُوقَدُ } ذلك المصباح ، الذي في تلك الزجاجة الدرية { مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أي : يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون ، { لَا شَرْقِيَّةٍ } فقط ، فلا تصيبها الشمس آخر النهار ، { وَلَا غَرْبِيَّةٍ } فقط ، فلا تصيبها الشمس [ أول ]{[564]} النهار ، وإذا انتفى عنها الأمران ، كانت متوسطة من الأرض ، كزيتون الشام ، تصيبها الشمس أول النهار وآخره ، فتحسن وتطيب ، ويكون أصفى لزيتها ، ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا } من صفائه { يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } فإذا مسته النار ، أضاء إضاءة بليغة { نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي : نور النار ، ونور الزيت .
ووجه هذا المثل الذي ضربه الله ، وتطبيقه على حالة المؤمن ، ونور الله في قلبه ، أن فطرته التي فطر عليها ، بمنزلة الزيت الصافي ، ففطرته صافية ، مستعدة للتعاليم الإلهية ، والعمل المشروع ، فإذا وصل إليه العلم والإيمان ، اشتعل ذلك النور في قلبه ، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح ، وهو صافي القلب من سوء القصد ، وسوء الفهم عن الله ، إذا وصل إليه الإيمان ، أضاء إضاءة عظيمة ، لصفائه من الكدورات ، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ، فيجتمع له نور الفطرة ، ونور الإيمان ، ونور العلم ، وصفاء المعرفة ، نور على نوره .
ولما كان هذا من نور الله تعالى ، وليس كل أحد يصلح له ذلك ، قال : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } ممن يعلم زكاءه وطهارته ، وأنه يزكي معه وينمو . { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ليعقلوا عنه ويفهموا ، لطفا منه بهم ، وإحسانا إليهم ، وليتضح الحق من الباطل ، فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة ، فيعلمها العباد علما واضحا ، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فعلمه محيط بجميع الأشياء ، فلتعلموا أن ضربه الأمثال ، ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها ، وأنها مصلحة للعباد ، فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها ، لا بالاعتراض عليها ، ولا بمعارضتها ، فإنه يعلم وأنتم لا تعلمون .
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، إلى الحديث عن جلال الله - تعالى - ونوره وعظمته وعن بيوته التى أذن لها أن ترفع ، وعن الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعته وتقديسه ، وعن الجزاء الحسن الذى أعده الله - سبحانه - لهؤلاء الأخيار ، فقال : { الله نُورُ . . . } .
قال الإمام القرطبى ما ملخصه : " قوله - تعالى - : { الله نُورُ السماوات والأرض } . النور فى كلام العرب : الأضواء المدركة بالبصر . واستعمل مجازا فيما صح من المعانى ولاح . فيقال : كلام له نور . . . وفلان نور البلد .
فيجوز أن يقال : الله - تعالى - نور ، من جهة المدح ، لأنه أوجد جميع الأشياء ، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها ، وعنه صدورها ، وهو - سبحانه - ليس من الأضواء المدركة ، جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية : فقيل : المعنى : به وبقدرته أنارت أضواؤها . واستقامت أمورها ، وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما يقال : الملك نور أهل البلد ، أى : به قوام أمرها . . . فهو - أى النور - فى الملك مجاز . وهو فى صفة الله - تعالى - حقيقة محضة .
قال ابن عرفة : أى منور السموات والأرض . وقال مجاهد : مدبر الأمور فى السموات والأرض .
قال ابن عباس : المعنى : الله هادى السموات والأرض . والأول أعم للمعانى وأصح مع التأويل .
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو الذى رجحه الإمام القرطبى فيكون معنى الجملة الكريمة : الله - تعالى - هو نور العالم كله علويه وسفليه ، بمعنى منوره بالمخلوقات التكوينية ، وبالآيات التنزيلية ، وبالرسالات السماوية ، الدالة دلالة واضحة على وجوده - سبحانه - وعلى وحدانيته ، وقدرته ، وسائر صفاته الكريمة ، والهادية إلى الحق ، وإلى ما به صلاح الناس فى دنياهم وآخرتهم .
وقال ابن كثير : " وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول : " اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن " .
وقال صلى الله عليه وسلم فى دعائه يوم آذاه المشركون من أهل الطائف : " أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بى غضبك ، أو ينزل بى سخطك ، لك العتبى - أى الرجوع عن الذنب - حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
وأضاف - سبحانه - نوره إلى السموات والأرض ، للدلالة على سعة إشراق هذا النور ، وعموم سنائه ، وتمام بهائه فى الكون كله .
ثم قرب - عز وجل - نوره إلى الأذهان فقال : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ . . . } .
أى : صفة نوره العجيبة الشأن فى الإضاءة والسطوع ، كصفة مشكاة - وهى الفتحة الصغيرة فى الجدار دون أن تكون نافذة فيه - هذه المشكاة فيها مصباح ، أى : سراج ضخم ثاقب تشع منه الأنوار .
وقال - سبحانه - : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن وجود المصباح فى هذه المكشاة يكون أجمع لنوره ، وأحصر لضيائه ، فيبدو قويا متألقا ، بخلاف مالو كان المصباح فى مكان نافذ فإنه لا يكون كذلك .
{ المصباح فِي زُجَاجَةٍ } أى : فى قنديل من الزجاج الصافى النقى ، الذى يقيمه الريح ، ويزيده توهجا وتألقا .
هذه { الزجاجة } فى ذاتها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أى شديد الإنارة ، نسبة إلى الدر فى صفائه وسنائه وإشراقه وحسنه .
{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أى : هذا المصباح يستمد نوره من زيت شجرة مباركة أى : كثيرة المنافع ، زيتونة أى : هى شجرة الزيتون .
فحرف " من " لابتداء الغاية ، والكلام ، على حذف مضاف ، أى : من زيت شجرة ، مباركة : صفة لشجرة ، وزيتونة : بدل أو عطف بيان من شجرة .
ووصف - سبحانه - شجرة الزيتون بالبركة ، لطول عمرها ، وتعدد فوائدها التى من مظاهرها : الانتفاع بزيتها وخصبها وورقها وثمارها .
قال - تعالى - : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } وقوله - سبحانه - : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } صفة أخرى لشجرة الزيتون .
أى : أن هذه الشجرة ليست متميزة إلى مكان معين أو جهة معينة بل هيى مستقبلة للشمس طول النهار ، تسطع عليها عند شروقها وعند غروبها وما بين ذلك ، فترتب على تعرضها للشمس طول النهار ، امتداد حياتها ، وعظم نمائها وحسن ثمارها .
وقوله - تعالى - : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } صفة ثالثة لتلك الشجرة .
أى ، أنها يكاد زيتها من شدة صفائه يضىء دون أن تمسه النار ، فهو زيت من نوع خاص ، بلغ من الشفافية أقصاها ، ومن الجودة أعلاها .
قال بعض العلماء : وقد شُبِّه فى الآية نورُ الله ، بمعنى أدلته ، وآياته - سبحانه - من حيث دلالتها على الهدى والحق ، وعلى ما ينفع الخلق فى الحياتين شبه ذلك بنور المشكاة التى فيها زجاجة صافية ، وفى تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ الغاية فى الصفاء والرقة والإشراق ، حتى يكاد يضىء بنفسه من غير أن تمسه نار " .
وقوله - سبحانه - : { نُّورٌ على نُورٍ } أى : هو نور عظيم متضاعف ، كائن على نور عظيم مثله ، إذ أن نور الله - تعالى - لا حد لتضاعفه ، ولا نهاية لعمقه بخلاف الأنوار الأخرى . فإن لتضاعفها حدا محدودا مهما كان إشراقها وضوؤها .
فقوله : { نُّورٌ } خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هو نور . وقوله { على نُورٍ } متعلق بمحذوف هو صفة له ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة . أى : كائن على نور مثله .
ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فقال : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أى : يهدى الله - تعالى - لنوره العظيم من يشاء هدايته من عباده ، بأن يوفقهم للإيمان ، والعمل بتعاليم الإسلام ، وللسير على طريق الحق والرشاد .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } .
أى : ويضرب الله - تعالى - الأمثال للناس ، لكى يقرب لهم الأمور وييسرلهم المسائل ، ويبرز لهم المعقول فى صورة المحسوس ، والله - تعالى - بكل شىء عليم ، سواء أكان هذا الشىء ظاهرا أم باطنا ، معقولا أم محسوسا .
قال بعض العلماء ما ملخصه : هذه الآية الكريمة من الآيات التى صنفت فيها مصنفات ، منها " مشكاة الأنوار " للإمام الغزالى . . . ومنها ما قاله الإمام ابن القيم عنها فى كتابه " الجيوش الإسلامية " .
فقد قال - رحمه اله - : سمى الله تعالى - نفسه نورا ، وجعل كتابه نورا ، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ، ودينه نورا ، واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ . قال - تعالى - { الله نُورُ السماوات والأرض } وقد فسر بكونه منور السموات والأرض وهادى أهل السموات والأرض فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذى هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق اسم النور الذى هو أحد الأسماء الحسنى . . " .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ } يقول : هادي أهل السموات والأرض .
وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد وابن عباس في قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يدبر الأمر فيهما ، نجومهما وشمسهما وقمرهما .
وقال ابن جرير : حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَقِّي ، حدثنا وهب بن راشد ، عن فَرْقَد ، عن أنس بن مالك قال : إن إلهي يقول : نوري هداي .
واختار هذا القول ابن جرير ، رحمه الله .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب في قول الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } قال : هو المؤمن الذي جعل [ الله ]{[21166]} الإيمان والقرآن في صدره ، فضرب الله مثله فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } فبدأ بنور نفسه ، ثم ذكر نور المؤمن فقال : مثل نور من آمن به . قال : فكان أُبي بن كعب يقرؤها : " مثل نور من آمن به{[21167]} فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره .
وهكذا قال{[21168]} سعيد بن جُبير ، وقيس بن سعد ، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك : " نور من آمن بالله " .
وقرأ بعضهم : " اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ " " .
وعن الضحاك : " اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ " .
وقال السدي في قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } : فبنوره أضاءت السموات والأرض .
وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف : " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بي غَضبك أو ينزل بي سَخَطُك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك{[21169]}-{[21170]} .
وفي الصحيحين ، عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من الليل يقول : " اللهم لك الحمد ، أنت قَيّم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن " الحديث{[21171]} .
وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه .
وقوله : { مَثَلُ نُورِهِ } في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى الله ، عز وجل ، أي : مثل هداه في قلب المؤمن ، قاله ابن عباس { كمشكاة } .
والثاني : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام : تقديره : مثل نور المؤمن الذي في قلبه ، كمشكاة . فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى ، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه ، كما قال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [ هود : 17 ] ، فشبه قلب{[21172]} المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري ، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل ، الذي لا كدر فيه ولا انحراف .
فقوله{[21173]} : { كَمِشْكَاةٍ } : قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، وغير واحد : هو موضع الفتيلة من القنديل . هذا هو المشهور ؛ ولهذا قال بعده : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، وهو الذُّبالة التي تضيء .
وقال العوفي ، عن ابن عباس [ في ]{[21174]} قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } : وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره ، فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } . والمشكاة : كوَّة في البيت - قال : وهو مثل ضَرَبه الله لطاعته{[21175]} . فسمَّى الله طاعَتَه نُورًا ، ثم سَمَاها أنواعا شَتَّى .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الكوة بلُغة الحبشة . وزاد غيره فقال : المشكاة : الكوة التي لا منفذ لها . وعن مجاهد : المشكاة : الحدائد التي يعلق بها القنديل .
والقول الأول أولى ، وهو : أن المشكاة هي موضع الفَتيلة من القنديل ؛ ولهذا قال : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو النور الذي في الذُّبالة .
قال أبيً بن كعب : المصباح : النور ، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره .
{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أي : هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية .
قال أبيّ بن كعب وغير واحد : وهي نظير قلب المؤمن . { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } : قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة ، من الدّر ، أي : كأنها كوكب من دُرّ .
وقرأ آخرون : " دِرّيء " و " دُرِّيء " بكسر الدال وضمها مع الهمز ، من الدَرْء وهو الدفع ؛ وذلك أن النجم إذا رُمي به يكون أشدّ استنارة من سائر الأحوال ، والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراريّ .
قال أبيّ بن كعب : كوكب مضيء . وقال قتادة : مضيء مبين ضخم . { يُوقَدُ{[21176]} مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي : يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة { زيتونة } بدل أو عطف بيان { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أي : ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ، ولا في غربيها فيتقلّص عنها الفيء قبل الغروب ، بل هي في مكان وسط ، تَفْرَعه{[21177]} الشمس من أول النهار إلى آخره ، فيجيء زيتها معتدلا صافيا مشرقا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ، أخبرنا عمرو بن أبي قيس ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : شجرة بالصحراء ، لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف ، ولا يواريها شيء ، وهو أجود لزيتها .
وقال يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن عمران بن حُدَيْر ، عن عكرمة ، في قوله : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي بصحراء ، وذلك أصفى لزينتها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا عُمَر بن فَرُّوخ ، عن حبيب بن الزبير ، عن عكرمة - وسأله رجل عن : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال{[21178]} تلك [ زيتونة ]{[21179]} بأرض فلاة ، إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها ، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من الزيت .
وقال مجاهد في قوله : { [ زَيْتُونَةٍ ] لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } {[21180]} قال : ليست بشرقية ، لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ، [ ولكنها شرقية وغربية ، تصيبها إذا طلعت ]{[21181]} وإذا غربت .
وقال سعيد بن جُبَيْر في قوله { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } قال : هو أجود الزيت . قال : إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق ، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس ، فالشمس تصيبها بالغداة والعَشِيّ ، فتلك لا تعد شرقية ولا غربية .
وقال السدي [ في ]{[21182]} قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } يقول : ليست بشرقية يحوزها المشرق ، ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ، ولكنها على رأس جبل ، أو في صحراء ، تصيبها الشمس النهارَ كلَّه .
وقيل : المراد بقوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أنها في وسط الشجر ، وليست بادية للمشرق ولا للمغرب .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبي بن كعب ، في قول الله تعالى : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : فهي خضراء ناعمة ، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت . قال : فكذلك هذا المؤمن ، قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن ، وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال : إن قال صَدَق ، وإن حكم عدل ، وإن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مُسَدَّد قال : حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي وسط الشجر ، لا تصيبها الشمس شرقا ولا غربا .
وقال عطية العوفي : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي شجرة في موضع من الشجر ، يرى ظل ثمرها في ورقها ، وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكِي ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } ليست شرقية ليس فيها غرب ، ولا غربية ليس فيها شرق ، ولكنها شرقية غربية .
وقال محمد بن كعب القُرَظي : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي القبْلية .
وقال زيد بن أسلم : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : الشام .
وقال الحسن البصري : لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنه مثل ضربه الله لنوره .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { توقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } قال : رجل صالح { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : لا يهودي ولا نصراني .
وأولى هذه الأقوال القولُ الأول ، وهو أنها في مستوى من الأرض ، في مكان فسيح بارز ظاهر ضاح للشمس ، تَفْرعه من أول النهار إلى آخره ، ليكون ذلك أصفى لزينتها وألطف ، كما قال غير واحد ممن تقدم ؛ ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني : لضوء إشراق الزيت .
وقوله : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال العوفي ، عن ابن عباس : يعني بذلك إيمان العبد وعمله .
وقال مجاهد ، والسدي : يعني نور النار ونور الزيت .
وقال أبي بن كعب : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } فهو يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة .
وقال شِمْر بن عَطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }
قال : يكاد محمد يبين للناس ، وإن{[21183]} لم يتكلم ، أنه نبي ، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء .
وقال السُّدِّي في قوله : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال : نور النار ونور الزيت ، حين اجتمعا أضاءا ، ولا يضيء واحد بغير صاحبه [ كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا ، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه ]{[21184]}
وقوله : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : يرشد الله إلى هدايته من يختاره ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن عبد الله [ بن ]{[21185]} الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ ، فمن أصاب يومئذ من نوره اهتدى ، ومن أخطأه ضل . فلذلك أقول : جفَّ القلم على علم الله عز وجل " {[21186]} طريق أخرى عنه : قال البزار : حدثنا أيوب{[21187]} بن سُوَيْد ، عن يحيى بن أبي عمرو الشَّيباني ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ، فألقى عليهم نورًا من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه{[21188]} ضل . [ ورواه البزار ، عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر ، بلفظه وحروفه ]{[21189]}- {[21190]} .
وقوله تعالى : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن ، ختم الآية بقوله : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر : حدثنا أبو معاوية - يعني{[21191]} شيبان - ، عن ليث ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْتَري ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يُزهرُ ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مُصْفَح : فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن ، سراجه فيه نوره . وأما القلب الأغلف فقلب الكافر . وأما القلب المنكوس فقلب [ المنافق ]{[21192]} عَرَفَ ثم أنكر . وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة يَمُدَّها القيح والدم ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه " . إسناده جيد{[21193]} ولم يخرجوه .