{ 56-58 } { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }
هذه الغاية ، التي خلق الله الجن والإنس لها ، وبعث جميع الرسل يدعون إليها ، وهي عبادته ، المتضمنة لمعرفته ومحبته ، والإنابة إليه والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه ، وذلك يتضمن{[866]} معرفة الله تعالى ، فإن تمام العبادة ، متوقف على المعرفة بالله ، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه ، كانت عبادته أكمل ، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله ، فما خلقهم لحاجة منه إليهم .
ثم بين - سبحانه - الوظيفة التى من أجلها أوجد الله - تعالى - الجن والإنس فقال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } .
وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال منها : أن معناها : إنى ما أوجدت الجن والإنس إلا وهم مهيئون لعبادتى وطاعتى . بسبب ما ركبت فيهم من عقول تعقل ، وبسبب ما أرسلت إليهم من رسل يهدونهم إلى الخير ، فمنهم من أطاع الرسل ، وجرى ما مقتضى ما تقتضيه الفطرة ، فآمن بالرسل ، واتبع الحق والرشد ، ففاز وسعد ، ومنهم من أعرض عن دعوة الرسل ، وعاند فطرته وموجب استعداده فخسر وخاب .
ومنهم من يرى أن معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليقروا لى بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه ، كما فى قوله - تعالى - :
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } ومنهم من يرى معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفونى .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قيل : إن هذا خاص فيمن سبق فى علم الله أنه يعبده . فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص . . . فالآية فى المؤمنين منهم .
وقال على - رضى الله عنه - : أى : وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتى قال - تعالى - { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ } وقيل : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أى : إلا ليقروا لى بالعبادة طوعا أو كرها .
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال هو ما أشرنا إليه أولا ، من أن معنى الآية الكريمة ، أن الله - تعالى - قد خلق الثقلين لعبادته وطاعته ، ولكن منهم من أطاعة - سبحانه - ، ومنهم من عصاه . لاستحواذ الشيطان عليه .
قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر جملة من الأقوال : ومعنى الآية أنه - تعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب .
وفى الحديث القدسى : قال الله - عز وجل - " يا بن آدم ، تفرغ لعبادتى أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك . . " .
وفى بعض الكتب الإلهية . يقول الله - تعالى - " يابن آدم ، خلقتك لعبادتى فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب ، فاطلبنى تجدنى . فإن وجدتنى وجدت كل شىء ، وإن فتك فاتك كل شىء ، وأنا أحب إليك من كل شىء " .
هنا يجيء الإيقاع الأخير في السورة . ويتضح معنى الفرار إلى الله ، والتخلص من الأوهاق والأثقال ، لأداء الوظيفة التي خلق الله العباد لها ، ومنحهم وجودهم ليؤدوها :
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . .
وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة ، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشرفي الأرض بدون إدراكها واستيقانها . سواء كانت حياة فرد أم جماعة . أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها .
وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي ، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة ، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة .
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس . تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده ؛ وأصبح بلا وظيفة ، وباتت حياته فارغة من القصد ، خاوية من معناها الأصيل ، الذي تستمد منه قيمتها الأولى . وقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود ، وانتهى إلى الضياع المطلق ، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود ، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء .
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود . هي العبادة لله . أو هي العبودية لله . . أن يكون هناك عبد ورب . عبد يعبد ، ورب يعبد . وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار .
ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة ، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر . فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر ؛ والله لا يكلفهم هذا . وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم . وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن ؛ ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان . نعرفها من القرآن من قول الله تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . . فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني . وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض ، والتعرف إلى قواها وطاقاتها ، وذخائرها ومكنوناتها ، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها . كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام .
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى ، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا . وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس . أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا . عبدا يعبد ، وربا يعبد . وأن ليس وراء ذلك شيء ؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة ، والتجرد من كل شعور آخر ؛ ومن كل معنى غير معنى التعبد لله .
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ؛ ويصبح العمل كالشعائر ، والشعائر كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله ، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله . . كلها عبادة ؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعرا أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى ، جاء لينهض بها فترة ، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها ، ولا غاية له من ورائها ، إلا الطاعة ، وجزاؤها الذي يجده في نفسهمن طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله ، ومن أنس برضى الله عنه ، ورعايته له . ثم يجده في الآخرة تكريما ونعيما وفضلا عظيما .
وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقا . يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة . ويكون قد تحرر بهذا الفرار . تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال . وخلص لله ، واستقر في الوضع الكوني الأصيل : عبدا لله . خلقه الله لعبادته . وقام بما خلق له . وحقق غاية وجوده . فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض ، وينهض بتكاليفها ، ويحقق أقصى ثمراتها ؛ وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها ؛ خالص القلب من جواذبها ومغرياتها . ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها . ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ، ثم الفرار إلى الله منها !
ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها . فلتكن النتائج ما تكون . فالإنسان غير معلق بهذه النتائج . إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال ؛ ولأن جزاءه ليس في نتائجها ، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها . .
ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيرا كاملا تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال . فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها . ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته . ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك . فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه ، وليست من شأنه . إنما هو قدر الله ومشيئته . وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته .
ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد ؛ وشعر أنه أخذ نصيبه ، وضمن جزاءه ، بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد ، فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة . فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف . ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض ، وثمرات هذا النشاط . فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته .
الأظهر أن هذا معطوف على جملة { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول } [ الذاريات : 52 ] الآية التي هي ناشئة عن قوله : { ففروا إلى الله إلى ولا تجعلوا مع الله إلها آخر } [ الذاريات : 50 ، 51 ] عَطْفَ الغرض على الغرض لوجود المناسبة .
فبعد أن نظَّر حالهم بحال الأمم التي صممت على التكذيب من قبلهم أَعقبه بذكر شنيع حالهم من الانحراف عما خلقوا لأجله وغُرز فيهم .
فقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } خبر مستعمل في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خُلقوا عليها فخالفوا سنتها اتباعاً لتضليل المضلين .
والجن : جنس من المخلوقات مستتر عن أعين الناس وهو جنس شامل للشياطين قال تعالى عن إبليس : { كان من الجن } [ الكهف : 50 ] .
والإِنس : اسم جمعٍ واحدُه إنسي بياء النسبة إلى اسم جمعِه .
والمقصود من هذا الإِخبارِ هو الإِنس وإنما ذُكر الجن إدماجاً وستعرف وجه ذلك .
والاستثناء مفرغ من علل محذوفة عامة على طريقة الاستثناء المفرغ .
واللام في { ليعبدون } لام العلة ، أي ما خلقتهم لعلة إلا علة عبادتهم إياي . والتقدير : لإِرادتي أن يعبدون ، ويدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون .
وهذا التقدير يلاحظ في كل لاممٍ ترد في القرآن تعليلاً لفعللِ الله تعالى ، أي ما أرضَى لوجودهم إلا أن يعترفوا لي بالتفرد بالإِلهية .
فمعنى الإِرادة هنا : الرضى والمحبة ، وليس معناها الصفةَ الإِلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم ، التي اشتق منها اسمُه تعالى : المريد لأن إطلاق الإِرادة على ذلك إطلاق آخر ، فليس المراد هنا تعليل تصرفات الخلق الناشئة عن اكتسابهم على اصطلاح الأشاعرة ، أو عن قُدرتهم على اصطلاح المعتزلة على تقارب ما بين الاصطلاحين لظهور أن تصرفات الخلق قد تكون مناقضة لإِرادة الله منهم بِمعنى الإِرادة الصفةِ ، فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإِله ويسوق إلى توحيده ولكن كسب الناس يجرّف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله ، وأسبابُ تمكُّنِهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع .
وهذا يغني عن احتمالات في تأويل التعليل من قوله : { ليعبدون } من جعل عموم الجن والإِنس مخصوصاً بالمؤمنين منهم ، أو تقديرِ محذوف في الكلام ، أي إلا لآمُرهم بعبادتي ، أو حَمل العبادة بمعنى التذلل والتضرع الذي لا يخلو منه الجميع في أحوال الحاجة إلى التذلل والتضرع كالمرض والقحط وقد ذكرهَا ابن عطية .
ويرد على جميع تلك الاحتمالات أن كثيراً من الإِنس غير عابدٍ بدليل المشاهدة ، وأن الله حكى عن بعض الجن أنهم غير عابدين .
ونقول : إن الله خلق مخلوقات كثيرة وجعل فيها نظماً ونواميس فاندفع كلُّ مخلوق يعمل بما تدفعه إليه نواميس جبلته ، فقد تعُود بعض المخلوقات على بعض بنقض ما هُيِّءُ هُوَ لَه ويعود بعضها على غيره بنقض ما يسعى إليه ، فتشابكت أحوال المخلوقات ونواميسها ، فربما تعاضدت وتظاهرت وربما تناقضت وتنافرت فحدثت من ذلك أحوال لا تُحصى ولا يحاط بها ولا بطرائقها ولا بعواقبها ، فكثيراً ما تسفر عن خلاف ما أُعدّ له المخلوق في أصل الفطرة فلذلك حاطها الله بالشرائع ، أي فحصل تناقض بين الأمر التكويني والأمر التشريعي .
ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوثِ المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة ، وكلمات أئمة اللغة فيه خفية والذي يُستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضُرّه مِلكاً ذاتياً مستمراً ، فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون { وقومهما لنا عابدون } [ المؤمنون : 47 ] .
فالحصر المستفاد من قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قصرُ علةِ خلق الله الإِنسَ والجنَّ على إرادته أن يعبدوه ، والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة ، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول { يعبدون } ، أي إلا ليعبدوني وحدي ، أي لا ليشركوا غيري في العبادة ، فهو ردّ للإِشراك ، وليس هو قصراً حقيقياً فإنا وإن لم نطلع على مقادير حِكَم الله تعالى من خَلق الخلائق ، لكنَّا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مُجردَ أن يعبدوه ، لأن حِكَم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نُحيط بها ، وذكر بعضها كما هنا لما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى ، ألاَ ترى أن الله ذكر حِكماً للخلق غير هذه كقوله : { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } [ هود : 118 ، 119 ] بَلْهَ ما ذكره من حكمة خلق بعض الإِنس والجن كقوله في خلق عيسى { ولنجعله آية للناس ورحمة منا } [ مريم : 21 ] .
ثم إن اعتراف الخلققِ بوحدانية الله يَقْشَع تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم ما كذَّبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحداً نبذُه ، فإذا انقشع تكذيبهم استتبع انقشاعُه امتثالَ الشرائع التي يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلَّغهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ، فهذا معنى تقتضيه عبادةُ الله بدلالة الالتزام ، وذلك هو ما سُمي بالعبادة بالإطلاق المصطلح عليه في السُنَّة في نحو قوله : « أن تعبد اللَّه كأنك تراه » وليس يليق أن يكون مراداً في هذه الآية لأنه لا يطرد أن يكون علةً لخلق الإنسان فإن التكاليف الشرعية تظهر في بعض الأمم وفي بعض العصور وتتخلف في عصور الفترات بين الرسل إلى أن جاء الإِسلام ، وأحسب أن إطلاق العبادة على هذا المعنى اصطلاح شرعي وإنْ لم يرد به القرآن لكنه ورد في السنة كثيراً وأصبح متعارفاً بين الأمة من عهد ظهور الإِسلام .
وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحَهم العاجل والآجل وحصولَ الكمال النفساني بذلك الصلاح ، فلا جَرم أَنَّ الله أراد من الشرائع كمال الإِنسان وضبطَ نظامه الاجتماعي في مختِلف عصوره .
وتلك حكمة إنشائه ، فاستتبع قولُه : { إلا ليعبدون } أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي ، فعبادة الإِنسان ربَّه لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من خَلقه وعلَّةً لحصوله عادةً .
وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله : { إلا ليعبدون } بمعنى : إلاّ لآمرهم وأنهاهم . وتَبع أبو إسحاق الشاطبي هذا التأويل في النوع الرابع من كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف « الموافقات » وفي محمل الآية عليه نظر قد علمتَه فحققْهُ .
وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى . وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن قول قائلهم : { وأنه كان يقول سفيهنا على اللَّه شططاً } [ الجن : 4 ] .
وتقديم الجن في الذكر في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن ، ليعلموا أن الجن عباد لله تعالى ، فهو نظير قوله : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وَما خَلَقْتُ الجِنّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: وما خلقت السّعداء من الجنّ والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم لمعصيتي...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليُذْعِنوا لي بالعبودة... عن ابن عباس، قوله: "وَما خَلَقْتُ الجِنّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ": إلا ليقرّوا بالعبودة طوعا وكَرها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وهو: ما خلقت الجنّ والإنس إلا لعبادتنا، والتذلل لأمرنا.
فإن قال قائل: فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل لأمره؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم، لأن قضاءه جار عليهم، لا يقدرون من الامتناع منه إذا نزل بهم، وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ} إن كان المراد من ذكر العبادة حقيقة العبادة فيُخرّج تأويله على وجهين:
أحدهما: جوابا لمن لا يرى الجن والإنس يؤمرون بالعبادة، ويُمتحنون بها، فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي ما خلقتُهم على معرفة المحاسن والمساوئ والتمييز بين ما يُؤتى وما يُتّقى بما رُكّب فيهم من أسباب التمييز والمعرفة لأترُكهم سُدىً مهملين، بل لأمتحنهم بالعبادة والقيام بشكر ما أنعمت عليهم من أنواع النّعم؛ إذ الحكمة توجب ذلك، وتدفع تركهم سدى هَمَلاً، والله أعلم.
والثاني: يخرّج جوابا لمن يرى لعبادة دونه جائزة بقولهم: {ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زُلفى} [الزمر: 3] فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} لم أخلقهم لعبادة غيري؛ بل لآمرهم بعبادتي، لا لآمرهم بعبادة غيري كما قال بعض الكفرة بقولهم: {والله أمرنا بها} [الأعراف: 28] ردّا ونقضا لاعتقادهم، والله أعلم.
ثم قوله: {إلا ليعبدون} على حقيقة العبادة يحتمل وجهين:
أحدهما: على حقيقة فعل العبادة، وعلى هذا الوجه لم تكن الآية محمولا بها على العموم، بل على الخصوص، وهم المؤمنون من الجن والإنس دون الكفرة منهم، فإنه لا يجوز أن يخلُق الكفرة الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة؛ إذ خلقُه عن اختيار وإرادة. فإذا خلقهم، وأراد منهم العبادة، لابدّ أن يوحّد [بعض] منهم، وقد علم أنه يوحّد، فيصير كأنه أراد تجهيل نفسه، وهذا محال.
فدلّ أن المراد منه الخصوص، وقد خصّ منه البعض بلا خلاف؛ فإن الصغار والمجانين قد خُصّوا فإنه لا تتحقّق منهم العبادة. فجائز أن يخصّ منه الكفرة الذين علم أنهم لا يؤمنون، والله أعلم.
والثاني: يحتمل أن المراد منه الأمر بالعبادة، أي ما خلقتُهم إلا لآمركم بالعبادة والتوحيد. وهذا أقرب إلى العمل بالعموم؛ فإنه يدخل فيه العقلاء من الجن والإنس دون الصغار والمجانين.
ويجوز أن يأمر بشيء ولا يريد تحصيل المأمور به وصيرورة المأمور مطيعا له، بل يريد أن يصير عاصيا، فيُدخَل النار بخلاف ما إذا خلقه للعبادة وإرادة منه، فلا يجوز ألا يوحّد، وحقيقة هذا تُعرف في كتاب التوحيد أنه خلق للإيمان والعبادة من علم منه أنه يعبده ويختار العبادة له.
فأما من علم منه اختيار الضلال والغواية وصرف العبادة إلى غيره فإنه خلقه على علم منه أنه يختار، ويفعل لقوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} الآية [الأعراف: 179].
وقال قائلون: لم يرد بقوله: {إلا ليعبدون} حقيقة العبادة التي هي فعل العبد على وجه الاختيار، ولكن معناه: ما خلقت الجن والإنس إلا وقد جعلت في كل أحد منهم دلالة وحدانيتي ودلالة صرف العبادة إليّ والقيام بالشكر لي في ما أنعمت عليهم من أنواع النعم ما لو تأمّلوا فيها، ونظروا لدلّهم على ما ذكرنا من العلم بالوحدانية لي والقيام بالعبادة والشكر، والله أعلم.
وعلى هذا التأويل تكون الآية عامة، لا خصوص فيها، لأن خلقة كل أحد منهم على أيّ وصف كان دلالة ما ذكرنا، والله الموفّق.
ويحتمل أيضا: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} إلا على خِلقة تصلُح للمحنة بالأمر والنهي والوعد والوعيد ولتحقيق فعل ذلك بما ركّبت فيهم العقل، وجعلت مفاصلهم ليّنةً وقابلةً الأفعال، تصلح للخدمة من الركوع والسجود والقيام والقعود ونحوها على خلاف غير هؤلاء من المخلوقات، فإنها خُلقت على خلقة تصلح لمنافع الممتحَنين لا على وجه يصلح للمحنة، والله أعلم.
ثم في العبادة خصوصية معنى ليس ذلك في الطاعة والخدمة وغير ذلك من الأفعال كقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] حين لم يُجز العبادة لغيره، وأجاز الطاعة والخدمة والتعظيم وغير ذلك من الأفعال لرسوله لقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}.
دلّ أن في العبادة معنى ليس ذلك المعنى في غيره، لذلك وقعت الخصوصيّة له، ولذلك خصّ نفسه بتسمية الإله، ولم يُجِز التسمية به لغيره، إذ الإله عندهم معبود، فكل معبود عندهم يسمّونه إلها...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}...
ووجه الآية في الجملة أنّ الله تعالى لم يخلقهم للعبادة خلق جبلة وإجبار وإنّما خلقه لهم خلق تكليف واختيار، فمن وفّقه وسدّده أقام العبادة التي خُلق لها، ومن خذله وطرده حُرِمَها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا إخبار من الله تعالى أنه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته، فإذا عبدوه استحقوا الثواب، واللام لام الغرض ولا يجوز أن يكون لام العاقبة لحصول العلم بأن كثيرا من الخلق لا يعبدون الله.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي: لينقادوا ويخضعوا لي، وانقيادهم وخضوعهم هو استمرارهم على مشيئته وحكمه، وهو معنى خضوع السموات والأرضين وطواعيتها وانقيادها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها. فإن قلت: لو كان مريداً للعبادة منهم لكانوا كلهم عباداً؟ قلت: إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وتحتمل الآية، أن يكون المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدون، وكأن الآية تعديد نعمة، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة نحو العبادة، وهذا كما تقول: البقر مخلوقة للحرث، والخيل للحرب، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلاً، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له». وقوله: «كل مولود يولد على الفطرة» الحديث.
ما العبادة التي خلق الجن والإنس لها؟
قلنا: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما، وأما خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها بالوضع والهيئة والقلة والكثرة والزمان والمكان والشرائط والأركان، ولما كان التعظيم اللائق بذي الجلال والإكرام لا يعلم عقلا لزم اتباع الشرائع فيها والأخذ بقول الرسل عليهم السلام، فقد أنعم الله على عباده بإرسال الرسل وإيضاح السبل في نوعي العبادة.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي لهذه الحكمة، وهي عبادته تعالى بما أمر على لسان رسوله، إذ لا يتم صلاح، ولا تنال سعادة في الدارين، إلا بها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا يجيء الإيقاع الأخير في السورة. ويتضح معنى الفرار إلى الله، والتخلص من الأوهاق والأثقال، لأداء الوظيفة التي خلق الله العباد لها، ومنحهم وجودهم ليؤدوها:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)..
وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها. سواء كانت حياة فرد أم جماعة. أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها.
وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة.
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس. تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده؛ وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى. وقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء.
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود. هي العبادة لله. أو هي العبودية لله.. أن يكون هناك عبد ورب. عبد يعبد، ورب يعبد. وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار.
ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر. فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر؛ والله لا يكلفهم هذا. وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم. وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن؛ ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان. نعرفها من القرآن من قول الله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة).. فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني. وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام.
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا. وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا. عبدا يعبد، وربا يعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر؛ ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة؛ ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله.. كلها عبادة؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعرا أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها، ولا غاية له من ورائها، إلا الطاعة، وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله، ومن أنس برضى الله عنه، ورعايته له. ثم يجده في الآخرة تكريما ونعيما وفضلا عظيما.
وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقا. يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة. ويكون قد تحرر بهذا الفرار. تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال. وخلص لله، واستقر في الوضع الكوني الأصيل: عبدا لله. خلقه الله لعبادته. وقام بما خلق له. وحقق غاية وجوده. فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض، وينهض بتكاليفها، ويحقق أقصى ثمراتها؛ وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها؛ خالص القلب من جواذبها ومغرياتها. ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها. ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها، ثم الفرار إلى الله منها!
ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها. فلتكن النتائج ما تكون. فالإنسان غير معلق بهذه النتائج. إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال؛ ولأن جزاءه ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها..
ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيرا كاملا تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال. فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها. ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته. ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك. فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه، وليست من شأنه. إنما هو قدر الله ومشيئته. وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته.
ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد؛ وشعر أنه أخذ نصيبه، وضمن جزاءه، بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد، فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة. فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف. ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض، وثمرات هذا النشاط. فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأظهر أن هذا معطوف على جملة {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول} [الذاريات: 52] الآية التي هي ناشئة عن قوله: {ففروا إلى الله إلى ولا تجعلوا مع الله إلها آخر} [الذاريات: 50، 51] عَطْفَ الغرض على الغرض لوجود المناسبة.
فبعد أن نظَّر حالهم بحال الأمم التي صممت على التكذيب من قبلهم أَعقبه بذكر شنيع حالهم من الانحراف عما خلقوا لأجله وغُرز فيهم.
فقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} خبر مستعمل في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خُلقوا عليها فخالفوا سنتها اتباعاً لتضليل المضلين.
والجن: جنس من المخلوقات مستتر عن أعين الناس وهو جنس شامل للشياطين قال تعالى عن إبليس: {كان من الجن} [الكهف: 50].
والإِنس: اسم جمعٍ واحدُه إنسي بياء النسبة إلى اسم جمعِه.
والمقصود من هذا الإِخبارِ هو الإِنس وإنما ذُكر الجن إدماجاً وستعرف وجه ذلك.
والاستثناء مفرغ من علل محذوفة عامة على طريقة الاستثناء المفرغ.
واللام في {ليعبدون} لام العلة، أي ما خلقتهم لعلة إلا علة عبادتهم إياي. والتقدير: لإِرادتي أن يعبدون، ويدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون.
وهذا التقدير يلاحظ في كل لامٍ ترد في القرآن تعليلاً لفعلِ الله تعالى، أي ما أرضَى لوجودهم إلا أن يعترفوا لي بالتفرد بالإِلهية.
فمعنى الإِرادة هنا: الرضى والمحبة، وليس معناها الصفةَ الإِلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم، التي اشتق منها اسمُه تعالى: المريد لأن إطلاق الإِرادة على ذلك إطلاق آخر، فليس المراد هنا تعليل تصرفات الخلق الناشئة عن اكتسابهم على اصطلاح الأشاعرة، أو عن قُدرتهم على اصطلاح المعتزلة على تقارب ما بين الاصطلاحين لظهور أن تصرفات الخلق قد تكون مناقضة لإِرادة الله منهم بِمعنى الإِرادة الصفةِ، فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإِله ويسوق إلى توحيده ولكن كسب الناس يجرّف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله، وأسبابُ تمكُّنِهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع.
وهذا يغني عن احتمالات في تأويل التعليل من قوله: {ليعبدون} من جعل عموم الجن والإِنس مخصوصاً بالمؤمنين منهم، أو تقديرِ محذوف في الكلام، أي إلا لآمُرهم بعبادتي، أو حَمل العبادة بمعنى التذلل والتضرع الذي لا يخلو منه الجميع في أحوال الحاجة إلى التذلل والتضرع كالمرض والقحط وقد ذكرهَا ابن عطية.
ويرد على جميع تلك الاحتمالات أن كثيراً من الإِنس غير عابدٍ بدليل المشاهدة، وأن الله حكى عن بعض الجن أنهم غير عابدين.
ونقول: إن الله خلق مخلوقات كثيرة وجعل فيها نظماً ونواميس فاندفع كلُّ مخلوق يعمل بما تدفعه إليه نواميس جبلته، فقد تعُود بعض المخلوقات على بعض بنقض ما هُيِّءُ هُوَ لَه ويعود بعضها على غيره بنقض ما يسعى إليه، فتشابكت أحوال المخلوقات ونواميسها، فربما تعاضدت وتظاهرت وربما تناقضت وتنافرت فحدثت من ذلك أحوال لا تُحصى ولا يحاط بها ولا بطرائقها ولا بعواقبها، فكثيراً ما تسفر عن خلاف ما أُعدّ له المخلوق في أصل الفطرة فلذلك حاطها الله بالشرائع، أي فحصل تناقض بين الأمر التكويني والأمر التشريعي.
ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوثِ المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة، وكلمات أئمة اللغة فيه خفية والذي يُستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضُرّه مِلكاً ذاتياً مستمراً، فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون {وقومهما لنا عابدون} [المؤمنون: 47].
فالحصر المستفاد من قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قصرُ علةِ خلق الله الإِنسَ والجنَّ على إرادته أن يعبدوه، والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول {يعبدون}، أي إلا ليعبدوني وحدي، أي لا ليشركوا غيري في العبادة، فهو ردّ للإِشراك، وليس هو قصراً حقيقياً فإنا وإن لم نطلع على مقادير حِكَم الله تعالى من خَلق الخلائق، لكنَّا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مُجردَ أن يعبدوه، لأن حِكَم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نُحيط بها، وذكر بعضها كما هنا لما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى، ألاَ ترى أن الله ذكر حِكماً للخلق غير هذه كقوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود: 118، 119] بَلْهَ ما ذكره من حكمة خلق بعض الإِنس والجن كقوله في خلق عيسى {ولنجعله آية للناس ورحمة منا} [مريم: 21].
ثم إن اعتراف الخلق بوحدانية الله يَقْشَع تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم ما كذَّبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحداً نبذُه، فإذا انقشع تكذيبهم استتبع انقشاعُه امتثالَ الشرائع التي يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلَّغهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فهذا معنى تقتضيه عبادةُ الله بدلالة الالتزام، وذلك هو ما سُمي بالعبادة بالإطلاق المصطلح عليه في السُنَّة في نحو قوله: « أن تعبد اللَّه كأنك تراه» وليس يليق أن يكون مراداً في هذه الآية لأنه لا يطرد أن يكون علةً لخلق الإنسان فإن التكاليف الشرعية تظهر في بعض الأمم وفي بعض العصور وتتخلف في عصور الفترات بين الرسل إلى أن جاء الإِسلام، وأحسب أن إطلاق العبادة على هذا المعنى اصطلاح شرعي وإنْ لم يرد به القرآن لكنه ورد في السنة كثيراً وأصبح متعارفاً بين الأمة من عهد ظهور الإِسلام.
وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحَهم العاجل والآجل وحصولَ الكمال النفساني بذلك الصلاح، فلا جَرم أَنَّ الله أراد من الشرائع كمال الإِنسان وضبطَ نظامه الاجتماعي في مختِلف عصوره.
وتلك حكمة إنشائه، فاستتبع قولُه: {إلا ليعبدون} أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي، فعبادة الإِنسان ربَّه لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من خَلقه وعلَّةً لحصوله عادةً.
وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله: {إلا ليعبدون} بمعنى: إلاّ لآمرهم وأنهاهم. وتَبع أبو إسحاق الشاطبي هذا التأويل في النوع الرابع من كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف « الموافقات» وفي محمل الآية عليه نظر قد علمتَه فحققْهُ.
وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى. وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن قول قائلهم: {وأنه كان يقول سفيهنا على اللَّه شططاً} [الجن: 4].
وتقديم الجن في الذكر في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن، ليعلموا أن الجن عباد لله تعالى، فهو نظير قوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26].
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
هذه الآية الكريمة {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ الغاية هنا، ليست معنى قائماً في ذات الخالق، بل هي أمر متصل بالدور الذي يُراد للمخلوق القيام به، بالمستوى الذي ترتفع به حياته عن العبثية، فلم يخلق الله الجن والإنس، ليعيشوا اللهو الذي يجعل الحياة فرصةً للعبث، بل لعبادته...
.ما هو مفهوم العبادة في القرآن؟ فهل هي الشعائر الخاصة التي اصطلح الناس على تسميتها بالعبادة كالصلاة والصوم والحج والدعاء ونحوها؟ أم هي مفهوم واسع يتسع لكل النشاطات التي يرضاها الله ويحبها، ويأتي بها العبد من موقع إحساسه بحضور الله الدائم في كل مفردات حياته الخاصة والعامة...
.الظاهر أن المراد بالعبادة المعنى الثاني الذي يتضمن المعنى الأول، لأن العبادة كشعائر لا تستغرق وجود الإنسان كله، بل تحتل مساحةً صغيرةً منه، بينما تطال العبادة بالمعنى الثاني حركة الحياة العامة والخاصة، وهذا ما جاء به الحديث المأثور الذي يؤكد أن العبادة تتجسد في العفاف وفي العمل طلباً لكسب عيش الإنسان وكل من يعوله، وفي طلب العلم، وفي التفكير، وفي قضاء حوائج الناس، وفي كل عملٍ يرفع مستواهم. وبذلك كانت العبادة معنًى في النفس يتفاعل مع العقيدة التوحيدية، لتكون حالةً تعمِّق في الوعي الشعور بعبودية الله في كل شيء، وحركةً في الواقع العملي تؤكد الالتزام الانقيادي الخاضع له في كل أوامره ونواهيه، وما يحبه ويرضاه، بحيث يعيش الإنسان الحياة كلها خاشعاً أمام الله في الفكر والشعور والعاطفة، محصّناً من الانفتاح على أية فئة أو أي شخص يدّعي لنفسه امتيازاً ذاتياً في علاقة الناس به، بعيداً عن الله.