المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

102- وإذا كنت - أيها النبي الأمين - فيهم وقامت صلاة الجماعة ، فلا تنسوا الحذر من الأعداء ، وذلك بتقسيم المسلمين إلى طائفتين : إحداهما تبدأ الصلاة مقتدية بك ، وتكون الأخرى قائمة على الأسلحة والأمتعة لحراستها ، فإذا أتممت نصف الصلاة ذهبت التي صلت وراءك وجاءت الأخرى فصليت بها الباقي ، ثم تصلي ما فاتها وتصلي الأولى بقية الصلاة ، وتسمى لاحقة{[44]} والأخرى مسبوقة ، إذ تؤدى أول الصلاة ، واللاحقة تؤدى آخرها ، وذلك التنظيم لكي لا تفوت الصلاة ، وللحذر من الكافرين الذين يودون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلوا عليكم دفعة واحدة ، ويَنْقَضوُّا عليكم وأنتم في الصلاة ، وأن قتال المشركين مستمراً واجب ، ولكن لا إثم عليكم أن تسكنوا إذا كان بكم مرض أو نزل مطر عاق عن القتال ، ولكن على أن تكونوا على حذر دائم ، وهذا عقاب الله للكافرين في الدنيا ، وفي الآخرة أعد لهم عذاباً مهيناً مذلاً .


[44]:اللاحقة: هي التي تصلي مع الإمام أول الصلاة وتضطر للتخلف باقيها، ثم تؤدي الباقي منفردة، والمسبوق هو الذي يؤدي آخر الصلاة جماعة ثم يؤدي الأول منفردا.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

{ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } أي : صليت بهم صلاة تقيمها وتتم ما يجب فيها ويلزم ، فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله .

ثم فسَّر ذلك بقوله : { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } أي : وطائفة قائمة بإزاء العدو كما يدل على ذلك ما يأتي : { فَإِذَا سَجَدُوا } أي : الذين معك أي : أكملوا صلاتهم وعبر عن الصلاة بالسجود ليدل على فضل السجود ، وأنه ركن من أركانها ، بل هو أعظم أركانها .

{ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا } وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة الأولى منتظرا للطائفة الثانية ، فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلاتهم ، ثم يسلم بهم وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف .

فإنها صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة ، وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة ، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم ، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى .

والثاني : أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم ، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها ، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة ، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب ، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها .

وتدل الآية الكريمة على أن الأولى والأفضل أن يصلوا بإمام واحد . ولو تضمن ذلك الإخلال بشيء لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة ، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم ، وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم ، وأمر تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف ، وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلاة فإن فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلاة والجهاد ، والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى أمتعتهم ، ولهذا قال تعالى : { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً }

ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلاحه ، ولكن مع أخذ الحذر فقال : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }

ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم ، ويأخذوهم ويحصروهم ، ويقعدوا لهم كل مرصد ، ويحذروهم في جميع الأحوال ، ولا يغفلوا عنهم ، خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم .

فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنَّ به على المؤمنين ، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تهزم لهم راية ، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات .

وفي قوله : { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين . وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الأخرى قبل السلام ، لأنه أولا ذكر أن الطائفة تقوم معه ، فأخبر عن مصاحبتهم له . ثم أضاف الفعل بعْدُ إليهم دون الرسول ، فدل ذلك على ما ذكرناه .

وفي قوله : { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } دليل على أن الطائفة الأولى قد صلوا ، وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقة في ركعتهم الأولى ، وحكما في ركعتهم الأخيرة ، فيستلزم ذلك انتظار الإمام إياهم حتى يكملوا صلاتهم ، ثم يسلم بهم ، وهذا ظاهر للمتأمل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

ثم شرع - سبحانه - فى بيان صفة صلاة الخوف فى جماعة فقال - تعالى - { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } .

والمعنى : وإذا كنت يا محمد فى أصحابك وشهدت معهم القتال { فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } أى : فأردت أن تقيم لهم الصلاة فى جماعة لتزدادوا أجراً ورعاية من الله وأنتم تقاتلون أعداءه ، فعليك فى هذه الحالة أن تقسم أصحابك إلى قسمين ، ثم بعد ذلك { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } أى فلتقم جماعة من أصحابك معك فى الصلاة ، أما الطائفة الأخرى فلتكن بإزاء العدو ليحرسوكم منهم .

والضمير فى قوله { وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ } يعود إلى الرجال الذين معه فى الصلاة . . أى : ولتأخذ الطائفة القائمة معك فى الصلاة أسلحتها معها وهى فى الصلاة حتى تكون عليى أهبة القتال دائما .

وقوله { فَإِذَا سَجَدُواْ } أى : الرجال القائمون معك فى الصلاة سجدوا فى الركعة الأولى وأتموا الركعة { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } أى : فلينصرفوا بعد ذلك من صلاتهم ليكونوا فى مقابلة العدو للحراسة . فالضمير فى الكل يعود إلى المصلين معه .

وقيل المعنى : فإذا سجد الرجال الذين قاموا معك للصلاة ، فليكن الرجال الآخرون الذين ليسوا فى الصلاة من ورائكم لحماية ظهوركم ، ولمنع نزول الأذى بكم من أعدائكم . وعليه فيكون الضمير فى قوله { فَلْيَكُونُواْ } يعود إلى الطائفة الثانية التى ليست فى الصلاة .

وقوله : { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } بيان لما يجب أن تفعله الطائفة الأخرى التى لم تدخل فى الصلاة بعد . أى : فإذا ما انصرفت الطائفة الأولى للحراسة فلتأت الطائفة التى كانت قبل ذلك فى الحراسة والتى لم تصل بعد { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } الركعة الأوفى وأنت يا محمد فى الركعة الثانية . وعليهم أيضا أن يكونوا كمن سبقهم حاملين لأسلحتهم التى لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والحنجر وما يشبه ذلك ، حتى إذا ما باغتكم المشركون بالهجوم كنتم دائما على استعداد لمواجهتهم ، وكنتم دائما على يقظة من مكرهم .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أمر المؤمنين بالمحافظة على الصلاة حتى فى حالة الحرب ، وأمرهم فى الوقت ذاته بأن يكونوا يقظين آخذين حذرهم وأسلحتهم من مباغتة أعدائهم لهم حتى لا يتوهم أولئك الأعداء أن الصلاة ستشغل المؤمنين عن الدفاع عن أنفسهم .

وقوله { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } استعمل لفظ الأخذ فيه الحقيقة والمجاز . لأن أخذ الحذر كناية عن شدة اليقظة ودوام الترقب . وأخذ الأسلحة حقيقة فى حملها للدفاع بها عن النفس .

وقدم - سبحانه - الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة ؛ لأن أخذ الأسلحة نوع من الحذر ، ولأن الحذر عند انتقال الصفوف وتحركها واجب حتى لا يباغتهم الأعداء وهم يتحولون من مكان إلى مكان ، وهذا أشبه بتغيير الخطط وقت القتال ، وهو أمر له خطورته فوجب أن تشتد يقظة المسلمين حينئذ .

وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : فإن قلت لما ذكر فى أول الآية الأسلحة فقط ، وذكر هنا الحذر والأسلحة ؟ قلت : لأن العدو قلما يتنبه للمسلمين فى أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمبن فى المحاربة والمقاتلة . فإذا قاموا إلى الركعة الثانية ظهر للكفار أن المسلمين فى الصلاة ، فحينئذ ينتهزون الفرصة فى الإِقدام على المسلمين فلا جرم أن الله - تعالى - أمرهم فى هذا الموضع بزيادة الحذر من الكفار مع أخذ الأسلحة .

وقوله - تعالى - { وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً } بيان لما من أجله أمروا بأخذ الحذر والسلام . والخطاب لجميع المؤمنين .

وقوله { وَدَّ } من الود وهو محبة الشئ وتمنى حصوله .

والأسلحة : جمع سلاح . وهو اسم جنس لآلات الحرب التى يستعلمها الناس فى حروبهم وقتالهم .

والأمتعة . جمع متاع . وهو كل ما ينتفع به من عروض وأثاث . والمراد به هنا : ما يكون مع المحاربين من أشياء لا غنى لهم عنها كبعض ملابسهم وأطعمتهم ومعداتهم .

و { لَوْ } فى قوله { لَوْ تَغْفُلُونَ } مصدرية . وقوله { مَّيْلَةً } منصوب على المفعول المطلق لبيان العدد .

والمعنى : كونوا دائماً - أيها المؤمنون - فى أقصى درجات التنبه والتيقظ والحذر ، فإن أعداءكم الكافرين يودون ويحبون غفلتكم وعدم انتباهكم عن أسلحتكم وأمتعتكم التى تستعملونها فى قتالكم لهم ، وفى هذه الحالة يحملون عليكم حملة واحدة قوية شديدة ليقتلوا منكم من يستطعيون قتله . فعليكم - أيها المؤمنون - أن تجمعوا بين الصلاة والجهاد جمعا مناسبا حكيما بحيث لا يشغلكم أحد الأمرين عن الآخر أو عن حسن الاستعداد لمجابهة أعدئاكم الذين يتربصون بكم الدوائر .

فالآية الكريمة من مطلعها إلى هنا تراها تأمر بشدة وتكرار بأخذ الحذر وحمل السلاح لمجابهة أى مباغتة من المشركين . ومع هذا فقد رخص الله - تعالى - للمؤمنين بوضع السلاح فى أحوال معينة دون أن يرخص لهم فى أخذ الحذر فقال - تعالى - ؛ { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } .

أى : ولا حرج ولا إثم عليكم - أيها المؤمنون - فى أن تضعوا أسلحتكم فى أغمادها فلا تحملوها { إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ } يثقل معه حمل السلاح { أَوْ كُنتُمْ مرضى } بحيث يشق عليكم حملها ، ومع كل هذا فلا بد من أخذ الحذر من أعدائكم ؛ بأن تكونوا على يقظة تامة من مكرهم ، وعلى أحسن استعداد لدحرهم إذا ما باغتوكم بالهجوم .

وقوله { إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } تذييل قصد به تشجيع المؤمنين على مقاتلة أعدائهم وأخذ الحذر منهم .

أى : إن الله - تعالى - أعد لأعدائكم الكافرين عذابا مذلا لهم فى الدنيا والآخرة . أما فى الدنيا فبنصركم عليهم وإذهاب صولتهم ودولتهم ، كما قال - تعالى - { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وأما فى الآخرة فالبعذاب الذى يهينهم ويذلهم ولا يستطعيون منه نجاة أو مهربا . وإذا كان الأمر كذلك فباشروا - أيها المؤمنون - الأسباب التى توصلكم إلى النصر عليهم .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التى التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

1- قال الآلوسى : تعلق بظاهر قوله - تعالى - { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } . من خص صلاة الخوف بحضرته صلى الله عليه وسلم كالحسن بن زيد ونسب ذلك أيضا لأبى يوسف ، ونقله عنه الجصاص فى كتاب الأحكام ، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم نوابه ، وقوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما فى قوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وقد أخرجه أبو داود والنسائى وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم . قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم صلى مع رسول الله صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . ثم وصف له ذلك فصلوا كما وص ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكره أحد منهم . وهم الذين لا تأخذهم فى الله لومة لائم ، وهذا يحل محل الإِجماع .

2- أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة مشروعية صلاة الخوف وصفتها وأنه يطلب فيها حمل الصلاح إلا لعذر . وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى وغيرهم عن أبى عياش الزرقى قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد . وهم بيننا وبين القبلة . فصلى بنا النبى صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا : قد كانوا على حال لو أصابنا غرتهم ثم قالوا : تأتى عليهم الآن صلاة هى أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم .

فنزل جبريل بهذه الآية { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } . . الخ بين الظهر والعصر .

3- وردت روايات متعددة يؤخذ منها أن النبى صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة الخوف على هيئات مختلفة وفى مواضع متعددة . ويشهد لهذا قول القرطبى . وقد اختلفت الروايات فى هيئة صلاة الخوف . واختلف العلماء لاختلافها . فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها فى عشر مواضع . وقال ابن العربى : روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة . وقال الإِمام أحمد بن حنبل - وهو إمام أهل الحديث والمقدم فى معرفة علل النقل فيه - لا أعلم أنه روى فى صلاة الخوف إلا حديث ثابت . وهى كلها صحاح ثابتة . فعلى أى حديث صلى منها المصلى صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله .

وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون فى غير صوبها ، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبل القبلة وغير مستقبليها لعذر القتال كما أخر النبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى المغرب والعشاء . وأما الجمهور فقالوا هذا منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك . ونظرا لاختلاف الروايات الواردة فى كيفية صلاة الخوف ، فقد اختلف الفقهاء فى كيفية أدائها تبعا لما فهمه كل فريق من تلك الروايات . وهاك بعض مذاهبهم :

( أ ) ذهب الإِمام أبو حنيفة ومن تابعه إلى أن يكفية صلاة الخوف أن يقسم الإِمام الناس طائفتين : طائفة تكون مع الإِمام والأخرى بإزاء العدو . فيصلى بالذين مع ركعة ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتى الطائفة الخرى التى كانت بإزاء العدو فيصلى بهم الإِمام الركعة الثانية ويسلم هو .

ثم تأتى الطائفة الأولى فتصلى ركعة بغير قراءة ، لأنها فى رأيهم لاحقة . أى كأنها وراء الإِمام حكما طول الصلاة ، ولا قراءة عندهم وراء الإِمام ثم تتشهد وتسلم . وتذهب إلى وجه العدو فتأتى الطائفة الثاينة فتقضى ركعة بقراءة ثم تتشهد وتسلم . وإنما صلت هذه ركعتها بقراءة لأنها عندهم مسبوقة ، فتكون كمن أدرك آخر صلاة الإِمام وفاتته ركعة . فتكون القراءة واجبة فى حقها . وهذه الكيفية لصلاة الخوف التى أخذ بها الإِمام أبو حنيفة قد وردت فى روايات عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم :

( ب ) الإِمام مالك فيرى أن كيفية صلاة الخوف تكون كالآتى : أن يقسم الإِمام الناس إلى طائفتين : طائفة تكون معه وطائفة تكون بإزاء العدو . ثم يصلى بالطائفة التى معه ركعة ولا يسلم وتتم هى الركعة الثانية وحدها ثم تتشهد وتسلم وتذهب إلى مكان الطائفة الثاينة ، وتأتى الطائفة الثانية فتقف خلف الإِمام فيصلى معها الركعة الثانية ثم يجلسون للتشهد ويسلم الإِمام وحده أماهم فيقومون فيصلون وحدهم الكرعة التى بقيت ثم يتشهدون ويسلمون .

وقريب من هذه الكيفية ماذهب إليه الإِمام الشافعى فهو يوافق المالكية فيما ذهبوا إليه إلا أنه قال : لا يسلم الإِمام حتى تتم الطائفة الثانية صلاتها ثم يسلم معهم .

ويذهب الإِمام أحمد بن حنبل فى كيفية صلاة الخوف إلى ما ذهب إليه الإِمام مالك .

وفى رواية عنه أنه يوافق ما ذهب إليه الشافعية .

وهذا كله فيما إذا كانت الصلاة ثنائية فى الأصل كالفجر أو رباعية فإنها تقصر إلى ثنائية .

أما إذا كانت صلاة الخوف فى المغرب فيرى جمهور الفقهاء أن الإِمام يصلى بالطائفة الأولى ركعتين ، وبالطائفة الثانية ركعة ثم تتم كل طائفة ما بقى عليها بالطريقة التى سبق ذكرها عند الأئمة ، والتى بسطها العلماء فى كتب الفقه .

4- ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية أهمية صلاة الجماعة ، لأن الله - تعالى - أمر المسلمين بأن يؤدوا الصلاة فى جماعة حتى وهم فى حالة الاستعداد للقاء أعدائهم .

قال ابن كثير : ما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة . حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة . فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك .

5- كذلك من الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية أن الإِسلام دين يأمر أتباعه بأداء الصلاة حتى ولو كانوا فى ساحة المعركة ، وذلك لأن الصلاة صلة بين العبد وربه ، ومتى حسنت هذه الصلة بين المجاهد وخالقه ، فإنه - سبحانه - يكلؤه بعين رعايته ، ويمده بنصره وتأييده . وأن الإِسلام بجانب هذا الاهتمام الشديد بشأن الصلاة فإنه يهتم أيضا بأن يأمر أتابعه بالحذر من مكر أعدائهم ومن مباغتهم لهم ، بأن يكون المؤمنون مستعدين لصدهم وردهم على أعقابهم ، وأن لا يغفلوا عن حمل أسلحتهم حتى ولو كانوا قائمين للصلاة .

وبهذا نرى أن الإِسلام يربى أتباعه تربية روحية وعقلية وبدينة من شأنها أن توصلهم - متى حافظوا عليها - إلى ما يعلى كلمتهم فى الدنيا ، ويرفع درجاتهم فى الآخرة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

95

وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض ، الخائف من فتنة الذين كفروا ، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة ؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى :

( وإذا كنت فيهم ، فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم ؛ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ؛ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة . ولا جناح عليكم - إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى - أن تضعوا أسلحتكم . وخذوا حذركم ، إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) . ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم . فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتًا ) . .

إن المتأمل في أسرار هذا القرآن ؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية ، المتمثل فيه ، يطلع على عجب من اللفتات النفسية ، النافذة إلى أعماق الروح البشرية . ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة . .

إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم " الفقهي " في صفة صلاة الخوف . ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة .

وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة ! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني . إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة . بل أنها السلاح ! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح ، بما يتناسب مع طبيعة المعركة ، وجو المعركة !

ولقد كان أولئك الرجال - الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني - يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح . لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة ؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة . متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله ؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعا . متفوقين أيضا في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني ، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشى ء من تفوق منهجهم الرباني . . وكانت الصلاة رمزا لهذا كله ، وتذكير بهذا كله . ومن ثم كانت سلاحا في المعركة . بل كانت هي السلاح !

والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو . وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ، ليميل عليهم ميلة واحدة ! ومع هذا التحذير والتخويف ، التطمين والتثبيت ؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوما كتب الله عليهم الهوان : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا ) . . وهذا التقابل بين التحذير والتطمين ؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة ؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم ، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم !

أما كيفية صلاة الخوف ؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء ، أخذا من هذا النص ، ولكننا نكتفي بالصفة العامة ، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة .

( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك . وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) . .

والمعنى : إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة ، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى . على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم . فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة ، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل . فلتصل معك ركعة كذلك . [ وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين ] .

عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام . وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الثانية - ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الأولى . .

وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول [ ص ] وكذلك مع خلفائه وأمرائه ، وأمراء المسلمين [ منهم ] في كل معركة .

( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة ) . .

وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة . والسنون تتوالى ، والقرون تمر ، فتؤكد هذه الحقيقة ، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى . وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة . كما يضع لها الخطة الحركية أحيانا . على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف .

على أن هذا الحذر ، وهذه التعبئة النفسية ، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر ، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة . فهم يأخذون منه بقدر الطاقة :

( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى ، أن تضعوا أسلحتكم ) فحمل السلاح في هذه الحالة يشق ، ولا يفيد . ويكفي أخذ الحذر ؛ وتوقع عون الله ونصره : ( وخذوا حذركم . إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا ) . .

ولعل هذا الاحتياط ، وهذه اليقظة ، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين . فيكون المؤمنون هم ستار قدرته ؛ وأداة مشيئته . . وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر ؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذابا مهينا . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } هذه صفة صلاة الخوف في الجماعة لقوله : { فأقمت لهم الصلاة } .

واتّفق العلماء على أنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف . وأكثر الآثار تدلّ على أنّ مشروعيتها كانت في غزوة ذات الرّقَاع بموضع يقال له : نَخلة بين عسفان وضجنان من نجد ، حين لقوا جموع غطفان : محارب وأنمار وثعلبة . وكانت بين سنة ستّ وسنة سبع من الهجرة ، وأنّ أوّل صَلاة صلّيت بها هي صلاة العصر ، وأنّ سببها أنّ المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا : هذه الصلاة فرصة لنا لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غِرّة ، فأنبأ الله بذلك نبيّه صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية . غير أنّ الله تعالى صدّر حكم الصلاة بقوله : { وإذا كنت فيهم } فاقتضى ببادىء الرأي أنّ صلاة الخوف لا تقع على هذه الصفة إلاّ إذا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي خصوصية لإقامته . وبهذا قال إسماعيل بن عُلية ، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة في أحد أقواله ، وعلّلوا الخصوصية بأنّها لِحرص الناس على فضل الجماعة مع الرسول ، بخلاف غيره من الأيّمة ، فيمكن أن تأتمّ كلّ طائفة بإمام . وهذا قول ضعيف : لمخالفته فعل الصحابة ، ولأنّ مقصد شرع الجماعة هو اجتماع المسلمين في الموطن الواحد ، فيؤخذ بهذا المقصد بقدر الإمكان . على أنّ أبا يوسف لا يرى دلالة مفهوم المخالفة فلا تدلّ الآية على الاختصاص بإمامة الرسول ، ولذلك جزم جمهور العلماء بأنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف للمسلمين أبداً . ومحمل هذا الشرط عندهم جار على غالب أحوالهم يومئذٍ من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لغزواتهم وسراياهم إلاّ للضرورة ، كما في الحديث " لولا أنّ قوماً لا يتخلّفون بعدي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة سارت في سبيل الله " فليس المراد الاحترازَ عن كون غيره فيهم ولكن التنويهَ بكون النبي فيهم . وإذ قد كان الأمراء قائمين مقامه في الغزوات فالذي رخّص الله للملسمين معه يرخّصه لهم مع أمرائه ، وهذا كقوله : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] .

وفي نظم الآية إيجاز بديع فإنّه لمّا قال : « فلتقم طائفة منهم معك » علم أنّ ثمة طائفة أخرى ، فالضمير في قوله : { وليأخذوا أسلحتهم } للطائفة باعتبار أفرادها ، وكذلك ضمير قوله : { فإذا سجدوا } للطائفة التي مع النبي ، لأن المعية معية الصلاة ، وقد قال : { فإذا سجدوا } . وضمير قوله : { فليكونوا } للطائفة الأخرى المفهومة من المقابلة ، لظهور أنّ الجواب وهو { فليكونوا من ورائكم } متعيّن لفعل الطائفة المواجهة العدوّ .

وقوله : { ولتأت طائفة أخرى } هذه هي المقابلة لقوله : { فلتقم طائفة منهم معك } .

وقد أجملت الآية ما تصنعه كلّ طائفة في بقية الصلاة . ولكنّها أشارت إلى أنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم واحدة لأنّه قال : { فليصلوا معك } . فجعلهم تابعين لصلاته ، وذلك مؤذن بأنّ صلاته واحدة ، ولو كان يصلّي بكل طائفة صلاة مستقلّة لقال تعالى فلتصلّ بهم .

وبهذا يبطل قول الحسن البصري : بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين بكلّ طائفة ، لأنّه يصير متمّا للصلاة غير مقصّر ، أو يكون صلّى بإحدى الطائفتين الصلاة المفروضة وبالطائفة الثانية صلاة : نافلة له ، فريضة للمؤمنين ، إلاّ أن يلتزم الحسن ذلك . ويرى جواز ائتمام المفترض بالمتنفّل . ويظهر أنّ ذلك الائتمام لا يصحّ ، وإن لم يكن في السنّة دليل على بطلانه .

وذهب جمهور العلماء إلى أنّ الإمام يصلّي بكلّ طائفة ركعة ، وإنّما اختلفوا في كيفية تقسيم الصلاة : بالنسبة للمأمومين . والقول الفصل في ذلك هو ما رواه مالك في « الموطأ » ، عن سهل بن أبي حثمة : إنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، فصفّت طائفة معه وطائفة وِجاه العدوّ ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم قام ، وأتمّوا ركعة لأنفسهم ، ثم انصرفوا فوقفوا وِجاه العدوّ ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت له ، ثم سلّم ، ثم قضوا الركعة التي فاتتهم وسلُّموا وهذه الصفة أوفق بلفظ الآية ، والروايات غيرُ هذه كثيرة .

والطائفة : الجماعة من الناس ذات الكثرة . والحقّ أنّها لا تطلق على الواحد والاثنين ، وإن قال بذلك بعض المفسّرين من السلف . وقد تزيد على الألف كما في قوله تعالى : { على طائفتين مِن قبْلِنا } [ الأنعام : 156 ] . وأصلها منقولة من طائفة الشيء وهي الجزء منه .

وقوله : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } استُعمل الأخذ في حقيقته ومجازه : لأنّ أخذ الحِذر مجاز ، إذ حقيقة الأخذ التناول ، وهو مجاز في التلبّس بالشيء والثبات عليه . وأخذُ الأسلحة حقيقة ، ونظيره قوله تعالى : { والذين تبوّأوا الدار والإيمانَ من قبلهم } [ الحشر : 9 ] ، فإنّ تَبَوّأ الإيمانِ الدخول فيه والاتّصافُ به بعد الخروج من الكفر . وجاء بصيغة الأمر دون أن يقول : ولا جناح عليكم أن تأخذوا أسلحتكم ، لأنّ أخذ السلاح فيه مصلحة شرعية .

وقوله : { ود الذين كفروا } الخ ، ودّهم هذا معروف إذ هو شأن كلّ محارب ، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية ، إنّما المقصود أنّهم ودّوا ودّا مستقرباً عندهم ، لظنّهم أنّ اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلاً من المشركين لحقيقة الدين ، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم ، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلاً يكونوا عند ظنّ المشركين ، وليعوّدهم بالأخذ بالحزم في كلّ الأمور ، وليريهم أنّ صلاح الدين والدنيا صنوان .

والأسلحة جمع سلاح ، وهو اسم جنس لآلة الحرب كلّها من الحديد ، وهي السيف والرمح والنبل والحَرْبَة وليس الدرع ولا الخُوذَة ولا التُّرس بسلاح . وهو يذكّر ويؤنث . والتذكير أفصح ، ولذلك جمعوه على أسلحة وهو من زِنات جمع المذكّر .

والأمتعة جمع متاع وهو كلّ ما ينتفع به من عروض وأثاث ، ويدخل في ذلك ما له عون في الحرب كالسروج ولامة الحرب كالدروع والخُوذات . { فيميلون } مفرّع عن قوله : { لو تغفلون } » الخ ، وهو محلّ الودّ ، أي ودّوا غفلتكم ليميلوا عليكم .

والميل : العدول عن الوسط إلى الطرف ، ويطلق على العدول عن شيء كان معه إلى شيء آخر ، كما هنا ، أي فيعدلون عن مُعسكرهم إلى جيشكم . ولمّا كان المقصود من الميل هنا الكَرُّ والشدُّ ، عُدّي ب ( على ) ، أي فيشدّون عليكم في حال غفلتكم .

وانتصب ( مَيلةً ) على المفعولية المطلقة لبيان العدد ، أي شدّة مفردة . واستعملت صيغة المرّة هنا كناية عن القوّة والشدّة ، وذلك أنّ الفعل الشديد القويّ يأتي بالغرض منه سريعاً دون معاودة علاج ، فلا يتكرّر الفعل لتحصيل الغرض ، وأكّد معنى المرّة المستفاد من صيغة فعلة بقوله : { واحدة } تنبيهاً على قصد معنى الكناية لئلاّ يتوهّم أنّ المصدر لمجرّد التأكيد لقوله : { فيميلون } .

وقوله : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر } الخ رخصة لهم في وضع الأسلحة عند المشقّة ، وقد صار ما هو أكمل في أداء الصلاة رخصةً هنا ، لأنّ الأمور بمقاصدها وما يحصل عنها من المصالح والمفاسد ، ولذلك قيّد الرخصة مع أخذ الحذر . وسبب الرخصة أنّ في المطر شاغلاً للفريقين كليهما ، وأمّا المرض فموجب للرخصة لخصوص المريض .

وقوله : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } تذييل لتشجيع المسلمين ؛ لأنّه لمّا كرّر الأمر بأخذ السلاح والحَذر ، خيف أن تثور في نفوس المسلمين مخافة من العدوّ من شدّة التحذير منه ، فعقّب ذلك بأنّ الله أعدّ لهم عذاباً مهيناً ، وهو عذاب الهزيمة والقتل والأسر ، كالذي في قوله : { قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم } [ التوبة : 14 ] ، فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلاّ لتحقيق أسباب ما أعدّ الله لهم ، لأنّ الله إذا أراد أمراً هيَّأ أسبابه . وفيه تعليم المسلمين أن يطلبوا المسبّبات من أسبابها ، أي إن أخذتم حِذركم أمِنتم من عدوّكم .