{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }
يأمر تعالى بتدبر كتابه ، وهو التأمل في معانيه ، وتحديق الفكر فيه ، وفي مبادئه وعواقبه ، ولوازم ، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف ، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم ، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته . فإنه يعرِّف بالرب المعبود ، وما له من صفات الكمال ؛ وما ينزه عنه من سمات النقص ، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها ، وما لهم عند القدوم عليه ، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة ، والطريق الموصلة إلى العذاب ، وصفة أهلها ، وما لهم عند وجود أسباب العقاب .
وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة ، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [ هو ] المقصود بإنزال القرآن ، كما قال تعالى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وقال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }
ومن فوائد التدبر لكتاب الله : أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله ، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا ، ويوافق بعضه بعضا . فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع ، كلها متوافقة متصادقة ، لا ينقض بعضها بعضا ، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور ، فلذلك قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } أي : فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً .
ثم أنكر - سبحانه - على هؤلاء المنافقين وأشباههم عدم تدبرهم للقرآن وحضهم على تأمل حكمه وأحكامه وهدايته فقال : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } .
وقوله { يَتَدَبَّرُونَ } من التدبير ، وتدبر الأمر - كما يقول الزمخشرى - تأمله والنظر فى أدباره وما يئول اليه فى عاقبته ومنتهاه ، ثم استعمل فى كل تأمل فمعنى تدبر القرآن : تأمل معانيه وتبصر ما فيه .
والاستفهام لإِنكار عدم تدبرهم ، والتعجيب من استمرارهم فى جهلهم ونفاقهم مع توفر الأسباب التى توصلهم إلى الهداية وعلى رأسها تدبر القرآن وتفهم معانيه .
والفاء للعطف على مقدر . أى : أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه .
والمعنى : إن هؤلاء المنافقين والذين فى قلوبهم مرض قد خيب الله سعيهم ، وكشف خباياهم ، ورأوا بأعينهم سوء عاقبة الكافرين وحسن عاقبة المؤمنين ، فهلا دفعهم ذلك إلى الإِيمان وإلى تدبر القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وإرشادات وأخبار صادقة ، وأحكام حكيمة . . تشهد بأنه من عند الله - تعالى - ، ولو كان هذا القرآن من عند غير الله أى من إنشاء البشر لوجدوا فى أخباره وفى نظمه وفى أسلوبه وفى معانيه اختلافا كثيرا فضلا عن الاختلاف القليل ، ولكن القرآن لأنه من عند الله وحده قد تنزه عن كل ذلك وخلا من كل اختلاف سواء أكان كثيراً أم قليلا .
فالمراد بالاختلاف : تباين النظم ، وتناقض الحقائق ، وتعارض الأخبار وتضارب المعانى ، وغير ذلك مما خلا منه القرآن الكريم لأنه يتنافى مع بلاغته وصدقه .
وفى ذلك يقول صاحب الكشاف : قوله { لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } أى : لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه فكان بعضه بالغا حد الإِعجاز . وبعضه قاصرا عنه تمكن معارضته ، وبعضه إخبارا يغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعانى ، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم .
فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة لقوى البلغاء ، وتناصر معان ، وصدق أخبار دل على أنه ليس إلا من عند قادر على ما لم يقدر عليه غيره ، عالم بما لا يعلمه أحد سواه .
فالآية الكريمة تدعو الناس فى كل زمان ومكان إلى تدبر القرآن الكريم وتأمل أحكامه ، والانقياد لما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات وأوامر ونواه ، ليسعدوا فى دنياهم وآخرتهم .
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة ، هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني ، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه ، الذي وهبه له الخالق المنان . يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم . . ويعين لهم منهج النظر الصحيح ؛ كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطى ء إذا اتبعها ذلك المنهج . وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة ؛ ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى . . ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى :
( أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا ) . .
وفي هذا العرض ، وهذا التوجيه ، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته - كما قلنا - كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها . وهي في الوقت ذاته ذات دلالة - كما أسلفنا - لا تمارى !
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا . . ومستوياتها ومجالاتها ، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها . ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه ، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى .
ومن ثم فإن كل أحد ، وكل جيل ، مخاطب بهذه الآية . ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف ، أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه . .
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه ، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة .
تتجلى هذه الظاهرة . ظاهرة عدم الاختلاف . . أو ظاهرة التناسق . . ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية . . ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح ؛ التوفيق والتعثر . القوة والضعف . التحليق والهبوط . الرفرفة والثقلة . الإشراق والانطفاء . . إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر . وأخصها سمة " التغير " والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال . يبدو ذلك في كلام البشر ، واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد ، أو المفكر الواحد ، أو الفنان الواحد ، أو السياسي الواحد ، أو القائد العسكري الواحد . . أو أي كان في صناعته ؛ التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا . . وهو : التغير ، والاختلاف . .
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو : الثبات ، والتناسق ، هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه ، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى . . كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان . . إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية ؛ ويدل على الصانع . يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال ، ولا تتوالى عليه الأحوال ! .
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف . . والتناسق المطلق الشامل الكامل . . بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحملهالعبارات . ويؤديه الأداء . . منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد - وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك ! - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ؛ ثم بين دنياه وآخرته ؛ وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد ؛ وفي عالم " الإنسان " وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام . .
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني ، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع . فما من نظرية بشرية ، وما من مذهب بشري ، إلا وهو يحمل الطابع البشري . . جزئية النظر والرؤية . . والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية . . وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة ؛ التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها - إن عاجلا وإن آجلا - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها ؛ أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها . . إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف ، الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود ، ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة ، فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة ! - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل ، الثابت الأصول ؛ ثبات النواميس الكونية ؛ الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية !
وتدبر هذه الظاهرة ، في آفاقها هذه ، قد لا يتسنى لكل إدراك ، ولا يتسنى لكل جيل . بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها ؛ وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقا منها للأجيال المترقية ، في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة . . إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهره - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر ! - بقية يلتقي عليها كل إدراك ، ويلتقي عليها كل جيل . . وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر . وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت ، وإنما وحدة وتناسق . . ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق ! .
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة ، كما يكل كل أحد ، وكل جماعة ، وكل جيل . وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن ؛ وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله . ولا يمكن أن يكون من عند غير الله .
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة ، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله . فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم ، سبيلا إلى الغرور ، وتجاوز الحد المأمون ؛ والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل !
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها ، وإدراك مداها . فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديما وحديثا - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله . ويجعلون منهندا لشرع الله . بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله !
الأمر ليس كذلك . . الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى : حقيقة أن هذا الدين من عند الله . لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها ؛ وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن هذا الدين من عند الله . . ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها ، أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم - بعد ذلك - تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين - لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها . فالحكمة متحققه حتما ما دام من عند الله . ولا يهم عندئذ أن يرى " المصلحة " متحققة فيه في اللحظة الحاضرة . فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عندالله . . والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله - فضلا على أن يكون الحاكم عليها - لأنه لا يدرك إلا إدراكا ناقصا في المدى المحدود ؛ ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح - لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله - بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة ؛ فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها ، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولا إلى الإدراك البشري . . وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه ؛ لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه !
فالمصلحة متحققة أصلا بوجود النص من قبل الله تعالى . . إنما يكون هذا فيما لا نص فيه ، مما يجد من الأقضية ؛ وهذا سبق بيان المنهج فيه ، وهو رده إلى الله والرسول . . وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي . إلى جانب الاجتهاد في فهم النص ، والوقوف عنده ، لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها ! ! ! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة . . وهو ملك عريض ! ! !
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذى أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه - ثم لا نتجاوز به هذا المجال . كي لا نمضى في التيه بلا دليل . إلا دليلا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق . . وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل ! ! !
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ( 82 )
الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلّق بهؤلاء المنافقين أو الكفرةِ الصرحاءِ وبتوليّهم المعرض بهم في شأنه بقوله : { ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } [ النساء : 80 ] ، وبقولهم { طاعة } [ النساء : 81 ] ، ثم تدبير العصيان فيما وعدوا بالطاعة في شأنه . ولمّا كان ذلك كلّه أثراً من آثار استبطان الكفر ، أو الشكّ ، أو اختيار ما هو في نظرهم أولى ممّا أمروا به ، وكان استمرارهم على ذلك ، مع ظهور دلائل الدّين ، منبئاً بقلّة تفهّمهم القرآن ، وضعف استفادتهم ، كان المقام لتفريع الاستفهام عن قلّة تفهمّهم . فالاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجيب منهم في استمرار جهلهم مع توفّر أسباب التدبير لديهم .
تحدّى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن ، كما تحدّاهم بألفاظه ، لبلاغته إذ كان المنافقون قد شكّوا في أنّ القرآن من عند الله ، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به ، فإذا خرجوا من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم ، ويشكّكون ويشكّون إذا بدا لهم شيء من التعارض ، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى : { فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه } [ آل عمران : 7 ] الآية .
والتدبّر مشتقّ من الدُّبر ، أي الظَّهر ، اشتقّوا من الدُّبر فعلاً ، فقالوا : تدبّر إذا نظر في دبر الأمر ، أي في غائبه أو في عاقبته ، فهو من الأفعال التي اشتقّت من الأسماء الجامدة . والتدبّر يتعدّى إلى المتأمَّل فيه بنفسه ، يقال : تدبّر الأمَر . فمعنى { يتدبَّرون القرآن } يتأمّلون دلالته ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين ، أي تدبّر تفاصيله ؛ وثانيهما أن يتأمّلوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله ، وأنّ الذي جاء به صادق . وسياق هذه الآيات يرجّح حمل التدبُّر هنا على المعنى الأول ، أي لو تأمّلوا وتدبّروا هدي القرآن لحصل لهم خير عظيم ، ولمَا بَقُوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام . وكلا المعنيين صالح بحالهم ، إلاّ أنّ المعنى الأول أشدّ ارتباطاً بما حكي عنهم من أحوالهم .
وقوله : { ولو كان من عند غير الله } الخ يجوز أن يكون عطفاً على الجملة الاستفهامية فيكونوا أمروا بالتدبّر في تفاصيله ، وأعلموا بما يدلّ على أنّه من عند الله ، وذلك انتفاء الاختلاف منه ، فيكون الأمر بالتدبّر عامّاً ، وهذا جزئيّ من جزئيات التدبّر ذكر هنا انتهازاً لفرصة المناسبة لغَمْرهم بالاستدلال على صدق الرسول ، فيكون زائداً على الإنكار المسوق له الكلام ، تعرّض له لأنّه من المهمّ بالنسبة إليهم إذ كانوا في شكّ من أمرهم . وهذا الإعراب أليق بالمعنى الأول من معنيي التدبّر هنا . ويجوز أن تكون الجملة حالاً من « القرآن » ، ويكون قيداً للتدبّر ، أي ألاَ يتدبّرون انتفاء الاختلاففِ منه فيعلمون أنّه من عند الله ، وهذا أليق بالمعنى الثاني من معنيي التدبّر .
وممّا يستأنس به للإعراب الأوّل عدم ذكر هذه الزيادة في الآية المماثلة لهذه من سورة القتال ، وهي قوله : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذُكر فيها القتال } إلى قوله : { أفلا يتدبّرون القرآنَ أم على قلوب أقفالُها } [ محمد : 20 24 ] وهذه دقائق من تفسير الآية أهملها جميع المفسّرين .
والاختلاف يظهر أنّه أريد به اختلاف بعضه مع بعض ، أي اضطرابه ، ويحتمل أنّه اختلافه مع أحوالهم : أي لوجدوا فيه اختلافاً بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنّه من عند الله ، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصفَ المطّلع على الغيوب ، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم . ووُصِفَ الاختلاف بالكثير في الطَرف الممتنع وقُوعه بمدلول ( لو ) . ليعلم المتدبّر أنّ انتفاء الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنّه من عند الله ، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب ( لو ) ، فلا يقدَّر ذلك الطرف مقيَّداً بقوله : { كثيراً } بل يقدر هكذا : لكنّه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلاً .