35- الله مصدر النور في السماوات والأرض ، فهو منورهما بكل نور حسي نراه ونسير فيه ، وبكل نور معنوي ، كنور الحق والعدل ، والعلم والفضيلة ، والهدى والإيمان ، وبالشواهد والآثار التي أودعها مخلوقاته ، وبكل ما يدل علي وجود الله ويدعو إلي الإيمان به سبحانه ، وَمَثلُ نوره العظيم وأدلته الباهرة في الوضوح ، كمثل نور مصباح شديد التوهج ، وضع في فجوة من حائط تساعد علي تجميع نوره ووفرة إضاءته ، وقد وضع المصباح في قارورة صافية لامعة لمعان كوكب مشرق ، يتلألأ كالدر ويستمد المصباح وقوده من زيت شجرة كثيرة البركات ، طيبة التربة والموقع ، هي شجرة الزيتون المغروسة في مكان معتدل متوسط ، فلا هي شرقية فتحرم حرارة الشمس آخر النهار ، ولا هي غربية فتحرمها أول النهار ، بل هي علي قمة الجبل ، أو في فضاء الأرض تفيد من الشمس في جميع أجزاء النهار ، يكاد زيت هذه الشجرة لشدة صفائه يضيء ، ولو لم تمسسه نار المصباح ، فهذه العوامل كلها تزيد المصباح إضاءة فوق إضاءة ، ونوراً علي نور .
وهكذا تكون الشواهد المنبثة في الكون حسيها ومعنويها آيات واضحة لا تدع مجالا للشك في وجود الله ، وفي وجوب الإيمان به وبرسالاته وما جاءت به . والله يوفق من يشاء إلي الإيمان عن طريقها ، إذا حاول الانتفاع بنور عقله . وقد أتى الله بالأمثلة المحسوسة ليسهل إدراك الأمور المعقولة ، وهو سبحانه واسع العلم ، يعلم من نظر في آياته ، ومن أعرض واستكبر ، ومجازيهم علي ذلك .
{ 35 } { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الحسي والمعنوي ، وذلك أنه تعالى بذاته نور ، وحجابه -الذي لولا لطفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه- نور ، وبه استنار العرش ، والكرسي ، والشمس ، والقمر ، والنور ، وبه استنارت الجنة . وكذلك النور المعنوي يرجع إلى الله ، فكتابه نور ، وشرعه نور ، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور . فلولا نوره تعالى ، لتراكمت الظلمات ، ولهذا : كل محل ، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر ، { مَثَلُ نُورِهِ } الذي يهدي إليه ، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين ، { كَمِشْكَاةٍ } أي : كوة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ } من صفائها وبهائها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : مضيء إضاءة الدر . { يُوقَدُ } ذلك المصباح ، الذي في تلك الزجاجة الدرية { مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أي : يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون ، { لَا شَرْقِيَّةٍ } فقط ، فلا تصيبها الشمس آخر النهار ، { وَلَا غَرْبِيَّةٍ } فقط ، فلا تصيبها الشمس [ أول ]{[564]} النهار ، وإذا انتفى عنها الأمران ، كانت متوسطة من الأرض ، كزيتون الشام ، تصيبها الشمس أول النهار وآخره ، فتحسن وتطيب ، ويكون أصفى لزيتها ، ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا } من صفائه { يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } فإذا مسته النار ، أضاء إضاءة بليغة { نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي : نور النار ، ونور الزيت .
ووجه هذا المثل الذي ضربه الله ، وتطبيقه على حالة المؤمن ، ونور الله في قلبه ، أن فطرته التي فطر عليها ، بمنزلة الزيت الصافي ، ففطرته صافية ، مستعدة للتعاليم الإلهية ، والعمل المشروع ، فإذا وصل إليه العلم والإيمان ، اشتعل ذلك النور في قلبه ، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح ، وهو صافي القلب من سوء القصد ، وسوء الفهم عن الله ، إذا وصل إليه الإيمان ، أضاء إضاءة عظيمة ، لصفائه من الكدورات ، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ، فيجتمع له نور الفطرة ، ونور الإيمان ، ونور العلم ، وصفاء المعرفة ، نور على نوره .
ولما كان هذا من نور الله تعالى ، وليس كل أحد يصلح له ذلك ، قال : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } ممن يعلم زكاءه وطهارته ، وأنه يزكي معه وينمو . { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ليعقلوا عنه ويفهموا ، لطفا منه بهم ، وإحسانا إليهم ، وليتضح الحق من الباطل ، فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة ، فيعلمها العباد علما واضحا ، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فعلمه محيط بجميع الأشياء ، فلتعلموا أن ضربه الأمثال ، ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها ، وأنها مصلحة للعباد ، فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها ، لا بالاعتراض عليها ، ولا بمعارضتها ، فإنه يعلم وأنتم لا تعلمون .
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، إلى الحديث عن جلال الله - تعالى - ونوره وعظمته وعن بيوته التى أذن لها أن ترفع ، وعن الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعته وتقديسه ، وعن الجزاء الحسن الذى أعده الله - سبحانه - لهؤلاء الأخيار ، فقال : { الله نُورُ . . . } .
قال الإمام القرطبى ما ملخصه : " قوله - تعالى - : { الله نُورُ السماوات والأرض } . النور فى كلام العرب : الأضواء المدركة بالبصر . واستعمل مجازا فيما صح من المعانى ولاح . فيقال : كلام له نور . . . وفلان نور البلد .
فيجوز أن يقال : الله - تعالى - نور ، من جهة المدح ، لأنه أوجد جميع الأشياء ، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها ، وعنه صدورها ، وهو - سبحانه - ليس من الأضواء المدركة ، جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية : فقيل : المعنى : به وبقدرته أنارت أضواؤها . واستقامت أمورها ، وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما يقال : الملك نور أهل البلد ، أى : به قوام أمرها . . . فهو - أى النور - فى الملك مجاز . وهو فى صفة الله - تعالى - حقيقة محضة .
قال ابن عرفة : أى منور السموات والأرض . وقال مجاهد : مدبر الأمور فى السموات والأرض .
قال ابن عباس : المعنى : الله هادى السموات والأرض . والأول أعم للمعانى وأصح مع التأويل .
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو الذى رجحه الإمام القرطبى فيكون معنى الجملة الكريمة : الله - تعالى - هو نور العالم كله علويه وسفليه ، بمعنى منوره بالمخلوقات التكوينية ، وبالآيات التنزيلية ، وبالرسالات السماوية ، الدالة دلالة واضحة على وجوده - سبحانه - وعلى وحدانيته ، وقدرته ، وسائر صفاته الكريمة ، والهادية إلى الحق ، وإلى ما به صلاح الناس فى دنياهم وآخرتهم .
وقال ابن كثير : " وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول : " اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن " .
وقال صلى الله عليه وسلم فى دعائه يوم آذاه المشركون من أهل الطائف : " أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بى غضبك ، أو ينزل بى سخطك ، لك العتبى - أى الرجوع عن الذنب - حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
وأضاف - سبحانه - نوره إلى السموات والأرض ، للدلالة على سعة إشراق هذا النور ، وعموم سنائه ، وتمام بهائه فى الكون كله .
ثم قرب - عز وجل - نوره إلى الأذهان فقال : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ . . . } .
أى : صفة نوره العجيبة الشأن فى الإضاءة والسطوع ، كصفة مشكاة - وهى الفتحة الصغيرة فى الجدار دون أن تكون نافذة فيه - هذه المشكاة فيها مصباح ، أى : سراج ضخم ثاقب تشع منه الأنوار .
وقال - سبحانه - : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن وجود المصباح فى هذه المكشاة يكون أجمع لنوره ، وأحصر لضيائه ، فيبدو قويا متألقا ، بخلاف مالو كان المصباح فى مكان نافذ فإنه لا يكون كذلك .
{ المصباح فِي زُجَاجَةٍ } أى : فى قنديل من الزجاج الصافى النقى ، الذى يقيمه الريح ، ويزيده توهجا وتألقا .
هذه { الزجاجة } فى ذاتها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أى شديد الإنارة ، نسبة إلى الدر فى صفائه وسنائه وإشراقه وحسنه .
{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أى : هذا المصباح يستمد نوره من زيت شجرة مباركة أى : كثيرة المنافع ، زيتونة أى : هى شجرة الزيتون .
فحرف " من " لابتداء الغاية ، والكلام ، على حذف مضاف ، أى : من زيت شجرة ، مباركة : صفة لشجرة ، وزيتونة : بدل أو عطف بيان من شجرة .
ووصف - سبحانه - شجرة الزيتون بالبركة ، لطول عمرها ، وتعدد فوائدها التى من مظاهرها : الانتفاع بزيتها وخصبها وورقها وثمارها .
قال - تعالى - : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } وقوله - سبحانه - : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } صفة أخرى لشجرة الزيتون .
أى : أن هذه الشجرة ليست متميزة إلى مكان معين أو جهة معينة بل هيى مستقبلة للشمس طول النهار ، تسطع عليها عند شروقها وعند غروبها وما بين ذلك ، فترتب على تعرضها للشمس طول النهار ، امتداد حياتها ، وعظم نمائها وحسن ثمارها .
وقوله - تعالى - : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } صفة ثالثة لتلك الشجرة .
أى ، أنها يكاد زيتها من شدة صفائه يضىء دون أن تمسه النار ، فهو زيت من نوع خاص ، بلغ من الشفافية أقصاها ، ومن الجودة أعلاها .
قال بعض العلماء : وقد شُبِّه فى الآية نورُ الله ، بمعنى أدلته ، وآياته - سبحانه - من حيث دلالتها على الهدى والحق ، وعلى ما ينفع الخلق فى الحياتين شبه ذلك بنور المشكاة التى فيها زجاجة صافية ، وفى تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ الغاية فى الصفاء والرقة والإشراق ، حتى يكاد يضىء بنفسه من غير أن تمسه نار " .
وقوله - سبحانه - : { نُّورٌ على نُورٍ } أى : هو نور عظيم متضاعف ، كائن على نور عظيم مثله ، إذ أن نور الله - تعالى - لا حد لتضاعفه ، ولا نهاية لعمقه بخلاف الأنوار الأخرى . فإن لتضاعفها حدا محدودا مهما كان إشراقها وضوؤها .
فقوله : { نُّورٌ } خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هو نور . وقوله { على نُورٍ } متعلق بمحذوف هو صفة له ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة . أى : كائن على نور مثله .
ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فقال : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أى : يهدى الله - تعالى - لنوره العظيم من يشاء هدايته من عباده ، بأن يوفقهم للإيمان ، والعمل بتعاليم الإسلام ، وللسير على طريق الحق والرشاد .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } .
أى : ويضرب الله - تعالى - الأمثال للناس ، لكى يقرب لهم الأمور وييسرلهم المسائل ، ويبرز لهم المعقول فى صورة المحسوس ، والله - تعالى - بكل شىء عليم ، سواء أكان هذا الشىء ظاهرا أم باطنا ، معقولا أم محسوسا .
قال بعض العلماء ما ملخصه : هذه الآية الكريمة من الآيات التى صنفت فيها مصنفات ، منها " مشكاة الأنوار " للإمام الغزالى . . . ومنها ما قاله الإمام ابن القيم عنها فى كتابه " الجيوش الإسلامية " .
فقد قال - رحمه اله - : سمى الله تعالى - نفسه نورا ، وجعل كتابه نورا ، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ، ودينه نورا ، واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ . قال - تعالى - { الله نُورُ السماوات والأرض } وقد فسر بكونه منور السموات والأرض وهادى أهل السموات والأرض فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذى هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق اسم النور الذى هو أحد الأسماء الحسنى . . " .
في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري . ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور . عالج عرامة اللحم والدم ، وشهوة العين والفرج ، ورغبة التجريح والتشهير ، ودفعة الغضب والغيظ . وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة ، وأن تشيع في القول . عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف . وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات . وعالجها بالوسائل الواقية : بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة ، والنهي عن مثيرات الفتنة ، وموقظات الشهوة . ثم بالإحصان ، ومنع البغاء ، وتحرير الرقيق . . كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم ، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق .
وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ ، ومن اضطراب في المقاييس ، وقلق في النفوس . فإذا نفس محمد - رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] - مطمئنة هادئة . وإذا نفس عائشة - رضي الله عنها - قريرة راضية . وإذا نفس أبي بكر - رضي الله عنه - سمحة صافية . وإذا نفس صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - قانعة بشهادة الله وتبرئته . وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة . وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه . فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته . .
بهذا التعليم . وهذا التهذيب . وهذا التوجيه . عالج الكيان البشري ، حتى أشرق بالنور ؛ وتطلع إلى الأفق الوضيء ؛ واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والأرض ، وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق ، وكله نور :
( الله نور السماوات والأرض ) . .
وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء ، فيغمر الكون كله ، ويفيض على المشاعر والجوارح ، وينسكب في الحنايا والجوانح ؛ وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر ؛ وحتى تعانقهوترشفه العيون والبصائر ؛ وحتى تنزاح الحجب ، وتشف القلوب ، وترف الأرواح . ويسبح كل شيء في الفيض الغامر ، ويتطهر كل شيء في بحر النور ، ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله ، فإذا هو انطلاق ورفرفة ، ولقاء ومعرفة ، وامتزاج وألفة ، وفرح وحبور . وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود ، تتصل فيه السماوات بالأرض ، والأحياء بالجماد ، والبعيد بالقريب ؛ وتلتقي فيه الشعاب والدروب ، والطوايا والظواهر ، والحواس والقلوب . .
( الله نور السماوات والأرض ) . .
النور الذي منه قوامها ومنه نظامها . . فهو الذي يهبها جوهر وجودها ، ويودعها ناموسها . . ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى ، عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة - بعد تحطيم الذرة - إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور ! ولا " مادة " لها إلا النور ! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونيات ، تنطلق - عند تحطيمها - في هيئة إشعاع قوامه هو النور ! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون . كان يدركها كلما شف ورف ، وانطلق إلى آفاق النور . ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ففاض بها وهو عائد من الطائف ، نافض كفيه من الناس ، عائذ بوجه ربه يقول : " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " . وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج . فلما سألته عائشة : هل رأيت ربك ? قال . " نور . أنى أراه " .
ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما ، ولا يستشرف طويلا ذلك الأفق البعيد . فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي ، عاد يقارب مداه ، ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود ، في مثل قريب محسوس :
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . المصباح في زجاجة . الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ، يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار . نور على نور . .
وهو مثل يقرب للإدراك المحدود صورة غير المحدود ؛ ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس ، حين يقصر عن تملي الأصل . وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير .
ومن عرض السماوات والأرض إلى المشكاة . وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة ، يوضع فيها المصباح ، فتحصر نوره وتجمعه ، فيبدو قويا متألقا : ( كمشكاة فيها مصباح ) . . ( المصباح في زجاجة ) . . تقيه الريح ، وتصفي نوره ، فيتألق ويزداد . . ( الزجاجة كأنها كوكب دري ) . . فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة . . هنا يصل بين المثل والحقيقة . بين النموذج والأصل . حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير ، كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير ، الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير . . وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج . إلى المصباح :
( يوقد من شجرة مباركة زيتونة )ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون . ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل . إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة . ظلال الوادي المقدس في الطور ، وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب . وفي القرآن إشارة لها وظلال حولها : ( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ) . وهي شجرة معمرة ، وكل ما فيها مما ينفع الناس . زيتها وخشبهاوورقها وثمرها . . ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير . فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة . إنما هي مثل مجرد للتقريب : ( لا شرقية ولا غربية ) . . وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود ، إنما هو زيت آخر عجيب : ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) . . فهو من الشفافية بذاته ، ومن الإشراق بذاته ، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق ؛ ( ولو لم تمسسه نار ) . . ( نور على نور ) . . وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف !
إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض . النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه . إنما هي محاولة لوصل القلوب به ، والتطلع إلى رؤياه : ( يهدي الله لنوره من يشاء ) . . ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه . فهو شائع في السماوات والأرض ، فائض في السماوات والأرض . دائم في السماوات والأرض . لا ينقطع ، ولا يحتبس ، ولا يخبو . فحيثما توجه إليه القلب رآه . وحيثما تطلع إليه الحائر هداه . وحيثما اتصل به وجد الله .
إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك ، وهو العليم بطاقة البشر :
«النور » في كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر ويستعمل فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه كلام له نور ومنه الكتاب المنير ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
نسب كأن عليه من شمس الضحى . . . نوراً ومن فلق الصباح عمودا{[8716]}
والله تعالى ليس كمثله شيء فبين أنه ليس كالأضواء المدركة ولم يبق للآية معنى إلا أنه أراد { الله } ذو { نور السماوات والأرض } أي بقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما تقول :الملك نورالأمة أي به قوام أمورها وصلاح جملتها ، والأمر في الملك مجاز وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة ، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نوراً هادياً لأن ظهور الوجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات تبارك الله لا رب سواه{[8717]} ، وقالت فرقة التقدير دين الله { نور السماوات والأرض } ، قال ابن عباس هادي أهل السماوات والأرض والأول أعم للمعاني وأوضح مع التأمل ، وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي الله «نَوّرَ » بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء على أنه فعل{[8718]} ، وروي أن اليهود لما نزلت هذه الآية جسموا في تأوليها واعترضوا محمداً عليه السلام بأن قالوا كيف هو نور الأرض والسماء بيننا وبينه ، فنزلت حينئذ { مثل نوره كمشكاة } الآية أي ليس الأمر كما ظننتم وإنما هو نور بأنه قوام كل شيء وخالقه وموجده { مثل نوره } كذا وكذا ، واختلف المتأولون في الضمير في { نوره } على من يعود ، فقال كعب الأحبار وابن جبير هو عائد على محمد عليه السلام أي مثل نور محمد ، وقال أبي بن كعب وابن جبير والضحاك هو عائد على المؤمنين ، وفي قراءة أبي بن كعب «مثل نور المؤمنين » ، وروي أن في قراءته «نور المؤمن » ، وروي أن فيها «مثل نور من آمن به » ، وقال الحسن هو عائد على القرآن والإيمان ، قال مكي بن أبي طالب وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله { والأرض } .
قال القاضي أبو محمد : وهذه أقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر ، وفيها تقطع المعنى المراد بالآية ، وقالت فرقة الضمير في { نوره } عائد على { الله } ، ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد ب «النور » الذي أضيف إلى الله تعالى إضافة خلق إلى خالق كما تقول سماء الله وناقة الله ، فقال بعضها هو محمد صلى الله عليه وسلم{[8719]} ، وقال بعضها هو المؤمن ، وقال بعضها هو الإيمان والقرآن{[8720]} ، وهذه الأقوال متجهة مطرد معها المعنى فكأن اليهود لما تأولوا { الله نور السماوات والأرض } بمعنى الضوء ، قيل لهم ليس كذلك وإنما هو نور فإنه قوام كل شيء وهاديه مثل نوره في محمد أو في القرآن ، والإيمان { كمشكاة } وهي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه .
وهذه الأقوال الثلاثة تطرد فيها مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل ، فعلى قول من قال الممثل به محمد عليه السلام ، وهو قول كعب الحبر ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو «المشكاة » أو صدره ، و { المصباح } هو النبوءة وما يتصل بها من عمله وهداه ، و { الزجاجة } قلبه و «الشجرة المباركة » هي الوحي والملائكة رسل إليه وسببه المتصل به ، والزيت هو الحجج والبراهين ، والآيات التي تضمنها الوحي ، وعلى قول من قال الممثل به المؤمن وهذا قول أبي بن كعب ، ف «المشكاة » صدره ، و { المصباح } الإيمان والعلم ، و { الزجاجة } قلبه و «الشجرة » القرآن ، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها ، قال أبي فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، ومن قال إن الممثل به القرآن والإيمان فتقدير الكلام { مثل نوره } الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه { كمشكاة } ، أي كهذه الجملة وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان ، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة ، [ وذلك أن يريد : مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة ]{[8721]} كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، أي فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أية البشر ، و «المشكاة » الكوة في الحائط غير النافذة ، قاله ابن جبير وسعيد بن عياض وجمهور المفسرين ، وهي أجمع للضوء ، و { المصباح } فيها أكثر إنارة من غيرها ، وقال مجاهد «المشكاة » العمود الذي يكون { المصباح } على رأسه ، وقال أبو موسى «المشكاة » الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة ، وقال مجاهد أيضاً «المشكاة » الحدائد التي يعلق بها القنديل ، والأول أصح هذه الأقوال ، وقوله { في زجاجة } لأنه جسم شفاف { المصباح } فيه أنور منه في غير الزجاج ، و { المصباح } الفتيل بناره وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الداني الألف من «مشكاة » فكسر الكاف التي قبلها ، وقرأ نصر بن عاصم «في زَجاجة » بفتح الزاي ، و «الزجاجة » كذلك وهي لغة{[8722]} ، وقوله : { كأنها كوكب دري } أي في الإنارة والضوء وذلك يحتمل معنين : إما أن يريد انها بالمصباح كذلك ، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور ، قال الضحاك «الكوكب الدري » الزهرة ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «دُريّ » بضم الدال وشد الياء .
ولهذه القراءة وجهان : إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، وإما أن يكون أصله دريء مهموز من الدرء وهو الدفع وخففت الهمزة ، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «دريء » بالهمزة وهو فعيل من الدرء بمعنى أنها تدفع بعضها بعضاً أو بمعنى أن بهاءها يدفع خفاءها ، وفعيل بناء لا يوجد في الأسماء إلا في قولهم مريق للعصفور{[8723]} وفي السرية إذا اشتقت من السرو{[8724]} ، ووجه هذه القراءة أبو علي ، وضعفها غيره ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «دريء » على وزن فعيل بكسر الفاء من الدرء وهذه متوجهة ، وقرأ قتادة «دَريء » بفتح الدال والهمز قال أبو الفتح وهذا عزيز وإنما عزيز وإنما حفظ منه السكّينة بشد الكاف ، وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء ونصر بن عاصم «دري » بفتح الدال دون همزة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة والأعمش والحسن وقتادة وابن وثاب وعيسى «توقد » بضم التاء أي الزجاجة ، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والحسن وابن محيصن «تَوَقّدُ » بفتح التاء والواو وشد القاف وضم الدال أي الزجاجة ، وقرأ أبو عمرو أيضاً وابن كثير «تَوقَد » بفتح التاء والدال أي المصباح ، وقرأ عاصم فيما روى عنه إسماعيل{[8725]} «يوقد » بالياء المرفوعة على معنى يوقد المصباح ، قال أبو الفتح وقرأ السلمي والحسن وابن محيصن وسلام وقتادة «يَوَقَّدُ » بفتح الياء والواو والقاف والمشددة ورفع الدال أصله يتوقد ، وقوله { من شجرة } أي من زيت شجرة ، و «المباركة » المنمأة ، و «الزيتون » من أعظم الثمار نماء واطراد أفنان وغضارة ولا سيما بالشام والرمان كذلك والعيان يقضي بذلك ، وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن امية «ابن شمس » : [ الخفيف ]
ليت شعري مسافر بن أبي عمرو . . . «وليتٌ » يقولها المحزون
بورك الميّت الغريب كما بو . . . رك الرمّانُ والزيتون{[8726]}
وقوله تعالى : { لا شرقية ولا غربية } قرأ الجمهور فيهما بالخفض عطفاً على { زيتونة } ، وقرأ الضحاك «لا شرقيةٌ ولا غربيةٌ » بالرفع{[8727]} ، واختلف المتأولون في معناه ، فقال ابن عباس فيما حكى عنه الطبري معناه أنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول لا يصح عندي عن ابن عباس لأن الوجود يقتضي أَن الشجرة التي تكون بهذه الصفة ينفسد جناها ، وقال الحسن ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية ، وقال ابن زيد أراد أَنها من شجر الشام لأن شجر الشام هي أفضل الشجر وهي «الأرض المباركة » ، وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم المعنى في قوله : { لا شرقية ولا غربية } أنها في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها أي فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية ، وقوله : { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } مبالغة في صفة صفائه وحسنه وجودته ، وقرأ الجمهور «تمسسه » بالتاء من فوق ، وقرأ ابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وقوله : { نور على نور } أي هذه كلها معاون تكامل بها هذا النور الممثل به وفي هذا الموضع تم المثال ، ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده وذكر تفضله في ضرب الأمثال للعباد ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان .
{ الله نُورُ السماوات والأرض } .
أتْبع منةَ الهداية الخاصة في أحكام خاصة المفادة من قوله تعالى : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] الآية بالامتنان بأن الله هو مكون أصول الهداية العامة والمعارف الحقِّ للناس كلهم بإرسال رسوله بالهدى ودين الحق ، مع ما في هذا الامتنان من الإعلام بعظمة الله تعالى ومجده وعموم علمه وقدرته .
والذي يظهر لي أن جملة : { الله نور السموات والأرض } معترضة بين الجملة التي قبلها وبين جملة : { مثل نوره كمشكاة } وأن جملة : { مثل نوره كمشكاة } بيان لجملة : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] كما سيأتي في تفسيرها فتكون جملة : { الله نور السماوات والأرض } تمهيداً لجملة : { مثَل نوره كمشكاة } .
ومناسبة موقع جملة : { مثل نوره كمشكاة } بعد جملة : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } أن آيات القرآن نور قال تعالى : { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } في سورة النساء ( 174 ) ، وقال : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } في سورة العقود ( 15 ) ، فكان قوله : { الله نور السماوات والأرض } كلمة جامعة لمعان جمّة تتبع معاني النور في إطلاقه في الكلام .
وموقع الجملة عجيب من عدة جهات ، وانتقال من بيان الأحكام إلى غرض آخر من أغراض الإرشاد وأفانين من الموعظة والبرهان .
والنور : حقيقته الإشراق والضياء . وهو اسم جامد لمعنى ، فهو كالمصدر لأنا وجدناه أصلاً لاشتقاق أفعال الإنارة فشابهت الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة نحو : استنوق الجمل ، فإن فعل أنار مثل فعل أفلس ، وفعل استنار مثل فعل استحجر الطين . وبذلك كان الإخبار به بمنزلة الإخبار بالمصدر أو باسم الجنس في إفادة المبالغة لأنه اسم ماهية من المواهي فهو والمصدر سواء في الاتصاف . فمعنى : { الله نور السماوات والأرض } أن منه ظهورهما . والنور هنا صالح لعدة معان تشبّه بالنور . وإطلاق اسم النور عليها مستعمل في اللغة .
فالإخبار عن الله تعالى بأنه نور إخبار بمعنى مجازي للنور لا محالة بقرينة أصل عقيدة الإسلام أن الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لا يتردد في ذلك أحد من أصحاب اللسان العربي ولا تخلو حقيقة معنى النور عن كونه جوهراً أو عرضاً . وأسعد إطلاقات النور في اللغة بهذا المقام أن يراد به جلاء الأمور التي شأنها أن تخفى عن مدارك الناس وتلتبس فيقل الاهتداء إليها ، فإطلاقه على ذلك مجاز بعلامة التسبب في الحس والعقل وقال الغزالي في رسالته المعروفة « بمشكاة الأنوار{[289]} » : النور هو الظاهر الذي به كل ظهور ، أي الذي تنكشف به الأشياء وتنكشف له وتنكشف منه وهو النور الحقيقي وليس فوقه نور . وجعل اسمه تعالى النور دالاً على التنزه عن العدم وعلى إخراج الأشياء كلها عن ظلمة العدم إلى ظهور الوجود فآل إلى ما يستلزمه اسم النور من معنى الإظهار والتبيين في الخلق والإرشاد والتشريع وتبعه ابن برَّجان الإشبيلي{[290]} في « شرح الأسماء الحسنى » فقال : إن اسمه النور آل إلى صفات الأفعال اه .
أما وصف النور هنا فيتعين أن يكون ملائماً لما قبل الآية من قوله : { لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] وما بعدها من قوله : { مثل نوره كمشكاة } إلى قوله : { يهدي الله لنوره من يشاء } وقوله عقب ذلك : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] . وقد أشرنا آنفاً إلى أن للنور إطلاقات كثيرة وإضافات أخرى صالحة لأن تكون مراداً من وصفه تعالى بالنور . وقد ورد في مواضع من القرآن والحديث فيحمل الاطلاق في كل مقام على ما يليق بسياق الكلام ولا يطرد ذلك على منوال واحد حيثما وقع ، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن " فإن عطف « من فيهن » يؤذن بأن المراد ب« السماوات والأرض » ذاتهما لا الموجودات التي فيهما فيتعين أن يراد بالنور هنالك إفاضة الوجود المعبر عنه بالفتق في قوله تعالى : { كانتا رتقاً ففتقناهما } [ الأنبياء : 30 ] . والمعنى : أنه بقدرته تعالى استقامت أمورهما .
والتزم حكماء الإشراق من المسلمين وصوفية الحكماء معاني من إطلاقات النور . وأشهرها ثلاثة : البرهان العلمي ، والكمال النفساني ، وما به مشاهدة النورانيات من العوالم . وإلى ثلاثتها أشار شهاب الدين يحيى السهروردي في أول كتابه « هياكل النور » بقوله : « يا قيوم أيِّدنا بالنور وثبتنا على النور واحشرنا إلى النور » كما بينه جلال الدين الدواني في « شرحه » .
ونلحق بهذه المعاني اطلاق النور على الإرشاد إلى الأعمال الصالحة وهو الهدي .
وقد ورد في آيات من القرآن إطلاق النور على ما هو أعم من الهدي كما في قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هُدًى ونور } [ المائدة : 44 ] وقوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } [ الأنعام : 91 ] فعطف أحد اللفظين على الآخر مشعر بالمغايرة بينهما . وليس شيء من معاني لفظ النور الوارد في هذه الآيات بصالح لأن يكون هو الذي جعل وصفاً لله تعالى لا حقيقة ولا مجازاً فتعين أن لفظ ( نور ) في قوله : { مثل نوره كمشكاة } غير المراد بلفظ نور في قوله : { الله نور السماوات والأرض } فالنور لفظ مشترك استعمل في معنى وتارة أخرى في معنى آخر .
فأحسن ما يفسر به قوله تعالى : { الله نور السماوات والأرض } أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور وخاصة أسباب المعرفة الحق والحجة القائمة والمرشد إلى الأعمال الصالحة التي بها حسن العاقبة في العالَمَيْن العلوي والسفلي ، وهو من استعمال المشترك في معانيه .
ويجوز أن يراد بالسماوات والأرض من فيهما من باب : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وهو أبلغ من ذكر المضاف المحذوف لأن في هذا الحذف إيهام أن السماوات والأرض قابلة لهذا النور كما أن القرية نفسها تشهد بما يسأل منها ، وذلك أبلغ في الدلالة على الإحاطة بالمقصود وألطف دلالة .
فيشمل تلقين العقيدة الحق والهداية إلى الصلاح ؛ فأما هداية البشر إلى الخير والصلاح فظاهرة ، وأما هداية الملائكة إلى ذلك فبأن خلقهم الله على فطرة الصلاح والخير . وبأن أمرهم بتسخير القوى للخير ، وبأن أمر بعضهم بإبلاغ الهدى بتبليغ الشرائع وإلهام القلوب الصالحة إلى الصلاح وكانت تلك مظاهر هدى لهم وبهم .
{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِى زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ } .
يظهر أن هذه الجملة بيان لجملة : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] إذ كان ينطوي في معنى { آيات } ووصفها ب { مبينات } ما يستشرف إليه السامع من بيان لما هي الآيات وما هو تبيينها ، فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً . ووقعت جملة : { الله نور السماوات والأرض } معترضة بين هذه الجملة والتي قبلها تمهيداً لعظمة هذا النور الممثل بالمشكاة .
وجرى كلام كثير من المفسرين على ما يقتضي أنها بيان لجملة : { الله نور السماوات والأرض } فيكون موقعها موقع عطف البيان فلذلك فُصلت فلم تعطف .
والضمير في قوله : { نوره } عائد إلى اسم الجلالة ، أي مثل نور الله . والمراد ب { نوره } كتابه أو الدين الذي اختاره ، أي مثله في إنارة عقول المهتدين .
فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفّت به وسائل قوة الإشراق فهو نور الله لا محالة . وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من الصفات دون أن يشبه نوره بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها . ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق لقصد إكمال المشابهة لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف . وبعد هذا فلأن المقصود ذكر ما حف بالمصباح من الأدوات ليتسنى كمال التمثيل بقبوله تفريق التشبيهات كما سيأتي وذلك لا يتأتى في القمر .
والمَثَل : تشبيه حال بحال ، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة . فمعنى { مثل نوره } : شَبيهُ هدِيه حالُ مشكاة . . إلى آخره ، فلا حاجة إلى تقدير : كنور مشكاة ، لأن المشبه به هو المشكاة وما يتبعها .
وقوله : { كمشكاة فيها مصباح } المقصود كمصباح في مشكاة . وإنما قُدم { المشكاة } في الذكر لأن المشبه به هو مجموع الهيئة ، فاللفظ الدال على المشبه به هو مجموع المركب المبتدىء بقوله : { كمشكاة } والمنتهي بقوله : { ولو لم تمسسه نار } فلذلك كان دخول كاف الشبه على كلمة { مشكاة } دون لفظ { مصباح } لا يقتضي أصالة لفظ مشكاة في الهيئة المشبه بها دون لفظ { مصباح } بل موجب هذا الترتيب مراعاة الترتيب الذهني في تصور هذه الهيئة المتخيلة حين يلمح الناظر إلى انبثاق النور ثم ينظر إلى مصدره فيرى مشكاةً ثم يبدو له مصباح في زجاجة .
والمشكاة المعروف من كلام أهل اللغة أنها فرجة في الجدار مثل الكوة لكنها غير نافذة فإن كانت نافذة فهي الكوة . ولا يوجد في كلام الموثوق عنهم من أهل العربية غير هذا المعنى ، واقتصر عليه الراغب وصاحب « القاموس » و« الكشاف » واتفقوا على أنها كلمة حبشية أدخلها العرب في كلامهم فعدت في الألفاظ الواقعة في القرآن بغير لغة العرب . ووقع ذلك في « صحيح البخاري » فيما فسره من مفردات سورة النور .
ووقع في « تفسير الطبري » وابن عطية عن مجاهد : أن المشكاة العمود الذي فيه القنديل يكون على رأسه ، وفي « الطبري » عن مجاهد أيضاً : المشكاة الصُفر ( أي النحاس أي قطعة منه شبيه القصيبة ) الذي في جوف القنديل . وفي معناه ما رواه هو عن ابن عباس : المشكاة موقع الفتيلة ، وفي معناه أيضاً ما قاله ابن عطية عن أبي موسى الأشعري : المشكاة الحديدة والرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة . وقول الأزهري : أراد قصبة الزجاجة التي يستصبح فيها وهي موضع الفتيلة .
وقد تأوله الأزهري بأن قصبة الزجاجة شبهت بالمشكاة وهي الكوة فأطلق عليها مشكاة .
والمصباح : اسم للإناء الذي يوقد فيه بالزيت للإنارة ، وهو من صيغ أسماء الآلات مثل المفتاح ، وهو مشتق من اسم الصبح ، أي ابتداء ضوء النهار ، فالمصباح آلة الإصباح أي الإضاءة . وإذا كان المشكاة اسماً للقصيبة التي توضع في جوف القنديل كان المصباح مراداً به الفتيلة التي توضع في تلك القُصيبة .
وإعادة لفظ { المصباح } دون أن يقال : فيها مصباح في زجاجة ، كما قال : { كمشكاة فيها مصباح } إظهار في مقام الإضمار للتنويه بذكر المصباح لأنه أعظم أركان هذا التمثيل ، وكذلك إعادة لفظ { الزجاجة } في قوله : { الزجاجة كأنها كوكب دري } لأنه من أعظم أركان التمثيل . ويسمى مثل هذه الإعادة تشابه الأطراف في فن البديع ، وأنشدوا فيه قول ليلى الأخيلية في مدح الحجاج بن يوسف :
إذا أُنزل الحجاج أرضاً مريضةً *** تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فروّاها بشرب سجاله *** دماءَ رجال يحلبون صراها
ومما فاقت به الآية عدم تكرار ذلك أكثر من مرتين .
والزجاجة : اسم إناء يصنع من الزجاج ، سميت زجاجة لأنها قطعة مصنوعة من الزجاج بضم الزاي وتخفيف الجيمين ملحقة بآخر الكلمة هاء هي علامة الواحد من اسم الجمع كأنهم عاملوا الزجاج معاملة أسماء الجموع مثل تَمر ، ونَمل ، ونَخْل ، كانوا يتخذون من الزجاج آنية للخمر وقناديل للإسراج بمصابيح الزيت لأن الزجاج شفاف لا يحجب نور السراج ولا يحجب لون الخمر وصفاءها ليعلمه الشارب .
والزجاج : صنف من الطين المطيّن من عجين رمللٍ مخصوص يوجد في طبقة الأرض وليس هو رمل الشطوط .
وهذا العجين اسمه في اصطلاح الكيمياء ( سليكَا ) يخلط بأجزاء من رماد نبت يسمى في الكيمياء ( صُودا ) ويسمى عند العرب الغاسول وهو الذي يتخذون منه الصابون . ويضاف إليهما جزء من الكلس ( الجير ) ومن ( البوتاس ) أو من ( أُكسيد الرصاص ) فيصير ذلك الطين رقيقاً ويدخل للنار فيصهر في أتون خاص به شديد الحرارة حتى يتميّع وتختلط أجزاؤه ثم يخرج من الأتون قطعاً بقدر ما يريد الصانع أن يصنع منه ، وهو حينئذٍ رخو يشبه الحلواء فيكون حينئذٍ قابلاً للامتداد وللانتفاخ إذا نُفخ فيه بقصبة من حديد يضعها الصانع في فمه وهي متصلة بقطعة الطين المصهورة فينفخ فيها فإذا داخلها هواء النفَس تمددت وتشكلت بشكل كما يتفق فيتصرف فيه الصانع بتشكيله بالشكل الذي يبتغيه فيجعل منه أواني مختلفة الأشكال من كؤوس وباطيات وقِنِّينات كبيرة وصغيرة وقوارير للخمر وآنية لزيت المصابيح تفضل ما عداها بأنها لا تحجب ضوء السراج وتزيده إشعاعاً .
وقد كان الزجاج معروفاً عند القدماء من الفنيقيين وعند القبط من نحو القرن الثلاثين قبل المسيح ثم عرفه العرب وهم يسمونه الزجاج والقوارير . قال بشار :
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته *** فإنه عربي من قوارير
وقد عرفه العبرانيون في عهد سليمان واتخذ منه سليمان بلاطاً في ساحة صرحه كما ورد في قوله تعالى : { قال إنه صرح ممرد من قوارير } [ النمل : 44 ] . وقد عرفه اليونان قديماً ومن أقوال الحكيم ( ديوجينوس اليوناني ) : « تيجان الملوك كالزجاج يسرع إليها العطب » . وسمى العرب الزجاج بلَّوراً بوزن سنّوْر وبوزن تنُّور . واشتهر بصناعته أهل الشام . قال الزمخشري في « الكشاف » : { في زجاجة } أراد قنديلاً من زجاج شامي أزهر اه . واشتهر بدقة صنعه في القرن الثالث المسيحي أهل البندقية ولونوه وزينوه بالذهب وما زالت البندقية إلى الآن مصدر دقائق صنع الزجاج على اختلاف أشكاله وألوانه يتنافس فيه أهل الأذواق . وكذلك بلاد ( بوهيميا ) من أرض ( المجر ) لجودة التراب الذي يصنع منه في بلادهم . ومن أصلح ما انتفع فيه الزجاج اتخاذ أطباق منه توضع على الكوى النافذة والشبابيك لتمنع الرياح وبرد الشتاء والمطر عن سكان البيوت ولا يحجب عن سكانها الضوء . وكان ابتكار استعمال هذه الأطباق في القرن الثالث من التاريخ المسيحي ولكن تأخر الانتفاع به في ذلك مع الاضطرار إليه لعسر استعماله وسرعة تصدعه في النقل ووفرة ثمنه ، ولذلك اتخذ في النوافذ أول الأمر في البلاد التي يصنع فيها فبقي زماناً طويلاً خاصاً بمنازل الملوك والأثرياء .
والكوكب : النجم ، والدرِّيّ بضم الدال وتشديد التحتية في قراءة الجمهور واحد الدراري وهي الكواكب الساطعة النور مثل الزُّهرة والمشتري منسوبة إلى الدُّر في صفاء اللون وبياضه ، والياء فيه ياء النسبة وهي نسبة المشابهة كما في قول طرفة يصف راحلته :
أي كالجمل في عظم الجثة وفي القوة .
وقولهم في المثل « بات بليلة نابغية » أي كليلة النابغة في قوله :
فبت كأني ساورتني ضئيلة *** الأبيات . . .
قال الحريري : « فبت بليلة نابغية . وأحزان يعقوبية » المقامة السابعة والعشرون .
ومنه قولهم : وردي اللون ، أي كلون الورد . والدر يضرب مثلاً للإشراق والصفاء . قال لبيد :
وتضيء في وجه الظلام منيرة *** كجمانة البحري سُلّ نظامها
وقيل : الكوكب الدري علم بالغلبة على كوكب الزهرة .
وقرأ أبو عمرو والكسائي { دِرّيء } بكسر الدال ومد الراء على وزن شريب من الدرء وهو الدفع ، لأنه يدفع الظلام بضوئه أو لأن بعض شعاعه يدفع بعضاً فيما يخاله الرائي .
وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال ومد الراء من الدرء أيضاً على أن وزنه فُعِّيل وهو وزن نادر في كلام العرب لكنه من أبنية كلامهم عند سيبويه ومنه عُلِّية وسُرِّية وذُرّية بضم الأول في ثلاثتها .
وإنما سُلك طريق التشبيه في التعبير عن شدة صفاء الزجاجة لأنه أوجز لفظاً وأبين وصفاً . وهذا تشبيه مفرد في أثناء التمثيل ولا حظ له في التمثيل .
وجملة : { يوقد من شجرة } الخ في موضع الصفة ل { مصباح } .
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم { يوقد } بتحتية في أوله مضمومة بعدها واو ساكنة وبفتح القاف مبنياً للنائب ، أي يوقده الموقد . فالجملة حال من { مصباح } .
وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف { تَوَقَّد } بفوقية مفتوحة في أوله وبفتح الواو وتشديد القاف مفتوحة ورفع الدال على أنه مضارع توقّد حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتوقد على أنه صفة أو حال من { مشكاة } أو من { زجاجة } أو من المذكورات وهي مشكاة ومصباح وزجاجة ، أي تنير . وإسناد التوقد إليها مجاز عقلي .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر مثل قراءة حمزة ومن معه لكن بفتح الدال على أنه فعل مضي حال أو صفة لمصباح .
والإيقاد : وضع الوقود وهو ما يزاد في النار المشتعلة ليقوى لهبها ، وأريد به هنا ما يُمَد به المصباح من الزيت .
وفي صيغة المضارع على قراءة الأكثرين إفادة تجدد إيقاده ، أي لا يذوى ولا يطفأ . وعلى قراءة ابن كثير ومن معه بصيغة المضي إفادة أن وقوده ثبت وتحقق .
وذكرت الشجرة باسم جنسها ثم أبدل منه { زيتونة } وهو اسم نوعها للإبهام الذي يعقبه التفصيل اهتماماً بتقرر ذلك في الذهن . ووصف الزيتونة بالمباركة لما فيها من كثرة النفع فإنها ينتفع بحبها أكلاً وبزيتها كذلك ويستنار بزيتها ويدخل في أدوية وإصلاح أمور كثيرة . وينتفع بحطبها وهو أحسن حطب لأن فيه المادة الدهنية قال تعالى : { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] ، وينتفع بجودة هواء غاباتها .
وقد قيل إن بركتها لأنها من شجر بلاد الشام والشام بلد مبارك من عهد إبراهيم عليه السلام قال تعالى : { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } [ الأنبياء : 71 ] يريد أرض الشام .
ووصف الزيتونة ب { مباركة } على هذا وصف كاشف ، ويجوز أن يكون وصفاً مخصصاً ل { زيتونة } أي شجرة ذات بركة ، أي نماء ووفرة ثمر من بين شجر الزيتون فيكون ذكر هذا الوصف لتحسين المشبه به لينجر منه تحسين للمشبه كما في قول كعب بن زهير :
شجت بذي شبم من ماء مَحْنية *** صافٍ بأبطح أصْحى وهو مَشْمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل
فإن قوله ، وأفرطه الخ لا يزيد الماء صفاءً ولكنه حالة تحسنه عند السامع .
وقوله : { لا شرقية ولا غربية } وصف ل { زيتونة } . دخل حرف ( لا ) النافية في كلا الوصفين فصار بمنزلة حرف هجاء من الكلمة بعده ولذلك لم يكن في موضع إعراب نظير ( ال ) المعرفة التي ألغز فيها الدماميني بقوله :
حاجيتكم لتخبروا ما اسمان *** وأول إعرابه في الثاني
وهو مبني بكل حــــال *** ها هو للناظر كالعيان
لإفادة الاتصاف بنفي كل وصف وعطف على كل وصف ضده لإرادة الاتصاف بوصف وسط بين الوصفين المنفيين لأن الوصفين ضدان على طريقة قولهم : « الرمان حلو حامض » . والعطف هنا من عطف الصفات كقوله تعالى : { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } [ النساء : 143 ] وقول المرأة الرابعة من حديث أم زرع : « زوجي كليل تهامة لا حَرٌّ ولا قُرُّ »{[291]} أي وسطاً بين الحر والقُر وقول العجاج يصف حمار وحشٍ :
حشرج في الجَوف قليلاً وشهق *** حتى يقال ناهقٌ وما نهَق
والمعنى : أنها زيتونة جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب ، فُنفِيَ عنها أن تكون شرقية وأن تكون غربية ، وهذا الاستعمال من قبيل الكناية لأن المقصود لازم المعنى لا صريحه . وأما إذا لم يكن الأمران المنفيان متضادين فإن نفيهما لا يقتضي أكثر من نفي وقوعهما كقوله تعالى : { وظل من يحموم لا بارد ولا كريم } [ الواقعة : 43 ، 44 ] وقول المرأة الأولى من نساء حديث أم زرع : « زوجي لحم جَمَل على رأس جبَل ، لا سَهْلٌ فيرتقى ولا سمين فينتقل » .
واعلم أن هذا الاستعمال إنما يكون في عطف نفي الأسماء وأما عطف الأفعال المنفية فهو من عطف الجمل نحو : { فلا صدَّق ولا صلىَّ } [ القيامة : 31 ] وقوله صلى الله عليه وسلم " لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض " .
واعلم أيضاً أن هذا لم يرد إلا في النفي بلا النافية ولذلك استقام للحريري أن يلقب شجرة الزيتون بلقب « لا و لا » بقوله في المقامة السادسة والأربعين « بورك فيك من طلا . كما بورك في لا و لا » أي في الشجرة التي قال الله في شأنها : { لا شرقية ولا غربية } .
ثم يحتمل أن يكون معنى : { لا شرقية ولا غربية } أنها نابتة في موضع بين شرق بلاد العرب وغربها وذلك هو البلاد الشامية . وقد قيل إن أصل منبت شجرة الزيتون بلاد الشام . ويحتمل أن يكون المعنى أن جهة تلك الشجرة من بين ما يحف بها من شجر الزيتون موقع غير شرق الشمس وغربها وهو أن تكون متجهة إلى الجنوب ، أي لا يحجبها عن جهة الجنوب حاجب وذلك أنفع لحياة الشجرة وطيب ثمرتها ، فبذلك يكون زيتها أجود زيت وإذا كان أجود كان أشد وقوداً ولذلك أتبع بجملة : { يكاد زيتها يضيء } وهي في موضع الحال .
وجملة : { ولو لم تمسسه نار } في موضع الحال من { زيتها } .
والزيت : عصارة حب الزيتون وما يشبهه من كل عصارة دهنية ، مثل زيت السمسم والجلجلان . وهو غذاء . ولذلك تجب الزكاة في زيت الزيتون إذا كان حبه نصاباً خمسة أوسق وكذلك زكاة زيت الجلجلان والسمسم .
و { لو } وصلية . والتقدير : يكاد يضيء في كل حال حتى في حالة لم تمسسه فيها نار .
وهذا تشبيه بالغ كمال الإفصاح بحيث هو مع أنه تشبيه هيئة بهيئة هو أيضاً مفرَّق التشبيهات لأجزاء المركب المشبه مع أجزاء المركب المشبه به وذلك أقصى كمال التشبيه التمثيلي في صناعة البلاغة .
ولما كان المقصود تشبيه الهيئة بالهيئة والمركب بالمركب حسن دخول حرف التشبيه على بعض ما يدل على بعض المركب ليكون قرينة على أن المراد التشبيه المركب ولو كان المراد تشبيه الهدى فقط لقال : نوره كمصباح في مشكاة . . إلى آخره .
فالنور هو معرفة الحق على ما هو عليه المكتسبة من وحي الله وهو القرآن . شبه بالمصباح المحفوف بكل ما يزيد نوره انتشاراً وإشراقاً .
وجملة : { نور على نور } مستأنفة إشارة إلى أن المقصود من مجموع أجزاء المركب التمثيلي هنا هو البلوغ إلى إيضاح أن الهيئة المشبه بها قد بلغت حد المضاعفة لوسائل الإنارة إذ تظاهرت فيها المشكاة والمصباح والزجاج الخالص والزيت الصافي ، فالمصباح إذا كان في مشكاة كان شعاعه منحصراً فيها غير منتشر فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت ، وإذا كان موضوعاً في زجاجة صافية تضاعف نوره ، وإذا كان زيته نقياً صافياً كان أشد إسراجاً ، فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به .
فقوله : { نور } خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله : { مثل نوره كمشكاة } إلى آخره ، أي هذا المذكور الذي مثل به الحق هو نور على نور .
و { على } للاستعلاء المجازي وهو التظاهر والتعاون . والمعنى : أنه نور مكرر مضاعف . وقد أشرت آنفاً إلى أن هذا التمثيل قابل لتفريق التشبيه في جميع أجزاء ركني التمثيل بأن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابهاً لجزء من الهيئة المشبه بها وذلك أعلى التمثيل .
فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من انضباط اليقين وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا انثلام . وحفظ المصباح من الانطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] .
ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح ، وتبيينُ الحقائق من ذلك الإرشاد .
وسلامته من أن يطرقه الشك واللبس يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] .
والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد .
وسماحة الإسلام وانتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرِّط .
ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد .
وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ببيان القرآن وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة وهو مع ذلك بيّن قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم .
وانتصاب النبي عليه الصلاة والسلام للتعليم يشبه مس النار للسراج وهذا يومىء إلى استمرار هذا الإرشاد .
كما أن قوله : { من شجرة } يوميء إلى الحاجة إلى اجتهاد علماء الدين في استخراج إرشاده على مرور الأزمنة لأن استخراج الزيت من ثمر الشجرة يتوقف على اعتصار الثمرة وهو الاستنباط .
{ يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلَيِمٌ } .
هذه الجمل الثلاث معترضة أو تذييل للتمثيل . والمعنى : دفع التعجب من عدم اهتداء كثير من الناس بالنور الذي أنزله الله وهو القرآن والإسلام فإن الله إذا لم يشأ هَدْيَ أحد خلقه وجبله على العناد والكفر .
وأن الله يضرب الأمثال للناس مرجوّا منهم التذكرُ بها : فمنهم من يعتبر بها فيهتدي ، ومنهم من يعرض فيستمر على ضلاله ولكن شأن تلك الأمثال أن يهتدي بها غير من طُبع على قلبه .
وجملة : { والله بكل شيء عليم } تذييل لمضمون الجملتين قبلها ، أي لا يعزب عن علمه شيء . ومن ذلك علم من هو قابل للهدى ومن هو مصرّ على غيّه . وهذا تعريض بالوعد للأولين والوعيد للآخرين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ": هادي من في السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحقّ يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الله مدبّر السموات والأرض...
وقال آخرون: بل عنى بذلك النور: الضياء. وقالوا: معنى ذلك: ضياء السموات والأرض...
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك لأنه عَقِيب قوله: "وَلَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيّناتٍ، وَمَثَلاً مِنَ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ "فكان ذلك بأن يكون خبرا عن موقع يقع تنزيله من خلقه ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه، أولى وأشبه، ما لم يأت ما يدلّ على انقضاء الخبر عنه من غيره. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أَيّها الناس آيات مبينات الحق من الباطل "وَمَثَلاً مِنَ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ "فهديناكم بها، وبيّنا لكم معالم دينكم بها، لأني هادي أهل السموات وأهل الأرض، وترك وصل الكلام باللام، وابتدأ الخبر عن هداية خلقه ابتداء، وفيه المعنى الذي ذكَرْتُ، استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره. ثم ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالآيات المبينات التي أنزلها إليهم، فقال: "مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ" يقول: مثل ما أنار من الحقّ بهذا التنزيل في بيانه كمشكاة.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالهاء في قوله: "مَثَلُ نُورِهِ" علام هي عائدة؟ ومن ذكر ما هي؟
فقال بعضهم: هي من ذكر المؤمن. وقالوا: معنى الكلام: مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن مثل مشكاة...
وقال آخرون: بل عُنِي بالنور: محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الهاء التي قوله: "مَثَلَ نُورِهِ" عائدة على اسم الله...
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: هَدْي اللّهِ وبيانه، وهو القرآن. قالوا: والهاء من ذكر الله، قالوا: ومعنى الكلام: الله هادي أهل السموات والأرض بآياته المبينات، وهي النور الذي استنار به السموات والأرض، مَثَلُ هداه وآياته التي هَدَى بها خلقه ووعظهم بها في قلوب المؤمنين كمِشكاة...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مثل نور الله. وقالوا: يعني بالنور: الطاعة. عن ابن عباس، قوله: "اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مصْباحٌ"... هو مثل ضربه الله لطاعته، فسمّى طاعته نورا، ثم سماها أنوارا شَتّى.
وقوله: "كمِشْكاةٍ" اختلف أهل التأويل في معنى المِشكاة والمصباح وما المراد بذلك، وبالزجاجة؛
فقال بعضهم: المِشكاة كل كوّة لا منفذَ لها، وقالوا: هذا مثل ضربه الله لقلب محمد صلى الله عليه وسلم... جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار، فقال له: حدثني عن قول الله: "مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ" قال: المشكاة وهي الكَوّة، ضربها الله مثلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، المِشكاة فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ قلبه فِي زُجاجَةٍ الزّجاجَةُ صدره الزجاجة كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ شبه صدر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدريّ، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال: "تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ" لم تمسّها شمس المشرق ولا شمس المغرب، "يَكادُ زَيْتُها يُضِيئ" يكاد محمد يبين للناس وإن لم يتكلم أنه نبيّ، كما يكاد ذلك الزيت يضيء "وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ"...
عن ابن عباس، قوله: "كمِشْكاةٍ" يقول: موضع الفتيلة...
وقال آخرون: عنى بالمشكاة: صدر المؤمن، وبالمصباح: القرآن والإيمان، وبالزجاجة: قلبه... عن أُبيّ بن كعب: "مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ" قال: مَثَل المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة، قال: المشكاة: صدره. فِيها مِصْباحٌ قال: والمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره. "المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ" قال: والزجاجة: قلبه. "الزّجاجَةُ كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ توقَدُ"، قال: فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب درّيّ، يقول: مُضِيء. "تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ" والشجرة المباركة، أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته، لا شريك له. "لا شَرْقَيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ" قال: فمثله مَثَل شجرة التفّ بها الشجر، فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غَربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الغيرِ وقد ابتُلِي بها فثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال: إن أُعطِى شكر، وإن ابتُلِي صبر، وإن حَكَم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي في قبور الأموات. قال: "نُورٌ عَلى نُورٍ" فهو يتقلّب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومَدْخله نور، ومَخْرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة...
عن ابن عباس: "مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ" قال: مثل هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور...
قوله: "تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتَونَةٍ لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ" قال: هي شجرة لا يفيء عليها ظلّ شرق ولا ظلّ غرب، ضاحية، ذلك أصفى للزيت.
"يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ". قال معمر، وقال الحسن: ليست من شجر الدنيا، ليست شرقية ولا غربية.
وقال آخرون: هو مثل للمؤمن غير أن المصباح وما فيه مثل لفؤاده، والمشكاة مثل لجوفه...
وقال ابن عباس: قوله: "نُورٌ عَلى نُورٍ" يعني: إيمان المؤمن وعمله.
وقال آخرون: بل ذلك مثل للقرآن في قلب المؤمن...
وقال آخرون: المِشكاة القنديل...
وقال آخرون: المشكاة: الحديد الذي يعلق به القنديل...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال: مَثَلُ نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد، الذي أنزله إليهم فآمنوا به وصدّقوا بما فيه، في قلوب المؤمنين، مثل مِشكاة، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وذلك هو نظير الكَوّة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها. وإنما جعل ذلك العمود مِشكاة، لأنه غير نافذ، وهو أجوف مفتوح الأعلى، فهو كالكَوّة التي في الحائط التي لا تنفذ. ثم قال: "فِيها مِصْباحٌ" وهو السراج، وجعل السراج وهو المصباح مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات. ثم قال: "المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ" يعني أن السراج الذي في المِشكاة في القنديل، وهو الزجاجة، وذلك مثل للقرآن، يقول: القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره. ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشكّ فيه واستنارته بنور القرآن واستضاءته بآيات ربه المبينات ومواعظه فيها، بالكوكب الدرّيّ، فقال: "الزّجَاجَةُ" وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه كأنّها "كَوْكَبٌ دُرّيّ".
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: دُرّيّ فقرأته عامة قرّاء الحجاز: دُرّيّ بضم الدال، وترك الهمز. وقرأ بعض قراء البصرة والكوفة: «دِرّيءٌ» بكسر الدال وهمزة. وقرأ بعض قرّاء الكوفة: «دُرّيء» بضم الدال وهمزة. وكأن الذين ضموا داله وتركوا الهمزة، وجهوا معناه إلى ما قاله أهل التفسير الذي ذكرنا عنهم، من أن الزجاجة في صفائها وحسنها كالدرّ، وأنها منسوبة إليه لذلك من نعتها وصفتها. ووجه الذين قرأوا ذلك بكسر داله وهمزه، إلى أنه فِعّيل من دُرّئ الكوكبُ: أي دُفِع ورجم به الشيطان، من قوله: "وَيَدْرأُ عَنْها العَذابَ": أي يدفع، والعرب تسمى الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها الدراريّ بغير همز... والذي هو أولى القراءات عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ: دُرّي بضمّ داله وترك همزه، على النسبة إلى الدرّ، لأن أهل التأويل بتأويل ذلك جاءوا. وقد ذكرنا أقوالهم في ذلك قبل، ففي ذلك مُكْتفًى عن الاستشهاد على صحتها بغيره. فتأويل الكلام: الزجاجة: وهي صدر المؤمن، كأنها: يعني كأن الزجاجة، وذلك مثل لصدر المؤمن، كَوْكَب: يقول: في صفائها وضيائها وحسنها. وإنما يصف صدره بالنقاء من كلّ ريب وشكّ في أسباب الإيمان بالله وبعده من دنس المعاصي، كالكوكب الذي يُشبه الدرّ في الصفاء والضياء والحسن...
فمعنى الكلام إذن: كمشكاة فيها مصباح، المصباح من دهن شجرة مباركة، زيتونة، لا شرقية ولا غربية.
وقد ذكرنا بعض ما رُوي عن بعضهم من الاختلاف في ذلك فيما قد مضى، ونذكر باقي ما حضرنا مما لم نذكره قبل. فقال بعضهم: إنما قيل لهذه الشجرة لا شرقية ولا غربية: أي ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، وإنما لها نصيبها من الشمس بالغداة ما دامت بالجانب الذي يلي الشرق، ثم لا يكون لها نصيب منها إذا مالت إلى جانب الغرب. ولا هي غربية وحدها، فتصيبها الشمس بالعشيّ إذا مالت إلى جانب الغرب، ولا تصيبها بالغدَاة ولكنها شرقية غربية، تطلع عليها الشمس بالغداة وتغرب عليها، فيصيبها حرّ الشمس بالغداة والعشيّ. قالوا: وإذا كانت كذلك، كان أجود لزيتها...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليست شرقية ولا غربية...
وقال آخرون: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا...
وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك قول من قال: إنها شرقية غربية وقال: ومعنى الكلام: ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشيّ دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقية غربية.
وإنما قلنا ذلك أولى بمعنى الكلام، لأن الله إنما وصف الزيت الذي يُوقَد على هذا المصباح بالصفاء والجودة، فإذا كان شجره شرقيّا غربيّا كان زيته لا شكّ أجود وأصفى وأضوأ.
وقوله: "يَكادُ زيْتُها يُضِيءُ" يقول تعالى ذكره: يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه، "وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نار" يقول: فكيف إذا مسته النار.
وإنما أُريد بقوله: "تُوقَدُ مِنْ شَجَرَة مُبارَكَةٍ" أن هذا القرآن من عند الله وأنه كلامه، فجعل مَثَله ومَثَل كونه من عنده مثلَ المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة التي وصفها جلّ ثناؤه في هذه الآية، وعُنِي بقوله: "يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ": أن حُجَج الله تعالى ذكره على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر أو أعرض عنها وَلَها، "وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ" يقول: ولو لم يَزِدها الله بيانا ووضوحا بإنزاله هذا القرآن إليهم، منبها لهم على توحيده، فكيف إذا نبههم به وذكّرهم بآياته فزادهم به حجة إلى حُجَجه عليهم قبل ذلك؟ فذلك بيان من الله ونور على البيان، والنور الذي كان قد وضعه لهم ونصبه قبل نزوله.
وقوله: "نُورٌ عَلى نُورٍ" يعني النار على هذا الزيت الذي كاد يضيء ولو لم تمسسه النار...
وهو عندي كما ذكرت مَثَلُ القرآن. ويعني بقوله: "نُورٌ عَلى نُورٍ" هذا القرآن نور من عند الله، أنزله إلى خلقه يستضيئون به، "على نور" على الحُجج والبيان الذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن إنزاله إياه، مما يدلّ على حقيقة وحدانيته. فذلك بيان من الله، ونور على البيان، والنور الذي كان وضعه لهم ونصبه قبل نزوله... وقوله: "يَهْدِى اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ": يقول تعالى ذكره: يُوَفّق الله لاتباع نوره، وهو هذا القرآن، من يشاء من عباده.
وقوله: "وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثالَ للنّاسِ" يقول: ويُمثّل الله الأمثال والأشباه للناس كما مثّل لهم مثل هذا القرآن في قلب المؤمن بالمصباح في المشكاة وسائر ما في هذه الآية من الأمثال.
"وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" يقول: والله بضرب الأمثال وغيرها من الأشياء كلها ذو علم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
و (يحتمل) أن يكون قوله:] الله نور السموات والأرض [أي به تنجلي الظلمات، وتنكشف الحجب والسواتر؛ إذ النور إنما سمي نورا لما به تنجلي المظالم، وتنكشف السواتر والحجب، لا لأنه نور. ألا ترى أنه سمى القرآن نورا، والرسول نورا، لما بهما تنجلي الشبهات والظلمات، وبهما ترتفع السواتر والحجب، وإن كانا في نفسيهما ليسا بنور سماهما نورا لما ذكرنا من [انجلاء الشبهات] بهما وارتفاع السواتر...
لا شرقية ولا غربية [قال بعضهم: هي شجرة مصحرة؛ تطلع عليها الشمس إذا طلعت، وتغرب عنها إذا غربت، وزيتها أجود الزيت...
فإنما ذكر الزيت لصفائه وخلوصه، فيجب أن يسأل أهله، فيقال: أي الزيت أجود وأصفى؟ الذي تصيبه الشمس، أم الذي لا تصيبه، أم الذي تصيبه في وقت، ولا تصيبه في وقت...
وقال بعضهم:] الله نور السموات والأرض [هو الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض (يضيء هداه قلب) المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار (فإذا مسته النار) ازداد ضوءا على ضوء. كذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم (فإذا جاءه العلم) ازداد هدى على هدى ونورا على نور...
ثم قوله:] يهدي الله لنوره من يشاء [الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو النور، وهو القرآن (يهدي به) من يشاء ممن سبق له في علمه السعادة، ويضل عنه] من يشاء [ممن سبق له في علمه الشقاء...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}: أنه مثل ضربه الله للمؤمن في وضوح الحق له. أنها مثل ضربه الله لطاعته فسمى الطاعة نوراً لتجاوزها عن محلهما. ما حكاه ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد كيف يخلص نور الله من دون السماء فضرب الله ذلك مثلاً لنوره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ...} أراد بهذا قلب المؤمن وهو معرفته، فشبَّهَ صدرَه بالمشكاة، وشبَّه قلبه في صدره بالقنديل في المشكاة، وشبَّه القنديل -الذي هو قلبه- بالكوكب الدريِّ، وشبه إمداده بالمعرفة بالزيت الصافي الذي يمدُّ السراج في الاشتعال. ثم وصفَ الزيتَ بأَنَّه على كمال إدراك زيتونه من غير نقصان أصابه، أو خلَلٍ مسَّه، ثم وصف ذلك الزيت- في صفوته -بأنه بحيث يكاد يضيء من غير أن تمسَّه نار...
{نُّورٌ عَلَى نُورِ}: نور اكتسبوه بجهدهم بنظرهم واستدلالهم، ونور وجدوه بفضل الله فهو بيان أضافه إلى برهانهم، أو عيان أضافه إلى بيانهم، فهو نور على نور.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وأضاف النور إلى السموات والأرض لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض. وإما أن يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به.
{مَثَلُ نُورِهِ} أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة {كَمِشْكَاةٍ} كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراج ضخم ثاقب {فِى زُجَاجَةٍ} أراد قنديلاً من زجاج شامي أزهر... {يُوقُدُ} هذا المصباح {مِن شَجَرَةٍ}...يعني: زويت ذبالته بزيتها {مباركة} كثيرة المنافع...
" {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي منبتها الشام. وأجود الزيتون: زيتون الشام...
ثم وصف الزيت بالصفاء والوبيص وأنه لتلألئه {يَكَادُ} يضيء من غير نار {نُّورٌ على نُورٍ} أي هذا الذي شبهت به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقاً ويمدّه بإضاءة: بقية، وذلك أن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإنّ الضوء ينبث فيه، وينتشر، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفاؤه {يَهْدِى الله} لهذا النور الثاقب {مَن يَشَآء} من عباده، أي: يوفق لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله والإنصاف من نفسه، ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً. ومن لم يتدبر فهو كالأعمى الذي سواء عليه جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«النور» في كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر ويستعمل فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه كلام له نور ومنه الكتاب المنير...والله تعالى ليس كمثله شيء فبين أنه ليس كالأضواء المدركة ولم يبق للآية معنى إلا أنه أراد {الله} ذو {نور السماوات والأرض} أي بقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها وقامت مصنوعاتها، فالكلام على التقريب للذهن، كما تقول:الملك نور الأمة أي به قوام أمورها وصلاح جملتها...
وروي أن اليهود لما نزلت هذه الآية جسموا في تأوليها واعترضوا محمداً عليه السلام بأن قالوا كيف هو نور الأرض والسماء بيننا وبينه، فنزلت حينئذ {مثل نوره كمشكاة} الآية أي ليس الأمر كما ظننتم وإنما هو نور بأنه قوام كل شيء وخالقه وموجده.
أحدهما: في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور.
الثاني: في بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء.
أما المثل الأول فهو قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره...
{يهدي الله لنوره من يشاء} يدل على أن المراد بالنور الهداية إلى العلم والعمل...
معنى كونه سبحانه نورا أنه خالق للعالم وأنه خالق للقوى الدراكة، وهو المعنى من قولنا معنى كونه نور السماوات والأرض أنه هادي أهل السماوات والأرض...
{نور على نور} المراد ترادف هذه الأنوار واجتماعها...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلب المسلم. وهذا هو النور الذي أودعه الله في قلب عبده من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره. وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به، وجعلهم يمشون به بين الناس. وأصله في قلوبهم، ثم تقوى مادته فتتزايد حتى تظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل ثيابهم ودورهم، يبصره من هو من جنسهم، وإن كان سائر الخلق له منكر. فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بأيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا. منهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم، وآخر كالسراج، وآخر يعطي نورا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا، فأعطى على الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا، بل كان نوره ظاهرا لا باطنا أعطى نورا ظاهرا آماله إلى الظلمة والذهاب.
وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة، وهي الكوة في الحائط فهي مثل الصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج حتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه. وهي مثل القلب وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافا هي في قلب المؤمن، وهي الصفاء والرقة والصلابة فيرى الحق والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق، ويصلب فيه بصلابته، ولا تبطل صفة منه صفة أخرى ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها...
وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره: ما تقر به عيون أهله، وتبتهج به قلوبهم. وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان:
إحداهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به. وعلى هذا عامة أمثال القرآن. فتأمل صفة المشكاة، وهي كُوَّة تنفذ لتكون أجمع للضوء -قد وضع فيها مصباح. وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادتة من أصفى الأدهان وأتمها وقودا، من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار، بل هي في وسط القراح، محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة. والآفات إلى الأطراف دونها. فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وصفه في قلب عبده المؤمن، وخصه به.
والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصل، فقيل: المشكاة صدر المؤمن. والزجاجة: قلبه. شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها. وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم ويحسن، ويتحنن، ويشفق على الخلق برقته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه. ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ويتصلب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى. وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف «القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله أرقها وأصلبها وأصفاها» والمصباح هو نور الإيمان في قلبه، والشجرة المباركة: هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق. وهي مادة المصباح التي يتقدمنها. والنور على النور نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور. ولهذا يكاد ينطق بالحق، والحكمة قبل أن يسمع ما فيه من الأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع، والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل، بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ووجه هذا المثل الذي ضربه الله، وتطبيقه على حالة المؤمن، ونور الله في قلبه، أن فطرته التي فطر عليها، بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان، أضاء إضاءة عظيمة، لصفائه من الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية، فيجتمع له نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة، نور على نوره.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالإخبار عن الله تعالى بأنه نور إخبار بمعنى مجازي للنور لا محالة بقرينة أصل عقيدة الإسلام أن الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لا يتردد في ذلك أحد من أصحاب اللسان العربي ولا تخلو حقيقة معنى النور عن كونه جوهراً أو عرضاً. وأسعد إطلاقات النور في اللغة بهذا المقام أن يراد به جلاء الأمور التي شأنها أن تخفى عن مدارك الناس وتلتبس فيقل الاهتداء إليها، فإطلاقه على ذلك مجاز بعلامة التسبب في الحس والعقل...
فأحسن ما يفسر به قوله تعالى ويجوز أن يراد بالسماوات والأرض من فيهما من باب: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وهو أبلغ من ذكر المضاف المحذوف لأن في هذا الحذف إيهام أن السماوات والأرض قابلة لهذا النور كما أن القرية نفسها تشهد بما يسأل منها، وذلك أبلغ في الدلالة على الإحاطة بالمقصود وألطف دلالة. فيشمل تلقين العقيدة الحق والهداية إلى الصلاح؛ فأما هداية البشر إلى الخير والصلاح فظاهرة، وأما هداية الملائكة إلى ذلك فبأن خلقهم الله على فطرة الصلاح والخير. وبأن أمرهم بتسخير القوى للخير، وبأن أمر بعضهم بإبلاغ الهدى بتبليغ الشرائع وإلهام القلوب الصالحة إلى الصلاح وكانت تلك مظاهر هدى لهم وبهم...
والضمير في قوله: {نوره} عائد إلى اسم الجلالة، أي مثل نور الله. والمراد ب {نوره} كتابه أو الدين الذي اختاره، أي مثله في إنارة عقول المهتدين.فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفّت به وسائل قوة الإشراق فهو نور الله لا محالة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
النور في لغة العرب ضد الظلام وهو الذي يضيء للأبصار فترى الأشياء وتميز بينها، وقد أطلق على سبيل المجاز على ما يميز بين المعاني فيفرق بين الحق والباطل، ولذا وصف به القرآن الكريم، فقال تعالى: {... وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)} [النساء]،وقال تعالى في وصف الكتاب: {... والكتاب المنير (184)} [آل عمران]، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم نورا فقال تعالى: {... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15)} [المائدة]...
وفي كل هذه الأمثلة يكون النور معنويا فاصلا بين الحق والباطل، والسديد وغير السديد، وعلى هذا نذكر معاني قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي الله مدبر الوجود ومنشئه، خلقه ودبره في أدق نظام، وأعظم إبداع، فربط بين أجزائه برباط محكم لا تنفصل كواكبه، ولا نجومه فتتساقط كوكبا بعد كوكب، ونجما بعد نجم...فقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كلمة (نور) من قبيل الاستعارة، إذ شبه إدارة الله تعالى للسموات والأرض وتعليماته للعقلاء، وتسخيرها لغير العقلاء، بنظام رتيب محكم دقيق بالنور المميز، فصح وصف الله تعالى أو الإخبار عنه بالنور على هذا المعنى المجازي المصور لما نرى ونحس، ونور الله فوق ما نبصر وأعلى مما ندرك...
صور الله تعالى نوره المميز للأشياء والعقلاء مقربا له من مداركنا فيما نحس ونعلم ونرى، فقال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}...
وكل هذا وصف لنور الله الهادي المرشد، فإنه يغمر القلوب التي تفتح له بالهداية، وأما الذين حقت عليهم الضلالة فإنهم لا يهتدون، وسدت القلوب عن أن يصل النور إليها.
قلنا: فإن الله تعالى أعطانا النور الحسي الذي نرى به مرائي الأشياء، وجعله وسيلة للنور المعنوي، وقلنا: إن الدنيا حينما تظلم ينير كل منا لنفسه على حسب قدراته وإمكاناته في الإضاءة، فإذا ما طلعت الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل منا نوره، لأن نور الله كاف، فكما أن نور الله كاف في الحسيات فنوره أيضا كاف في المعنويات. فإذا شرع الله حكما معنويا ينظم حركة الحياة، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره، والأمر واضح في الآيات الكونية.
{الله نور السموات والأرض} كما نقول ولله المثل الأعلى: فلان نور البيت، فالآية لا تعرف الله لنا، إنما تعرفنا أثره تعالى فينا، فهو سبحانه منور السموات والأرض، وهما أوسع شيء نتصوره، بحيث يكون كل شيء فيهما واضحا غير خفي. ثم يضرب لنا ربنا- عز وجل- مثلا توضيحيا لنوره، فيقول: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} أي: مثل تنويره للسموات وللأرض {كمشكاة} وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديما في الجدار، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المسرجة، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قويا، ولا يصنع ظلا أمام مسار الضوء. والمصباح: إناء صغير يوضع فيه زيت أو جاز فيما بعد، وفي وسطه فتيل يمتص من الزيت فيظل مشتعلا، فإن ظل الفتيل في الهواء تلاعب به وبدد ضوءه وسبب دخانا، لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق، لذلك جعلوا على الفتيل حاجزا من الزجاج ليمنع عنه الهواء، فيأتي الضوء منه صافيا لا دخان فيه، وكانوا يسمونه (الهباب). وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته، ومن ذلك قوله تعالى: {المصباح في زجاجة} لكنها ليست زجاجة عادية، إنما زجاجة {كأنها كوكب دري} يعني: كوكب من الدر، والدر ينير بنفسه. كذلك زيتها ليس زيتا عاديا، إنما زيت زيتونة مباركة. يقول الحق سبحانه: {يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية} يعني: شجرة الزيتون لا شرقية ولا غربية، يعني: لا شرقية لأنها غربية، ولا غربية لأنها شرقية، فهي إذن شرقية غربية على حد سواء، لكن كيف ذلك؟. قالوا: لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلما، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلما، إذن: يطرأ عليها نور وظلمة، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء. وهذا يؤثر في زيتها، فتراه من صفائه ولمعانه {يضيء ولو لم تمسسه نار}، وتعطي الشجرة الضوء القوى الذي يناسب بنوتها للشمس، فإن كانت الشمس هي التي تنير الدنيا، فالشجرة الزيتونة هي ابنتها، ومنها تستمد نورها، بحيث لا يغيب عنها ضوء الشمس. إذن: مثل تنوير الله للسماوات وللأرض مثل هذه السورة مكتملة كما وصفنا، وانظر إلى مشكاة فيها مصباح بهذه المواصفات، أيكون بها موضع مظلم؟ فالسماوات والأرض على سعتهما كمثل هذه المشكاة، والمثل هنا ليس لنور الله، إنما لتنويره للسماوات وللأرض، أما نوره تعالى فشيء آخر فوق أن يوصف. وما المثل هنا إلا لتقريب المسألة إلى الأذهان...
ثم يقول سبحانه: {نور على نور} فلم يتركنا الحق- سبحانه وتعالى – في النور الحسي فقط، إنما أرسل إلينا نورا آخر على يد الرسل هو نور المنهج الذي ينظم لنا حركة الحياة، كأنه تعالى يقول لنا: بعثت إليك نورا على نور، نور حسي، ونور قيمي معنوي، وإذا شهدتم أنتم بأن نورى الحسى ينير لكم السموات والأرض، وإذا ظهر تلاشت أمامه كل أنوراكم، فاعلموا أن نور منهجي كذلك يطغي على كل مناهجكم، وليس لكم أن تأخذوا بمناهج البشر في وجود منهج الله. وقوله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} أي: لنوره المعنوي نور المنهج ونور التكاليف، والكفار لم يهتدوا إلى هذا النور، وإن اهتدوا إلى النور الحسي في الشمس والقمر وانتفعوا به، وأطفأوا له مصابيحهم، لكن لم يكن لهم حظ في النور المعنوي، حيث أغلقوا دونه عيونهم وقلبوهم وأسماعهم فلم ينتفعوا به. وكان عليهم أن يفهموا أن نور الله المعنوي مثل نوره الحسي لا يمكن الاستغناء عنه...