{ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة ، { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي : فلذلك يشرع ما أراد ، ويحكم بما يريد{[1410]} .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى . إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } .
والنسيان : زوال ما كان موجودا فى حافظة الإِنسان . والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل . ومفعول المشيئة محذوف . جريا على غالب استعماله فى كلام العرب
أى : سنقرئك - أيها الرسول الكريم - القرآن على لسان أمين وحينا جبريل - عليه السلام - وسنجعلك حافظا وواعيا لما سيقرؤه جبريل عليك ، بحيث لا تنساه فى وقت من الأوقات ، أو فى حال من الأحوال ، إلا فى الوقت أو فى الحال الذى يشاء الله - تعالى - أن ينسيك شيئا من ذلك . فإنك ستنساه بأمره - تعالى - لأنه وحده - عز وجل - وهو العليم بما كان ظاهرا من الأشياء ، وبما كان خافيا منها فالمقصود من هاتين الآيتين : وعد الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أنه - سبحانه - كما أنه قادر على أن يقرئ الرسول صلى الله عليه وسلم قراءة لا ينساها ، فهو أيضا قادر على أن يزل من صدره ما يشاء إزلته ، عن طريق النسيان لما حفظه .
فالمراد بهذا الاستثناء : بيان أنه - تعالى - لو أراد أن يصير الرسول صلى الله عليه وسلم ناسيا للقرآن لقدر على ذلك ، كما قال - سبحانه - { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ . . . } إذ هو - تعالى - على كل شئ قدير ، ولكنه لم يشأ ذلك فضلا منه وكرما .
قال الإِمام الشوكانى ما ملخصه : قوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } أى : سنجعلك قارئا بأن نلهمك القراءة . فلا تنسى ما تقرؤه ، والجملة مستأنفة لبيان هدايته صلى الله عليه وسلم الخاصة ، بعد بيان الهداية العامة ، وهى هدايته صلى الله عليه وسلم لحفظ القرآن .
وقوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } استثناء مفرغ من أعم المفاعيل ، أى : لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، وهو لم يشأ - سبحانه - أن ينسى النبى صلى الله عليه وسلم شيئا كقوله - تعالى - { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقيل : " لا " فى قوله { فَلاَ تنسى } للنهى ، والألف مزيدة لرعاية الفاصلة ، كما فى قوله - تعالى - : { فَأَضَلُّونَا السبيلا } يعنى : فلا تغفل عن قراءته .
وقال الإِمام الرازى : وهاتان الآيتان تدلان على المعجزة من وجهين :
أحدهما : أن رسول صلى الله عليه وسلم كان أميا ، فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ، ولا تكرار ، ولا كتبة ، خارق للعبادة فيكون معجزا . وثانيهما : أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة . فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة . سيقع فى المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخبارا عن الغيب ، فيكون معجزا . .
( إلا ما شاء الله ) . . فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية ، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى . ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى ؛ ويظل التطلع دائما إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها . ويظل القلب معلقا بمشيئة الله حيا بهذا التعلق أبدا . .
( إنه يعلم الجهر وما يخفى ) . . وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء . . فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى ؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعا ، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا .
وقوله تعالى : { إلا ما شاء الله } ، قال الحسن وقتادة وغيره مما قضى الله تعالى بنسخه ، وأن ترفع تلاوته وحكمه . وقال الفراء وجماعة من أهل المعاني : هو استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء ، وليس ثم شيء أبيح نسيانه ، وقال ابن عباس : { إلا ما شاء الله } أن ينسيكه لتسن به على نحو قوله عليه السلام «إني لأنسى أَو أُنَسَّى لأسنَّ {[11751]} » وقال بعض المتأولين : { إلا ما شاء الله } أن يغلبك النسيان عليه ثم يذكرك به بعد ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشر يرحمه الله : «لقد أذكرني كذا في سورة كذا وكذا{[11752]} » .
قال القاضي أبو محمد : ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع فيما أمر بتبليغه ، إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه ، فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى أن يسنَّ ، أو على النسخ ، ثم أخبر تعالى { إنه يعلم الجهر } من الأشياء { وما يخفى } منها ، وذلك لإحاطته بكل شيء علماً ، وبهذا يصح الخبر بأنه لا ينسى شيئاً إلا ذكره الله تعالى به
والاستثناء في قوله : { إلا ما شاء اللَّه } مفرّع من فعل { تنسى } ، و ( ما ) موصولة هي المستثنى . والتقدير : إلا الذي شاء الله أن تنساه ، فحذف مفعول فعل المشيئة جرياً على غالب استعماله في كلام العرب ، وانظر ما تقدم في قوله : { ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم وأبصارهم } في سورة البقرة ( 20 ) .
والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي إذا شاء الله أن ينساه . وذلك نوعان :
أحدهما : وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءَته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون .
وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال : « كان فيما أنزل الشيخُ والشيخه إذا زنيا فارجموهما » قال عمر : لقد قرأنَاها ، وأنه كان فيما أنزل : « لا تَرغبوا عن ءابائكم فإنَّ كفراً بكم أن ترغبوا عن ءابائكم » . وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : { أو ننسها } في قراءة من قرأ : { نُنْسِها } في سورة البقرة ( 106 ) .
النوع الثاني : ما يعرض نسيانه للنبيء صلى الله عليه وسلم نسياناً موقتاً كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به . ففي « صحيح البخاري » عن عائشة قالت : « سمع النبيءُ صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ من الليل بالمسجد فقال : يرحمه الله لقد أذكَرَنِي كذا وكذا آيةً أسقطتهن أو كنت أنسيتُها من سورة كذا وكذا ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبَيّ بن كعب أُنسِخَتْ ؟ فقال : « نسيتُها » .
وليس قوله : { فلا تنسى } من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف ، أمَّا إنه ليست ( لا ) فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره .
وجملة : { إنه يعلم الجهر وما يخفى } معترضة وهي تعليل لجملة : { فلا تنسى } { إلا ما شاء الله } فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض .
ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه ، وما ينساه فيسقطه من القرآن هو من قبيل الخفيّ فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به .