مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ} (7)

أما قوله : { إلا ما شاء الله } ففيه احتمالان ( أحدهما ) : أن يقال : هذا الاستثناء غير حاصل في الحقيقة وأنه عليه السلام لم ينس بعد ذلك شيئا ، قال الكلبي : إنه عليه السلام لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئا ، وعلى هذا التقدير يكون الغرض من قوله : { إلا ما شاء الله } أحد أمور ( أحدها ) : التبرك بذكر هذه الكلمة على ما قال تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } وكأنه تعالى يقول : أنا مع أني عالم بجميع المعلومات وعالم بعواقب الأمور على التفصيل لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة فأنت وأمتك يا محمد أولى بها ( وثانيها ) : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمد عليه السلام شيئا ، إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسيا لذلك لقدر عليه ، كما قال : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال لمحمد عليه السلام : { لئن أشركت ليحبطن عملك } مع أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك البتة ، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه لا من قوته ( وثالثها ) : أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي قليلا كان أو كثيرا أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم كان يبالغ في التثبت والتحفظ والتيقظ في جميع المواضع ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه السلام على التيقظ ، في جميع الأحوال ( ورابعها ) : أن يكون الغرض من قوله : { إلا ما شاء الله } نفي النسيان رأسا ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء [ الله ] ، ولا يقصد استثناء شيء . ( القول الثاني ) : أن قوله : { إلا ما شاء الله } استثناء في الحقيقة ، وعلى هذا التقدير تحتمل الآية وجوها ( أحدها ) : قال الزجاج : إلا ما شاء الله أن ينسى ، فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك ، فإذا قد ينسى ولكنه يتذكر فلا ينسى نسيانا كليا دائما ، روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة ، فحسب أبي أنها نسخت ، فسأله فقال : نسيتها .

( وثانيها ) : قال مقاتل : إلا ما شاء الله أن ينسيه ، ويكون المراد من الإنساء ههنا نسخة ، كما قال : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها } فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها ، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به ، فيصير ذلك سببا لنسيانه ، وزواله عن الصدور . ( وثالثها ) : أن يكون معنى قوله : { إلا ما شاء الله } القلة والندرة ، ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع ، بل من الآداب والسنن ، فإنه لو نسي شيئا من الواجبات ولم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع ، وإنه غير جائز .

أما قوله تعالى : { إنه يعلم الجهر وما يخفى } ففيه وجهان ( أحدهما ) : أن المعنى أنه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام ، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان ، فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه ( والثاني ) : أن يكون المعنى : فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسخ ، فإنه أعلم بمصالح العبيد ، فينسخ حيث يعلم أن المصلحة في النسخ .