قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } فيه أوجه :
أحدها : أنه مفرَّغ ، أي : إلا ما شاء الله أن ينسيكه ، فإنك تنساه ، والمراد رفع تلاوته ، وفي الحديث : «أنَّهُ كَانَ يُصبحُ فِيَنْسَى الآيَاتِ »{[59900]} ، لقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] .
وقيل : إن المعنى بذلك النُّدْرة والقلَّة .
قال ابن الخطيب{[59901]} : يشترط أن لا يكون ذلك القليل من الواجبات بل من الآداب والسنن ، فإنَّه لو نسي من الواجبات ، فلم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع ، وهو غير جائز ، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في صلاته ، فحسب أبيٌّ أنها نُسختْ ، فسأله ، فقال صلى الله عليه وسلم : نَسِيتُها{[59902]} .
وقال الزمخشريُّ{[59903]} : «والغرض نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله ، ولم يقصد أستثني شيئاً ، وهو استعمال القلة في معنى النفي » انتهى .
وهذا القول سبقه إليه الفراء ومكي .
قال الفراء ، وجماعة معه : هذا الاستثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى ، وليس شيى أبيح استثناؤه .
قال أبو حيان{[59904]} : «وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى ، ولا في كلام فصيح ، وكذلك القول بأن «لا » للنفي ، والألف فاصلة » انتهى .
وهذا الذي قاله أبو حيان لم يقصده القائل بكونه زائداً محضاً ، بل المعنى الذي ذكره ، وهو المبالغة في نفي النسيان ، أو النهي عنه .
وقال مكيٌّ : «وقيل : معنى ذلك إلا ما شاء الله ، وليس يشاء الله أن تنسى منه شيئاً ، فهو بمنزلة قوله تعالى ، في سورة «هود » في الموضعين : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [ هود : 107 ، 108 ] وليس يشاء جلَّ ذكره ترك شيء من الخلود ، لتقدم مشيئته لهم بالخلود » .
وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات{[59905]} صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هو استثناء من قوله تعالى : { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } [ الأعلى : 5 ] . نقله مكي .
والمعنى : ما شاء الله أن يناله بنو آدم ، والبهائم ، فإنه لا يضير ذلك .
قال شهابُ الدين{[59906]} : وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتَّة .
قال القرطبيُّ{[59907]} : «قيل : إلا ما شاء الله أن ينسى ، ثم يذكر بعد ذلك ، فإذا قد ينسى ، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسياناً كلياً » .
[ وقيل هذا النسيان بمعنى النسخ إلا ما شاء الله ينسخه ، والاستثناء نوع من النسخ .
وقيل : النسيان بمعنى الترك أي : يعصمك من أن تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل ، والأول في نسخ القراءة ، ولا للنفي لا للنهي وقيل للنهي ، وإنما أثبتت الياء لرؤوس الآي ، والمعنى : لا تغفل قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة ، والأوَّل هو المختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتاً معلوماً .
وأيضاً فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف وعليها القراءات .
وقيل : معناه : إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله ]{[59908]} .
ذكر في كيفية هذا التعليم والإقراء وجوهاً :
الأول : أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - سيقرأ عليك القرآن مراتٍ ، حتى تحفظه حفظاً لا تنساه .
وثانيها : أنَّا نشرحُ صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظه بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه .
وثالثها : أنه تعالى لما أمره صلى الله عليه وسلم في أول السورة بالتسبيح ، فكأنه تعالى قال : واظب على ذلك ، ودُمْ عليه ، فإنَّا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأوَّلين ، والآخرين ، ويكون فيه ذكرك ، وذكر قومك ، وتجمعه في قلبك .
{ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى } وهو العمل به .
هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين :
الأول : أنه صلى الله عليه وسلم كان رَجُلاً أميًّا ، فحفظه هذا الكتاب المطول من غير دراسة ، ولا تكرار ، ولا كتابة ، خارقة للعادة .
والثاني : أنه إخبار عن الوقوع في المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً .
قال بعضهم : المراد بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } أمور :
أولها : التبرك بهذه الكلمة لقوله تعالى : { وَلاَ تَقولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] ، فكأنه تعالى يقول : إني عالم بجميع المعلومات ، ثم بعواقب الأمور على التفصيل ، ومع ذلك لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة ، فأنت وأمتك يا محمد أولى بها ، وهذا بناء على أن الاستثناء غير حاصل في الحقيقة ، وأنه صلى الله عليه وسلم لم ينس ذلك شيئاً ، كما قاله ابن عبَّاس والكلبي وغيرهما .
وثانيها : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أنَّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً كذلك لقدر عليه ، كقوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] ، ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك ، ونظيره قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 6 ] مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك ألبتَّة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى ، بعرفه قدرته ، حتى يعلم أنَّ عدم النِّسيان من فضل الله ، وإحسانه ، لا من قوته .
وثالثها : أن الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي ، أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم كان يبالغ في التثبُّت ، والتحفُّظ في جميع المواضع ، وكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه صلى الله عليه وسلم على التيقُّظ في جميع الأحوال .
قوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } الجَهْرُ : هو الإعلان من القول والعمل ، «وَمَا يَخْفَى » من السرّ .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما في قلبك ونفسك{[59909]} .
وقال محمد بن حاتمٍ : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها{[59910]} .
وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك ، «ومَا يَخْفَى » هو ما نسخ في صدرك .
«ما » اسمية ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل ، ولولا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.