اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ} (7)

قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } فيه أوجه :

أحدها : أنه مفرَّغ ، أي : إلا ما شاء الله أن ينسيكه ، فإنك تنساه ، والمراد رفع تلاوته ، وفي الحديث : «أنَّهُ كَانَ يُصبحُ فِيَنْسَى الآيَاتِ »{[59900]} ، لقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] .

وقيل : إن المعنى بذلك النُّدْرة والقلَّة .

قال ابن الخطيب{[59901]} : يشترط أن لا يكون ذلك القليل من الواجبات بل من الآداب والسنن ، فإنَّه لو نسي من الواجبات ، فلم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع ، وهو غير جائز ، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في صلاته ، فحسب أبيٌّ أنها نُسختْ ، فسأله ، فقال صلى الله عليه وسلم : نَسِيتُها{[59902]} .

وقال الزمخشريُّ{[59903]} : «والغرض نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله ، ولم يقصد أستثني شيئاً ، وهو استعمال القلة في معنى النفي » انتهى .

وهذا القول سبقه إليه الفراء ومكي .

قال الفراء ، وجماعة معه : هذا الاستثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى ، وليس شيى أبيح استثناؤه .

قال أبو حيان{[59904]} : «وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى ، ولا في كلام فصيح ، وكذلك القول بأن «لا » للنفي ، والألف فاصلة » انتهى .

وهذا الذي قاله أبو حيان لم يقصده القائل بكونه زائداً محضاً ، بل المعنى الذي ذكره ، وهو المبالغة في نفي النسيان ، أو النهي عنه .

وقال مكيٌّ : «وقيل : معنى ذلك إلا ما شاء الله ، وليس يشاء الله أن تنسى منه شيئاً ، فهو بمنزلة قوله تعالى ، في سورة «هود » في الموضعين : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [ هود : 107 ، 108 ] وليس يشاء جلَّ ذكره ترك شيء من الخلود ، لتقدم مشيئته لهم بالخلود » .

وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات{[59905]} صلى الله عليه وسلم .

وقيل : هو استثناء من قوله تعالى : { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } [ الأعلى : 5 ] . نقله مكي .

والمعنى : ما شاء الله أن يناله بنو آدم ، والبهائم ، فإنه لا يضير ذلك .

قال شهابُ الدين{[59906]} : وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتَّة .

قال القرطبيُّ{[59907]} : «قيل : إلا ما شاء الله أن ينسى ، ثم يذكر بعد ذلك ، فإذا قد ينسى ، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسياناً كلياً » .

[ وقيل هذا النسيان بمعنى النسخ إلا ما شاء الله ينسخه ، والاستثناء نوع من النسخ .

وقيل : النسيان بمعنى الترك أي : يعصمك من أن تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل ، والأول في نسخ القراءة ، ولا للنفي لا للنهي وقيل للنهي ، وإنما أثبتت الياء لرؤوس الآي ، والمعنى : لا تغفل قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة ، والأوَّل هو المختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتاً معلوماً .

وأيضاً فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف وعليها القراءات .

وقيل : معناه : إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله ]{[59908]} .

فصل في كيفية تعليم القرآن

ذكر في كيفية هذا التعليم والإقراء وجوهاً :

الأول : أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - سيقرأ عليك القرآن مراتٍ ، حتى تحفظه حفظاً لا تنساه .

وثانيها : أنَّا نشرحُ صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظه بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه .

وثالثها : أنه تعالى لما أمره صلى الله عليه وسلم في أول السورة بالتسبيح ، فكأنه تعالى قال : واظب على ذلك ، ودُمْ عليه ، فإنَّا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأوَّلين ، والآخرين ، ويكون فيه ذكرك ، وذكر قومك ، وتجمعه في قلبك .

{ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى } وهو العمل به .

فصل في الدلالة على المعجزة

هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين :

الأول : أنه صلى الله عليه وسلم كان رَجُلاً أميًّا ، فحفظه هذا الكتاب المطول من غير دراسة ، ولا تكرار ، ولا كتابة ، خارقة للعادة .

والثاني : أنه إخبار عن الوقوع في المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً .

فصل في المراد بالآية

قال بعضهم : المراد بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } أمور :

أولها : التبرك بهذه الكلمة لقوله تعالى : { وَلاَ تَقولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] ، فكأنه تعالى يقول : إني عالم بجميع المعلومات ، ثم بعواقب الأمور على التفصيل ، ومع ذلك لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة ، فأنت وأمتك يا محمد أولى بها ، وهذا بناء على أن الاستثناء غير حاصل في الحقيقة ، وأنه صلى الله عليه وسلم لم ينس ذلك شيئاً ، كما قاله ابن عبَّاس والكلبي وغيرهما .

وثانيها : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أنَّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً كذلك لقدر عليه ، كقوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] ، ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك ، ونظيره قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 6 ] مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك ألبتَّة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى ، بعرفه قدرته ، حتى يعلم أنَّ عدم النِّسيان من فضل الله ، وإحسانه ، لا من قوته .

وثالثها : أن الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي ، أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم كان يبالغ في التثبُّت ، والتحفُّظ في جميع المواضع ، وكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه صلى الله عليه وسلم على التيقُّظ في جميع الأحوال .

قوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } الجَهْرُ : هو الإعلان من القول والعمل ، «وَمَا يَخْفَى » من السرّ .

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما في قلبك ونفسك{[59909]} .

وقال محمد بن حاتمٍ : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها{[59910]} .

وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك ، «ومَا يَخْفَى » هو ما نسخ في صدرك .

فصل في الكلام على «ما »

«ما » اسمية ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل ، ولولا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح .


[59900]:ذكره السيوطي في الدر المنثور 8/48.
[59901]:ينظر: الفخر الرازي 31/129.
[59902]:أخرجه أحمد (3/407)، وابن خزيمة في "صحيحه" (6648).
[59903]:ينظر الكشاف 4/739.
[59904]:ينظر: البحر المحيط 8/454.
[59905]:ينظر: القرطبي (20/14).
[59906]:الدر المصون 6/510.
[59907]:الجامع لأحكام القرآن 20/14.
[59908]:سقط من: ب.
[59909]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/15).
[59910]:ينظر المصدر السابق.