الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ} (7)

قوله تعالى : " إلا ما شاء الله " وجه الاستثناء على ، ما قاله الفراء : إلا ما شاء اللّه ، وهو لم يشأ أن تنسى شيئا ، كقوله تعالى : " خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك{[15973]} " [ هود : 108 ] . ولا يشاء . ويقال في الكلام : لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت ، وإلا أن أشاء أن أمنعك ، والنية على ألا يمنعه شيئا . فعلى هذا مجاري الإيمان ، يستثنى فيها ونية الحالف التمام . وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس : فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات ، " إلا ما شاء اللّه " . وعن سعيد عن قتادة ، قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ينسى شيئا ، " إلا ما شاء اللّه " . وعلى هذه الأقوال قيل : إلا ما شاء اللّه أن ينسى ، ولكنه لم ينسى شيئا منه بعد نزول هذه الآية . وقيل : إلا ما شاء اللّه أن ينسى ، ثم يذكر بعد ذلك ، فإذاً قد نسي ، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا . وقد روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة ، فحسب أبي أنها نسخت ، فسأله فقال : [ إني نسيتها ] . وقيل : هو من النسيان ، أي إلا ما شاء اللّه أن ينسيك . ثم قيل : هذا بمعنى النسخ ، أي إلا ما شاء اللّه أن ينسخه . والاستثناء نوع من النسخ . وقيل . النسيان بمعنى الترك ، أي يعصمك من أن تترك العمل به ، إلا ما شاء اللّه أن تتركه لنسخه إياه . فهذا في نسخ العمل ، والأول في نسخ القراءة . قال الفرغاني : كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم ، وكان يغشاه ابن كيسان النحوي ، وكان رجلا جليلا ، فقال يوما : ما تقول يا أبا القاسم في قول اللّه تعالى : " سنقرئك فلا تنسى " ؟ فأجابه مسرعا - كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات : لا تنسى العمل به . فقال ابن كيسان : لا يفضض اللّه فاك مثلك من يصدر عن رأيه . وقوله " فلا " : للنفي لا للنهي . وقيل : للنهي ، وإنما أثبتت الياء{[15974]} لأن رؤوس الآي على ذلك . والمعنى : لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه ، إلا ما شاء اللّه أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة . والأول هو المختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتا معلوما . وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف ، وعليها القراء . وقيل : معناه إلا ما شاء اللّه أن يؤخر إنزاله . وقيل : المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء اللّه أن ينال بنو آدم والبهائم ، فإنه لا يصير كذلك .

قوله تعالى : " إنه يعلم الجهر وما يخفى " أي الإعلان من القول والعمل . " وما يخفى " من السر . وعن ابن عباس : ما في قلبك ونفسك . وقال محمد بن حاتم : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها . وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك . " وما يخفى " هو ما نسخ من صدرك .


[15973]:آية 108 سورة هود.
[15974]:يريد الألف في (تنسى)، وأصلها الياء (نسى ينسى).