{ 10-12 } { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يقول تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ } من أصول دينكم وفروعه ، مما لم تتفقوا عليه { فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } يرد إلى كتابه ، وإلى سنة رسوله ، فما حكما به فهو الحق ، وما خالف ذلك فباطل . { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي } أي : فكما أنه تعالى الرب الخالق الرازق المدبر ، فهو تعالى الحاكم بين عباده بشرعه في جميع أمورهم .
ومفهوم الآية الكريمة ، أن اتفاق الأمة حجة قاطعة ، لأن اللّه تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إلا ما اختلفنا فيه ، فما اتفقنا عليه ، يكفي اتفاق الأمة عليه ، لأنها معصومة عن الخطأ ، ولا بد أن يكون اتفاقها موافقا لما في كتاب اللّه وسنة رسوله .
وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : اعتمدت بقلبي عليه في جلب المنافع ودفع المضار ، واثقا به تعالى في الإسعاف بذلك . { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أتوجه بقلبي وبدني إليه ، وإلى طاعته وعبادته .
وهذان الأصلان ، كثيرا ما يذكرهما اللّه في كتابه ، لأنهما يحصل بمجموعهما كمال العبد ، ويفوته الكمال بفوتهما أو فوت أحدهما ، كقوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }
ثم وجه - سبحانه - أمره إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يرشد المؤمنين إلى وجوب تحاكمهم إلى شريعته - تعالى - إذا ما دب خلاف بينهم ، أو بينهم وبين أعدائهم ، فقال : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } .
أى : عليكم أيها المؤمنون - إذ ما اختلفتم فى أمر من الأمور ، أن تحتكموا فيه إلى شريعة الله - عز وجل - ، وأن تقبلوا عن إذعان وطاعة حكمه - تعالى - .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } يعود إلى الله - تعالى - الذى يجب أن يكون التحاكم إليه وحده عند الاختلاف .
أى : ذلك الحاكم العادل الذى لا حاكم بحق سواه { رَبِّي } وخالقى ورازقى . . { عَلَيْهِ } وحده { تَوَكَّلْتُ } واعتمدت فى جميع شئونى { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أى : وإليه وحده أرجع فى كل أمورى .
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف . وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله يتضمن حكم الله كي لا يكون للهوى المتقلب أثر في الحياة بعد ذلك المنهج الإلهي القويم :
( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً ، يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم ) . .
وطريقة إيراد هذه الحقائق وتسلسلها وتجمعها في هذه الفقرة طريقة عجيبة ، تستحق التدبر . فالترابط الخفي والظاهر بين أجزائها ترابط لطيف دقيق .
إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) . . والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن ؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة ؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية ، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم ، وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا . وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر ، أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] لتقوم الحياة على أساسه .
وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مسلما أمره كله لله ، منيبا إلى ربه بكليته :
( ذلكم الله ربي عليه توكلت ، وإليه أنيب ) . .
فتجيء هذه الإنابة ، وذاك التوكل ، وذلك الإقرار بلسان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في موضعها النفسي المناسب للتعقيب على تلك الحقيقة . . . فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه ، وأنه يتوكل عليه وحده ، وأنه ينيب إليه دون سواه . فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر ، والنبي المهدي لا يتحاكم إلا إليه ، وهو أولى من يتحاكم الناس إلى قوله الفصل ، لا يتلفتون عنه لحظة هنا أو هناك ? وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى ، والنبي المهدي يتوكل على الله وحده ، وينيب إليه وحده ، بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله وموجهه إلى حيث يختار ?
واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه ، فلا يتلفت هنا أو هناك . ويسكب فيه الطمأنينة إلى طريقه ، والثقة بمواقع خطواته ، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحتار . ويشعره أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه في هذا الاتجاه . والنبي المهدي سالك هذا الطريق إلى الله .
واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن يرفع من شعوره بمنهجه وطريقه ، فلا يجد أن هناك منهجاً آخر أو طريقاً يصح أن يتلفت إليه ؛ ولا يجد أن هنالك حكماً غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه . والنبي المهدي ينيب إلى ربه الذي شرع هذا المنهج وحكم هذا الحكم .
{ وما اختلفتم } أنتم والكفار . { فيه من شيء } من أمر من أمور الدنيا أو الدين . { فحكمه إلى الله } مفوض إليه يميز المحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة . وقيل { وما اختلفتم فيه } من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله . { ذلكم الله ربي عليه توكلت } في مجامع الأمور . { وإليه أنيب } إليه أرجع في المعضلات .
{ وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } .
يجوز أن يكون هذا تكملة للاعتراض فيكون كلاماً موجهاً من الله تعالى إلى النّاس . ويجوز أن يكون ابتداء كلام متصلاً بقوله : { ذلاكم الله ربّي عليه توكلت } ، { فحكمه إلى الله } تعيَّن أن يكون مجمُوع هذا الكلام لمتكلممٍ واحد ، لأن ضمائر { ربي } ، و { توكلتُ } ، و { أنيب } ضمائره ، وتلك الضمائر لا تصلح أن تعود إلى الله تعالى . ولا حظَّ في سياق الوحي إلى أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم فتعين تقدير فعل أمرٍ بقوللٍ يَقوله النبي صلى الله عليه وسلم
والجملة معطوفة على الجمل التي قبلها لأن الكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين . والواو عاطفة فِعل أمر بالقول ، وحَذْفُ القول شائع في القرآن بدلالة القرائن لأن مادة الاختلاف مشعرة بأنه بين فريقين وحالة الفريقين مشعرة بأنه اختلاف في أمور الاعتقاد التي أنكرها الكافرون من التوحيد والبعثثِ والنفع والإضرار .
و { من شيء } بيان لإبهام { ما } ، أيْ أيُّ شيء اختلفتم فيه ، والمراد : من أشياء الدّين وشؤون الله تعالى .
وضمير { فحكمه } عائد إلى { مَا اختلفتم } على معنى : الحكمُ بينكم في شأنه إلى الله . والمعنى : أنه يتضح لهم يوم القيامة المحقّ من المبطل فيما اختلفوا فيه حين يرون الثواب للمؤمنين والعقاب للمشركين ، فيعلَم المشركون أنهم مبطلون فيما كانوا يزعمون .
و { إلى الله } خبر عن ( حُكْمُهُ ) . و { إلى } للانتهاء وهو انتهاء مجازي تمثيلي ، مُثِّل تأخيرُ الحكم إلى حلول الوقت المعيَّن له عند الله تعالى بسير السائر إلى أحد يَنزل عنده .
ولا علاقة لهذه الآية باختلاف علماء الأمة في أصول الدّين وفروعه لأن ذلك الاختلافَ حكمه منوط بالنظر في الأدلة والأقيسة صحةً وفساداً فإصدار الحكم بين المصيب والمخطىء فيها يسيرٌ إن شاء النّاس التداول والإنصاف . وبذلك توصل أهل الحق إلى التمييز بين المصيب والمخطىء ، ومراتببِ الخطأ في ذلك ، على أنّه لا يناسب سياق الآيات سابِقها وتاليها ولا أغراضَ السور المكية . وقد احتج بهذه الآية نفاة القياس ، وهو احتجاج لا يرتضيه نطَّاس .
{ ذَلِكُمُ الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب } .
يجوز أن تكون الجملة مقول قول محذوف يدلّ عليه قوله : { لتنذر أمّ القرى } [ الشورى : 7 ] الآية ، فتكون كلاماً مستأنفاً لأن الإنذار يقتضي كلاماً منذراً به ، ويجوز أن تكون متصلة بجملة { وما اختلفتم فيه من شيء } تكملة للكلام الموجه من الله ويكون في قوله : { ربي } التفاتاً من الخطاب إلى التكلم ، والتقدير : ذلكم الله ربّكم ، وتكون جملتا { عليه توكلت وإليه أنيب } معترضتين .
والإشارةُ لتمييز المشار إليه وهو المفهوم مِن { فحكمه إلى الله } . وهذا التمييز لإبطال التباس ماهية الإلهياة والربوبية على المشركين إذ سموا الأصنام آلهة وأرباباً .
وأوثر اسم الإشارة الذي يستعمل للبعيد لقصد التعظيم بالبعد الاعتباري اللازم لِلسموّ وشرف القدْر ، أي ذلكم الله العظيمُ . ويُتوصل من ذلك إلى تعظيم حكمه ، فالمعنى : الله العظيم في حكمه هُو ربّي الذي توكلت عليه فهو كافيني منكم .
والتوكل : تفعل من الوَكْل ، وهو التفويض في العَمل ، وتقدم عند قوله تعالى ، { فإذا عزمتَ فتوكّل على الله } في سورة آل عمران ( 159 ) . f
والإنابة : الرجوع ، والمراد بها هنا الكناية عن ترك الاعتماد على الغير لأن الرجوع إلى الشيء يستلزم عدم وجود المطلوب عند غيره ، وتقدمت الإنابة عند قوله تعالى : { إن إبراهيم لحليمٌ أوّاهٌ منيبٌ } في سورة هود ( 75 ) .
وجيء في فعل { توكلت } بصيغة الماضي وفي فعل { أنيب } بصيغة المضارع للإشارة إلى أن توكله على الله كان سابقاً من قبل أن يظهر له تنكر قومه له ، فقد صادف تنكرُهم منه عبداً متوكلاً على ربّه ، وإذا كان توكله قد سبق تنكُّرَ قومه فاستمراره بعد أن كشّروا له عن أنياب العدوان محقق .
وأما فعل { أنيب } فجيء فيه بصيغة المضارع للإشارة إلى تجدد الإنابة وطلب المغفرة . ويعلم تحققها في الماضي بمقارنتها لجملة { عليه توكلت } لأن المتوكل منيب ، ويجوز أن يكون ذلك من الاحتباك . والتقدير : عليه توكلت وأتوكل وإليه أنْبت وأنيب .
وتقديم المتعلِّقين في { عليه توكلت وإليه أنيب } لإفادة الاختصاص ، أي لا أتوكّل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم، فقال الله تعالى: إن الذي اختلفتم فيه، فإني أرد قضاءه إلي وأنا أحكم فيه، ثم دل على نفسه بصنعه، فقال: {ذلكم الله} الذي يحيى الموتى ويميت الأحياء، هو أحياكم، وهو الله {ربي عليه توكلت} يعني به أثق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللّهِ": وما اختلفتم أيها الناس فيه من شيء فتنازعتم بينكم، فحكمه إلى الله، فإن الله هو الذي يقضي بينكم ويفصل فيه الحكم.
"ذَلِكُمْ اللّهُ رَبّي عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ" يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين بالله هذا الذي هذه الصفات صفاته ربي، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر على شيء.
"عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ" في أموري، وإليه فوّضت أسبابي، وبه وثقت.
"وَإلَيْهِ أُنِيبُ": وإليه أرجع في أموري وأتوب من ذنوبي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله: {وما اختلفتم فيه من شيء فحُكمه إلى الله} وجوها:
والثاني: في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن كان اختلافهم في القرآن فقوله: {فحكمه إلى الله} في ما أقام من الحُجج والبراهين أنه من الله، ومن عنده جاء حين عجِزوا عن إتيان مثله أو مقابلة شيء يوازيه.
وإن كان اختلافهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه رسول] أو ليس برسول، فقد أقام من الدلائل والبراهين ما يدل على رسالته ونبوّته سمعيات وعقليات ما لا يتعرّض لردّها إلا من كابر عقله، وعاند لبّه.
وكذلك لو كان اختلافهم في الدين فقد أقام ما يعلم كل ذي عقل ولبٍّ أنه هو الصواب، وأن غيره من الأديان ليس بحق.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} أي إلى كتاب الله كقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] أي إلى كتاب الله. لكن هذا لا يصح لأن قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} إنما هو في المؤمنين إذا وقع بينهم الاختلاف في شيء من الأحكام يرد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} إنما هو مُحاجّة الكفرة، فهو من غير ذلك المعنى، إذ هم لا يعتقدون كونه حجة، وإنما يُرجع إلى دليل آخر عقلي.
ويحتمل أن يكون اختلافهم الذي ذكر، هو اختلافهم في الله تعالى كقوله: {والذين يُحاجّون في الله} [الشورى: 16]
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}: أي إلى كتاب الله، وسُنَّةِ نبِّيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأئمة، وشواهِد القياس. والعبرةُ بهذه الأشياء فهي قانون الشريعة، وجملتها من كتاب الله؛ فإنَّ الكتابَ هو الذي يدلُّ على صحة هذه الجملة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم قال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أي: مهما اختلفتم فيه من الأمور، وهذا عام في جميع الأشياء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فما اتفقتم فيه من أمره سبحانه فهو الحق، وذلك هو أصل الدين الذي أطبق عليه الخلائق في وقت الاضطرار، لم يتلعثم فيه منهم ضعيف، ولا جبار منيف، عطف عليه قوله: {وما اختلفتم} أي أيها الخلق {فيه من شيء} وذلك هو الفروع مطلقاً والأصول في حال الرفاهية.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وحيثُ كانَ التوكُّل أمراً واحداً مستمراً، والإنابةُ متعددة متجددة حسب تجّدُدِ موادّهِا أُوثرَ في الأولِ صيغةُ الماضِي، وفي الثَّانِي صيغةُ المضارعِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله).. والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم، وأخلاقهم وسلوكهم. وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا. وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر، أوسع من دساتير الحكم وأشمل. فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله [صلى الله عليه وسلم] لتقوم الحياة على أساسه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شيء فَحُكْمُهُ إِلَى الله} يجوز أن يكون هذا تكملة للاعتراض فيكون كلاماً موجهاً من الله تعالى إلى النّاس. ويجوز أن يكون ابتداء كلام متصلاً بقوله: {ذلاكم الله ربّي عليه توكلت}، {فحكمه إلى الله} تعيَّن أن يكون مجمُوع هذا الكلام لمتكلمٍ واحد، لأن ضمائر {ربي} و {توكلتُ}، و {أنيب} ضمائره، وتلك الضمائر لا تصلح أن تعود إلى الله تعالى. ولا حظَّ في سياق الوحي إلى أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم فتعين تقدير فعل أمرٍ بقولٍ يَقوله النبي صلى الله عليه وسلم.
والجملة معطوفة على الجمل التي قبلها؛ لأن الكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين. والواو عاطفة فِعل أمر بالقول، وحَذْفُ القول شائع في القرآن بدلالة القرائن لأن مادة الاختلاف مشعرة بأنه بين فريقين وحالة الفريقين مشعرة بأنه اختلاف في أمور الاعتقاد التي أنكرها الكافرون من التوحيد والبعثِ والنفع والإضرار.
و {من شيء} بيان لإبهام {ما}، أيْ أيُّ شيء اختلفتم فيه، والمراد: من أشياء الدّين وشؤون الله تعالى.
وضمير {فحكمه} عائد إلى {مَا اختلفتم} على معنى: الحكمُ بينكم في شأنه إلى الله. والمعنى: أنه يتضح لهم يوم القيامة المحقّ من المبطل فيما اختلفوا فيه حين يرون الثواب للمؤمنين والعقاب للمشركين، فيعلَم المشركون أنهم مبطلون فيما كانوا يزعمون.
و {إلى الله} خبر عن (حُكْمُهُ). و {إلى} للانتهاء وهو انتهاء مجازي تمثيلي، مُثِّل تأخيرُ الحكم إلى حلول الوقت المعيَّن له عند الله تعالى بسير السائر إلى أحد يَنزل عنده.
ولا علاقة لهذه الآية باختلاف علماء الأمة في أصول الدّين وفروعه؛ لأن ذلك الاختلافَ حكمه منوط بالنظر في الأدلة والأقيسة صحةً وفساداً فإصدار الحكم بين المصيب والمخطئ فيها يسيرٌ إن شاء النّاس التداول والإنصاف. وبذلك توصل أهل الحق إلى التمييز بين المصيب والمخطئ، ومراتبِ الخطأ في ذلك، على أنّه لا يناسب سياق الآيات سابِقها وتاليها ولا أغراضَ السور المكية...
{ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب} يجوز أن تكون الجملة مقول قول محذوف يدلّ عليه قوله: {لتنذر أمّ القرى} الآية، فتكون كلاماً مستأنفاً؛ لأن الإنذار يقتضي كلاماً منذراً به ويجوز أن تكون متصلة بجملة {وما اختلفتم فيه من شيء} تكملة للكلام الموجه من الله ويكون في قوله: {ربي} التفاتاً من الخطاب إلى التكلم، والتقدير: ذلكم الله ربّكم، وتكون جملتا {عليه توكلت وإليه أنيب} معترضتين.
والإشارةُ لتمييز المشار إليه وهو المفهوم مِن {فحكمه إلى الله} وهذا التمييز لإبطال التباس ماهية الإلهية والربوبية على المشركين إذ سموا الأصنام آلهة وأرباباً.
وأوثر اسم الإشارة الذي يستعمل للبعيد لقصد التعظيم بالبعد الاعتباري اللازم لِلسموّ وشرف القدْر، أي ذلكم الله العظيمُ. ويُتوصل من ذلك إلى تعظيم حكمه، فالمعنى: الله العظيم في حكمه هُو ربّي الذي توكلت عليه فهو كافيني منكم.
والتوكل: تفعل من الوَكْل، وهو التفويض في العَمل، وتقدم عند قوله تعالى، {فإذا عزمتَ فتوكّل على الله} في سورة آل عمران (159).
والإنابة: الرجوع، والمراد بها هنا الكناية عن ترك الاعتماد على الغير؛ لأن الرجوع إلى الشيء يستلزم عدم وجود المطلوب عند غيره، وتقدمت الإنابة عند قوله تعالى: {إن إبراهيم لحليمٌ أوّاهٌ منيبٌ} في سورة هود (75).
وجيء في فعل {توكلت} بصيغة الماضي وفي فعل {أنيب} بصيغة المضارع للإشارة إلى أن توكله على الله كان سابقاً من قبل أن يظهر له تنكر قومه له، فقد صادف تنكرُهم منه عبداً متوكلاً على ربّه، وإذا كان توكله قد سبق تنكُّرَ قومه فاستمراره بعد أن كشّروا له عن أنياب العدوان محقق.
وأما فعل {أنيب} فجيء فيه بصيغة المضارع للإشارة إلى تجدد الإنابة وطلب المغفرة. ويعلم تحققها في الماضي بمقارنتها لجملة {عليه توكلت} لأن المتوكل منيب، ويجوز أن يكون ذلك من الاحتباك. والتقدير: عليه توكلت وأتوكل وإليه أنْبت وأنيب.
وتقديم المتعلِّقين في {عليه توكلت وإليه أنيب} لإفادة الاختصاص، أي لا أتوكّل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية التي بعدها تشير إلى الدليل الرابع لولايته تعالى فتقول: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله). فهو التوحيد الذي يستطيع أن يحل مشاكلكم. إنّ من اختصاصات الولاية أن يستطيع الولي إنهاء اختلافات من هم تحت ولايته بحكمه الصائب، فهل تستطيع الأصنام والشياطين التي تعبدونها أن تقوم بذلك، أم أنّ هذا الأمر يختص بالله الحكيم والعالم والقادر على حل مشاكل عباده، وتنفيذه لحكمه وإرادته دون غيره؟ إذن فالله العزيز الحكيم هو الحاكم لا غيره...
لقد حاول بعض المفسّرين حصر مفهوم الاختلاف الذي تشير إليه الآية في قوله تعالى:
(ما اختلفتم فيه من شيء) في الاختلاف الوارد في الآيات المتشابهة، أو في الاختلاف والمخاصمات الحقوقية فقط، إلاّ أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك، إذ هي تشمل الاختلاف سواء كان في المعارف الإلهية والعقائد، أم الأحكام الشرعية، أم القضايا الحقوقية والقضائية، أم غير ذلك ممّا يحدث بين الناس لقلّة معلوماتهم ومحدوديتها؛ إنّ ذلك ينبغي أن يحل عن طريق الوحي، وبالرجوع إلى علم الله وولايته...
جملة: (ذلكم الله ربّي) تشير إلى الربوبية المطلقة لله بمعنى الحاكمية المتزامنة مع التدبير. ونحن نعلم أنّ للربوبية قسمين: القسم التكويني الذي يعود إلى إدارة نظام الوجود، والقسم التشريعي الذي يقوم بتوضيح الأحكام ووضع القوانين وإرشاد الناس بواسطة الرسل والأنبياء (عليهم السلام). وعلى أساس ذلك طرحت الآية فيما بعد قضية «التوكل» و«الإنابة» حيث تعني الأولى رجوع جميع الأُمور الذاتية في النظام التكويني إلى الخالق جلّ وعلا.