{ 36 } { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ }
أي : ضلوا بسببها ، { فَمَنْ تَبِعَنِي } على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين { فَإِنَّهُ مِنِّي } لتمام الموافقة ومن أحب قوما وتبعهم التحق بهم .
{ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وهذا من شفقة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله والله تبارك وتعالى أرحم منه بعباده لا يعذب إلا من تمرد عليه .
وقوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس . . } تعليل لسؤال إبراهيم ربه أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام .
أى : يا رب لقد تضرعت إليك بأن تعصمنى وبنىّ عن عبادة الأصنام ، لأنها كانت سببا فى إضلال كثير من الناس عن اتباع الحق ، وعن الهداية إلى الصراط المستقيم .
وأسند الإضلال إليها مع أنها جمادات لا تعقل ، لأنها كانت سببا فى إضلال كثير من الناس ، فكأنها أضلتهم ، فنسبة الإضلال إليها مجازية من باب نسبة الشئ إلى سببه ، كما يقال : فلان فتنته الدنيا وأضلته ، وهو إنما فتن وضل بسببها .
وقوله - سبحانه - { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بيان لموقفه - عليه السلام - من المهتدين والضالين .
أى : فمن تبعنى من الناس فى ديني وعقيدتى ، فإنه يصير بهذا الاتباع من أهل دينى وهو دين الإِسلام ، ومن عصانى ولم يقبل الدخول فى الدين الحق ، فإنى أفوض أمره إليك ، فأنت - سبحانك - لا تسأل عما تفعل وغيرك يسأل .
فالجملة الكريمة تدل على الأدب السامى ، والخلق العالى ، الذى كان يتحلى به إبراهيم - عليه السلام - فى مخاطبته لربه - عز وجل - حيث فوض الأمور إليه دون أن يقطع فيه برأى ، كما تدل على رقة قلبه وشفقته على العصاة من الوقوع فى العذاب الأليم .
وشبيه بهذه الآية ما حكاه - سبحانه - عن عيسى - عليه السلام - فى قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } هذا ، ولا نرى وجها لما ذهب إليه بعض المفسرين ، من أن قول إبراهيم - عليه السلام - { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كان قبل أن يعلم بأن الله لا يغفر الشرك ، أو أن المراد بالمعصية هنا ما دون الشرك ، أون المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك . . "
نقول : لا نرى وجها لكل ذلك ، لأن الجملة الكريمة ليس المقصود بها الدعاء بالمغفرة لمن عصى ، وإنا المقصود بها تفويض أمر العصاة إلى الله - تعالى - إن شاء غفر لهم ورحمهم ، وإن شاء عذبهم .
يدعو إبراهيم دعوته هذه لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بهذه الأصنام من الناس في جيله وفي الأجيال التي قبله ؛ ومن فتنوا بها ومن افتتنوا وهم خلق كثير :
( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) . .
ثم يتابع الدعاء . . فأما من تبع طريقي فلم يفتتن بها فهو مني ، ينتسب إلى ويلتقي معي في الآصرة الكبرى ، آصرة العقيدة :
وأما من عصاني منهم فأفوض أمره إليك :
( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) . .
وفي هذا تبدو سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم ؛ فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه ، ولا يستعجل لهم العذاب ؛ بل لا يذكر العذاب ، إنما يكلهم إلى غفران الله ورحمته . ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة ؛ وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية ؛ فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم !
{ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية كقوله تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا } . { فمن تبعني } على ديني . { فإنه منّي } أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين . { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة . وفيه دليل على أن كل ذنب فللّه أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره .
ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيراً من الناس - تجوز - إذ كانت عرضة الإضلال ، والأسباب المنصوبة للغيّ ، وعليها تنشأ الأغيار ، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه ، وقيل : أراد الأصنام هنا الدنانير والدراهم .
وقوله : { ومن عصاني } ظاهره بالكفر ، بمعادلة قوله : { فمن تبعني فإنه مني } ، وإذا كان ذلك كذلك فقوله : { فإنك غفور رحيم } معناه : بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا ، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر ، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب - صلى الله عليه وسلم - قال قتادة : اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم ، والله ما كانوا طعانين ولا لعانين ، وكذلك قال نبي الله عيسى { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }{[2]} [ المائدة : 118 ] وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته ، فبشر فيهم{[3]} وكان إبراهيم التيمي يقول : من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام ؟ .
إعادة النداء في قوله : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } لإنشاء التحسر على ذلك .
وجملة { إنهن أضللن كثيراً من الناس } تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس ، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها ، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف ( إنّ ) في هذا المقام من معنى التعليل .
وذلك أن إبراهيم عليه السلام خرج من بلده أُور الكلدانيين إنكاراً على عبدة الأصنام ، فقال : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ سورة الصافات : 99 ] وقال لقومه : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [ سورة مريم : 48 ] . فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام ، ثم جاء عَرَبَةَ تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جُرْهمَ قوماً على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام . ثم أقام هنالك مَعلَم التوحيد . وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل ، وأراد أن يكون مأوى التوحيد ، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد . فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلداً آمناً حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوي إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد .
ففرع على ذلك قوله : { فمن تبعني فإنه مني } ، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني ، فدخل في ذلك أبوه وقومه ، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل .
و ( من ) في قوله : { مِني } اتصالية . وأصلها التبعيض المجازي ، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله .
وقوله : { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه . والمعنى ومن عصاني أفوّض أمره إلى رحمتك وغفرانك . وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى . وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم عليه السلام وخشية من استئصال عصاة ذريته . ولذلك متعهم الله قليلاً في الحياة الدنيا ، كما أشار إليه قوله تعالى : { قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } [ سورة البقرة : 126 ] وقوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين } [ سورة الزخرف : 27 ] . وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم عليه السلام .
وإذ كان قوله : { فإنك غفور رحيم } تفويضاً لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{رب إنهن أضللن}، يعني الأصنام، {كثيرا من الناس}، يعني أضللن بعبادتهن كثيرا من الناس، {فمن تبعني} على ديني، {فإنه مني}، على ملتي، {ومن عصاني}، فكفر، {فإنك غفور رحيم}، أن تتوب عليه، فتهديه إلى التوحيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"رَبّ إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ" يقول: يا ربّ إن الأصنام أضللن: يقول: أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهُدى وسبيل الحقّ حتى عبدوهنّ، وكفروا بك...
"فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي" يقول: فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان، فإنه مني: يقول: فإنه مستنّ بسنّتِي، وعامل بمثل عملي.
"ومَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول: ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك، فإنك "غفور" لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك، "رحيم" بعبادك تعفو عمن تشاء منهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فمن تبعني" حكاية ما قال إبراهيم من أن من يتبعه في عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، فإنه منه وعلى دينه. "ومن عصاني" في ذلك وعبد مع الله غيره، وعصاه في أوامره "فانك" يا الله "غفور رحيم" أي ستار على عبادك معاصيهم "رحيم" بهم أي منعم عليهم في جميع الأحوال...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَإِنَّكَ غَفُورٌ رًّحِيمٌ}: طلبٌ للرحمة بالإشارة، أي فارحمهم. وقال: {وَمَنْ عَصَانِي}... ولم يَقُلْ: مَنْ عصاك، وإنْ كان من عصاه فقد عصى الله، ولكن اللفظ إنما لطلب الرحمة فيما كان نصيب من ترك حقه، ولم ينتصر لنفسه بل قابلهم بالرحمة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} فأعوذ بك أن تعصمني وبنيَّ من ذلك... {فَمَن تَبِعَنِي} على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي {فَإِنَّهُ مِنِّي} أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيراً من الناس -تجوز- إذ كانت عرضة الإضلال، والأسباب المنصوبة للغيّ، وعليها تنشأ الأغيار، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه... وقوله: {ومن عصاني} ظاهره بالكفر، بمعادلة قوله: {فمن تبعني فإنه مني}، وإذا كان ذلك كذلك فقوله: {فإنك غفور رحيم} معناه: بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب -صلى الله عليه وسلم -...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين زيادة الاهتمام بأمر الأصنام بإعادة النداء، وأسقط الأداة -زيادة في التملق بكونه من أهل القرب والانقطاع إليه سبحانه معللاً لما قبله- في قوله: {رب} بإفراد المضاف إليه ليكون الكلام الواحد على نظام واحد {إنهن أضللن} إسناد مجازي علاقته السببية {كثيراً من الناس فمن} أي فتسبب عن بغضي لهن أني أقول: من {تبعني} من جميع الناس في تجنبها {فإنه مني} أي من حزبي لكونه على طريقتي وديني، فأتني ما وعدتني فيه من الفوز {ومن عصاني} فضل بها فقد استحق النار، فإن عذبته فهو عبدك، وإن غفرت له فأنت أهل لذلك، لأن لك أن تفعل ما تشاء {فإنك غفور} أي بليغ الستر {رحيم} أي بليغ الإكرام بعد ستر الذنوب؛ وأكد للإعلام بزيادة رغبته في العفو لأنه لا ينقص به شيء من عزته سبحانه ولا حكمته...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَنْ عصاني} أي لم يتبعْني، والتعبيرُ عنه بالعصيان للإيذان بأن عليه السلام مستمرُّ الدعوة وأن عدم اتباعِ من لم يتبعْه إنما هو لعصيانه لا لأنه لم يبلغْه الدعوة...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{فإنك غفور رحيم}... وتخصيص الاسمين إشارة إلى سبق الرحمة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في هذا تبدو سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم؛ فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه، ولا يستعجل لهم العذاب؛ بل لا يذكر العذاب، إنما يكلهم إلى غفران الله ورحمته، ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة؛ وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية؛ فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إعادة النداء في قوله: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} لإنشاء التحسر على ذلك.
وجملة {إنهن أضللن كثيراً من الناس} تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف (إنّ) في هذا المقام من معنى التعليل.
وذلك أن إبراهيم عليه السلام خرج من بلده أُور الكلدانيين إنكاراً على عبدة الأصنام، فقال: {إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [سورة الصافات: 99] وقال لقومه: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} [سورة مريم: 48]. فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام، ثم جاء عَرَبَةَ تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جُرْهمَ قوماً على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام. ثم أقام هنالك مَعلَم التوحيد. وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل، وأراد أن يكون مأوى التوحيد، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد. فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلداً آمناً حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوي إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد.
ففرع على ذلك قوله: {فمن تبعني فإنه مني}، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني، فدخل في ذلك أبوه وقومه، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل.
و (من) في قوله: {مِني} اتصالية. وأصلها التبعيض المجازي، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله.
وقوله: {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه. والمعنى ومن عصاني أفوّض أمره إلى رحمتك وغفرانك. وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى. وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم عليه السلام وخشية من استئصال عصاة ذريته. ولذلك متعهم الله قليلاً في الحياة الدنيا، كما أشار إليه قوله تعالى: {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} [سورة البقرة: 126] وقوله: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين} [سورة الزخرف: 27]. وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم عليه السلام.
وإذ كان قوله: {فإنك غفور رحيم} تفويضاً لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن ذكر ضلال الأوثان على لسان إبراهيم عليه السلام، وهم يتشرفون بنسبتهم إليه وهو باني الحرم الشريف المقدس، فيه بيان أنه برئ منهم ما داموا يعبدون الأوثان؛ ولذا قال عليه السلام في دعائه: {فمن تبعني فإنه مني} ملة إبراهيم هي التوحيد... فمن تبعه في ملته فإنه منه، ومفهوم هذا أن من لم يتبعه في التوحيد، وعبَد الأوثان فليس منه؛ لأن اشتراط كونه موحدا ليكون منه، فيه بيان لئن لم يتبعه لا يكون منه، بل هو برئ منه، كما تبرأ من أبيه، وكما تبرأ من قومه إذ قال: {إني بريء مما تشركون} [الأنعام 78]...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} ممن كانوا لا يملكون الوعي المنفتح على حقائق الحياة، ولا يدققون في الأفكار المطروحة عليهم، فلا يلتفتون إلى الخرافة وهي تتحرك في هذه الفكرة أو تلك، تضخيماً لبعض الأشخاص أو الظواهر أو الأشياء، وغير ذلك من أساليب التضليل الفكري والروحي والشعوري، الذي يُخضِع الإنسان لمؤثرات داخلية أو خارجية تملك عليه كيانه وتتوه به. وهكذا كانت هذه الأصنام مصدر ضلال للكثيرين من الناس، من خلال الفكرة الضالّة التي أريد لها أن تحكم صورتها.. فإن الصنمية فكرة يحركها الوهم والخيال لا الواقع، وقد تكون المشكلة فيها أنّها تفصل إحساس الإنسان بالشيء عن واقع ذاك الشيء شكلاً ومضموناً، بحيث يضخم الإحساس من حجم صورته إلى درجة تفقد الإنسان التوازن في التعامل معه. ولعل من أفضل أساليب مواجهة الصنمية، العمل على تعرية موضوعاتها من كل التهاويل التي أحاطت بها، والأسرار التي أثيرت فيها، والمشاعر التي تحركت حولها، ليعرفها الناس بحجمها العادي، تماماً كأي شخص آخر، وكأيّ حجر آخر، أو أيّة ظاهرةٍ أخرى، وذلك بالأسلوب الحكيم الذي يعرف كيف يواجه الخرافة، بالمنطق العقلي الهادئ البعيد عن عنصر الإثارة الانفعالية.
{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، من هؤلاء المؤمنين الواعين الذين يدرسون الوقائع من موقع خصائصها الحقيقيّة التي تكشف أن الله هو خالق كل شيء، وأن كل من عداه في الكون مخلوق له، وأن بين حقيقة الخالق والمخلوق فرقاً شاسعاً لا مجال معه لمنح المخلوق صفة الخالق، ولا النزول بالخالق إلى مستوى المخلوق، وأن الضعف أمام مثل هذه الأضاليل لا يبرر الانحراف، ولا يمثل حجّة أمام الله، بل لا بد للإنسان من أن يأخذ بأسباب القوّة المتوفرة بكثرة لاكتشاف الحقيقة، واتباع دعوة الأنبياء في توحيد الله في كل شيءٍ، والاندماج الروحي بهم، من خلال الالتزام الكامل بدعوتهم.
{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، لأن المسألة لا تتعلق بالجانب الذاتي ليعود الأمر إليّ كشخص، بل تتعلق بالجانب الرسالي المتصل بالله. وبذلك فإن المسألة تعود إلى الله، فهو الذي يملك عقابهم على معصيتهم له وابتعادهم عن خط طاعته، وهو الذي يملك المغفرة والرحمة لهم، إما بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ليملكوا الرحمة من خلال أسبابها، وإما بالتفضُّل عليهم بها تبعاً لمقتضيات الحكمة. وإذا كان الله قد تحدث في القرآن أنه لا يغفر لمن يشرك به، فإن ذلك لا يعني استحالة ذلك منه، كما لا يعني أن طلب إبراهيم ذلك منه يمثل انحرافاً، لأنه خاطب الله بإرجاع الأمر إليه، من موقع القلب المفتوح المتسامح الذي تنفتح فيه الروح النبويّة على الحياة كلها وعلى الآخرين بكل رحابةٍ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لأنّه (عليه السلام) كان يعلم حجم البلاء الكبير الكامن في عبادة الأصنام، ويعلم كثرة الذين ذهبوا ضحيّةً في هذا الطريق (ربّ إنّهنّ أضللن كثيراً من الناس) فأيّ ضلال أكبر من هذا الضلال الذي يفقد الإنسان فيه حتّى عقله وحكمته. إلهي انّني أدعو إلى توحيدك، وأدعو الجميع إلى عبادتك (فمن تبعني فإنّه منّي ومن عصاني فإنّك غفور رحيم). في الحقيقة إنّ إبراهيم (عليه السلام) أراد بهذه العبارة أن يقول لله تعالى: إنّه حتّى لو انحرف أبنائي عن مسيرة التوحيد واتّجهوا إلى عبادة الأصنام فإنّهم ليسوا منّي، ولو كان غيرهم في مسيرة التوحيد فهم أبنائي وإخواني...