يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية ، والقوة في أمره ، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان ، ونهاهم عن الفرار إذا التقى الزحفان ، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أي : في صف القتال ، وتزاحف الرجال ، واقتراب بعضهم من بعض ، فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ بل اثبتوا لقتالهم ، واصبروا على جلادهم ، فإن في ذلك نصرة لدين اللّه ، وقوة لقلوب المؤمنين ، وإرهابا للكافرين .
وبعد أن بين - سبحانه - بعض البشارات والنعم التي ساقها للمؤمنين الذين اشتكروا في بدر . وجه - سبحانه - نداء إليهم أمرهم فيه بالثبات في وجوه أعدائهم ، وذكرهم بجانب من مننه عليهم .
فقال - تعالى - : { يَآأَيُّهَا الذين . . . مَعَ المؤمنين } .
قوله - سبحانه - { زَحْفاً } : مصدر زخف وأصله للصبى ، وهو ان يزحف على إسته قبل أن يمشى . ثم أطلق على الجيش الكثيف المتوجه لعدوه لأنه لكثرته وتكاتفه يرى كأن جسم واحد يزحف ببطء وإن كان سريع السير .
قال الجمل : وفى المصباح : زحف القوم زحفا وزحوفا . ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر والجمع زحوف مثل فلس وفلوس . ونصب قوله : { زَحْفاً } على أنه حال من المفعول وهو { الذين كَفَرُواْ } أي إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين نحوكم .
والأدبار : جمع دبر - بضمتين - وهو الخلف ، ومقابله القبل وهو الأمام ، ويطلق لفظ الدبر على الظهر وهو المراد هنا .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا { إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } زاحفين نحوكم لقتالكم { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } أى . فلا تفروا منهم ، ولا تولوهم ظهوركم منهزمين ، بل قابلوهم بقوة وغلظة وشجاعة ، فإن من شأن المؤمن أن يكون شجاعا لا جبانا ، ومقبلا غير مدبر .
فالمراد من تولية الأدبار : الانهزام ، لأن المنهزم يولى ظهره وقفاه لمن انهزم منه . وعدل من لفظ الظهور إلى الأدبار ، تقبيحا للانهزام ، وتنفيرا منه ، لأن القبل والدبر يكنى بهما عن السوءتين .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا( زحفاً ) أي متدانين متقاربين متواجهين ؛ فلا تفروا عنهم ، إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب ، حيث تختارون موقعاً أحسن ، أو تدبرون خطة أحكم ؛ أو أن يكون ذلك انضماماً إلى فئة أخرى من المسلمين ، أو إلى قواعد المسلمين ، لتعاودوا القتال . . وأن من تولى ، وأعطى العدو دبره يوم الزحف فقد استحق ذلك العقاب : غضباً من الله ومأوى في جهنم . .
وقد وردت بعض الأقوال في اعتبار هذا الحكم خاصاً بأهل بدر ، أو بالقتال الذي يكون رسول الله [ ص ] حاضره . ولكن الجمهور على أنها عامة ، وأن التولي يوم الزحف كبيرة من السبع الموبقات . كما روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - [ ص ] : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل : يا رسول الله وما هن ? قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " . .
وقد أورد الجصاص في " أحكام القرآن " تفصيلا لا بأس من الإلمام به قال :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } كثيرا بحيث يرى لكثرتهم كأنهم يزحفون ، وهو مصدر زحف الصبي إذا دب على مقعده قليلا قليلا ، سمي به وجمع على زحوف وانتصابه على الحال . { فلا تولّوهم الأدبار } بالانهزام فضلا أن يكونوا مثلكم أو أقل منكم ، والأظهر أنها محكمة مخصوصة بقوله : { حرض المؤمنين على القتال } الآية ، ويجوز أن ينتصب زحفا حالا من الفاعل والمفعول أي : إذا لقيتموهم متزحفين يدبون إليكم وتدبون إليهم فلا تنهزموا ، أو من الفاعل وحده ويكون إشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم اثنا عشر ألفا .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } الآية ، { زحفاً } يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص ، أي يزحف بعضهم إلى بعض ، وأصل الزحف الاندفاع على الألية{[5255]} ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويداً زاحفاً ، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف ، ومن الزحف الذي هو الاندفاع قولهم لنار العرفج{[5256]} وما جرى مجراه في سرعة الاتقاد نار الزحفتين{[5257]} ومن التباطؤ في المشي قول الشاعر : [ البسيط ]
كأنهنَّ بأيدي القومِ في كَبدٍ*** طير تكشف عن جون مزاحيف{[5258]}
على عمائمنا تُلقى وأرجلنا*** على مزاحيف تزجى مخها رير{[5259]}
ومنه قول الآخر [ الأعشى ] : [ الطويل ]
لمن الظعائن سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5260]}
ومن التزحف بمعنى التدافع قول الهذلي : [ الوافر ]
كأن مزاحف الحيّات فيه*** قبيل الصبح آثار السباط{[5261]}