إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ} (15)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } خطابٌ للمؤمنين بحكم كليَ جارٍ فيما سيقع من الوقائع والحروبِ جيءَ به في تضاعيف القصةِ إظهاراً للاعتناء بشأنه ومبالغةً في حثهم على المحافظة عليه { إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } الزحفُ الدبيبُ يقال : زحَف الصبيُّ زحفاً إذا دبّ على استه قليلاً قليلاً ، سُمّي به الجيشُ الداهُم المتوجِّهُ إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفِه يُرى كأنه يزحَف وذلك لأن الكلَّ يرى كجسم واحدٍ متصلٍ فيُحَسُّ حركتُه بالقياس إليه في غاية البُطء وإن كانت في نفس الأمر على غاية السرعة قال قائلهم : [ الطويل ]

وأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنهم *** وُقوفٌ لِجاجٌ والركابُ تُهملَج{[321]}

ونصبُه إما على أنه إما حالٌ من مفعول لقِيتم أي زاحفين نحوَكم وإما على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مضمرٍ هو الحالُ منه أي يزحَفون زحفاً ، وأما كونُه حالاً من فاعله أو منه ومن مفعوله معاً كما قيل فيأباه قوله تعالى : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابقِ إلى العدو أو بكثرتهم بل توجُّهُ العدوِّ إليهم وكثرتُهم هو الداعي إلى الإدبار عادةً والمُحوِجُ إلى النهي عنه ، وحملُه على الإشعار بما سيكون منهم يومَ حُنينٍ حيث تَوَلَّوا مدْبرين وهم زحفٌ من الزحوف اثنا عشر ألفاً بعيدٌ ، والمعنى إذ لقِيتموهم للقتال وهم كثيرٌ جمٌّ وأنتم قليلٌ فلا تولوهم أدبارَكم فضلاً عن الفرار بل قابلوهم وقاتِلوهم مع قلتكم فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم .


[321]:لم نقف على نسبة البيت، والأرعن: الجيش المضطرب لكثرته، وقد شبه بالطود أي الجبل. وهملجت الدابة: سارت سيرا حسنا في سرعة.