المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ} (15)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } الآية ، { زحفاً } يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص ، أي يزحف بعضهم إلى بعض ، وأصل الزحف الاندفاع على الألية{[5255]} ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويداً زاحفاً ، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف ، ومن الزحف الذي هو الاندفاع قولهم لنار العرفج{[5256]} وما جرى مجراه في سرعة الاتقاد نار الزحفتين{[5257]} ومن التباطؤ في المشي قول الشاعر : [ البسيط ]

كأنهنَّ بأيدي القومِ في كَبدٍ*** طير تكشف عن جون مزاحيف{[5258]}

ومنه قول الفرزدق : [ البسيط ]

على عمائمنا تُلقى وأرجلنا*** على مزاحيف تزجى مخها رير{[5259]}

ومنه قول الآخر [ الأعشى ] : [ الطويل ]

لمن الظعائن سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5260]}

ومن التزحف بمعنى التدافع قول الهذلي : [ الوافر ]

كأن مزاحف الحيّات فيه*** قبيل الصبح آثار السباط{[5261]}


[5255]:- الألية: العجيزة أو ما ركبها من شحم ولحم. قال الأزهري: "وأصل الزحف للصبي وهو أن يزحف على إسته قبل أن يقوم، وإذا فعل ذلك على بطنه قيل: قد حبا، وشُبّه بزحف الصبيان مشي الفئتين تلتقيان للقتال"
[5256]:- العَرْفَج: شجر أو ضرب من النبات سريع الاتقاد، واحدته بهاء، وقال أبو زياد: العَرْفج طيّب الرائحة أغبر إلى خُضرة وله زهرة صفراء وليس له حب ولا شوك، وقال أبو حنيفة: أخبرني بعض الأعراب أن العرفجة أصلها واسع تنبت لها قضبان كثيرة بقدر = الأصل، وليس لها ورق، إنما هي عيدان دقاق وفي أطرافها َزَمع يظهر في رؤوسها شيء كالشعر أصفر، والإبل والغنم تأكله رطبا ويابسا، ولهبه شديد الحُمرة، ويقال: كأن لحيته ضرام عرفجة. (راجع تاج العروس-عرج).
[5257]:- جاء في التاج: "قال الأزهري: ونار العرفج يُسميها العرب نار الزحفتين، لأن الذي يوقدها يزحف إليها، فإذا اتقدت زحف عنها." ونقل في اللسان عن ابن بري: وتُسمّى ناره نار الزحفتين لأنه يسرع الالتهاب فيزحف عنه، ثم لا يلبث أن يخبو فيُزحف إليه، وأنشد أبو العميثل: وسوداء المعاصم لم يغادر لها كفلا صلاء الزحفتين
[5258]:- البيت لأبي زبيد، وقد ذكر حفر قبر عثمان رضي الله عنه وكانوا قد حفروا له في الحرّة فشبّه المساحي التي يضرب بها في الأرض بطير عائفة على إبل سود قد اسودت من العرق بها دبر، وشبّه سواد الحرّة بالإبل السود، ورواية البيت كما قال ابن بري: "طير تعيف على" بدلا من: "طير تكشف عن". وقد روى البيت بألفاظ أخرى ذكرها صاحب اللسان وهي: حتى كأن مساحي القوم فوقهم طير تحوم على جوق مزاحيف.
[5259]:- قبل هذا البيت يقول الفرزدق: مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور ورواية البيت في الديوان وفي اللسان كما ذكرها ابن عطية هنا: (على زواحف نُزجيها محاسير)، وقد قال شارع الديوان: "الرواية المشهورة: (تُزجى مُخّها رير)، ولحّنه ابن =معدان وقال: أسأت. الموضع موضع رفع، وإن رفعت أقويت، وألحّ الناس على الفرزدق في ذلك فقلبها فقال: (نُزجيها محاسير)، قال التاريخي: ثم ترك الرواة هذا ورجعوا إلى القول الأول". ومعنى رير: رقيق، يقال: أرار الله مُخّه أي: جعله رقيقا، قال الراجز: *والساق مني باديات الرير* أي: أنا ظاهر الهزال، لأنه دق عظمه ورقّ جلده فظهر مُخّه. (راجع اللسان). وفي كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة أن عبد الله بن أبي إسحاق النحوي قال: إن الفرزدق لحن في قوله: (تزجى مخّها رير) فبلغ ذلك الفرزدق فقال: أما وجد هذا لبيتي مخرجا في العربية؟ أما إني لو أشاء لقلت: (على زواحف نُزجيها محاسير)، ولكنني والله لا أقوله ولكن هكذا رواه اللغويون، وأصحاب المعاجم ورواة الديوان.
[5260]:- نسبه في "البحر المحيط" للأعشى، وتمامه كما ذكره: .................... منك السفين إذا تقاعس تجرف والظعائن: جمع ظعينة وهي المرأة تكون في الهودج، ثم كثر ذلك حتى سموا زوجة الرجل ظعينة، والظعن: سير البادية لنجدة أو طلب ماء. ورواية (التاج) لهذا البيت في شطره الثاني: ................... عوم السفين إذا تقاعس يحذف
[5261]:- قال المتنخل الهزلي هذا البيت يصف منهلا، وقد ذكره الجوهري بلفظ: كأن مزاحف الحيات فيها ................. وخطأه في اللسان، وقال: الصواب (فيه) كما ذكرناه، وقد ذكره مع بيت قبله هكذا: شربت بجمه وصدرت عنه وأبيض صارم ذكر إباطي كأن مزاحف الحيّات فيه قبيل الصبح آثار السياط. والجم: الماء إذا تراجع وكثر في البئر بعد الأخذ منه. ومعنى قوله إباطي: تحت إبطي، قال السيرافي: أصله: إباطي فخفف ياء النسب، وعلى هذا يكون صفة لصارم، وهو منسوب إلى الإبط.