فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ} (15)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفوا زحفا } الزحف الدنو قليلا وأصله الاندفاع على الآلية ثم سمى كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفا ، والتزاحف التداني والتقارب ، يقال زحف على العدو زحفا وازدحف تسمية بالمصدر والجمع زحوف ، أي حال كونكم زاحفين إلى الكفار أو حال كون الكفار زاحفين إليكم أو متزاحفين على أدبارهم في بطء السير ، وذلك لأن الجيش إذا كثر والتحم بعضهم ببعض يتراءى أن سيره بطيئ وإن كان في نفس الأمر سريعا فالمقصود من هذه الحال بعد كون المراد التشبيه ما يلزم هذه المشابهة وهو الكثرة أي مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون .

{ فلا تولوهم الأدبار } أي ظهوركم منهزمين منهم ، فإن المنهزم يولي ظهره ودبره . نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم وقد دب بعضهم إلى بعض للقتال وظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا في حالة التحريف والتحيز .

وقد روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد بن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر ، وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا ، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض ، وبه قال أبو حنيفة ، قالوا ويؤيده قوله : { ومن يولهم يومئذ دبره } فإنه إشارة إلى يوم بدر ، وقيل أن هذه الآية منسوخة بآية الضعف .

وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة وأن الفرار من الزحف محرم ، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر وأجيب عن قول الأولين بأن الإشارة في { يومئذ } إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق

ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف بل هذه الآية مقيدة بها فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله في آية الضعف .

ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال .

ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث : ( اجتنبوا السبع الموبقات وفيه " والتوالي يوم الزحف " ) ونحوه من الأحاديث ، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه وهو مبين في مواطنه ، وورد عن جماعة من الصحابة أن التولي يوم الزحف من الكبائر .

قال ابن عطية : والأدبار جمع دبر ، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفار والذم له .

قلت ويطلق الدبر على مقابل القبل وعلى الظهر وهو المراد هنا ، والمقصود ملزوم تولية الظهر وهو الانهزام ، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالة تستهجن من فاعلها فأتى بلفظ الدبر دون الظهر لذلك ، وبعض أهل علم البيان يسمي هذا النوع كناية وليس بشيء .