قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } الآية .
أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وذلك النّاصب له في محلِّ نصب على الحال ، والتقديرُ : إذا لقيتُمُ الذين كَفَرُوا زَاحِفينَ زَحْفاً أو يَزْحَفُونَ زحفاً .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ، ثُمَّ اختلفوا في صاحب الحال ، فقيل : الفاعلُ أي وأنتم زَحْفٌ من الزُّحوفِ ، أي : جماعة ، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً ، على حسب ما يُفَسَّر به الزَّحْف ، وسيأتي .
وقيل : هو المفعول ، أي : وَهُمْ جَمٌّ كثير ، أو يمشون إليكم .
وقيل : هي حالٌ منهما ، أي : لقيتموهم مُتزاحفين بعضكم إلى بعض ، والزَّحْفُ الدُّنو قليلاً قليلاً ، يقال : زَحَفَ يَزْحَفُ إليه بالفتح فيها فهو زَاحفٌ زَحْفاً ، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحَفَ وأزْحَفَ لنا عَدُوُّنَا ، أي : دَنَوا لقتالنا .
وقال اللَّيْثُ : الزَّحْفُ : الجماعةُ يمشون إلى عدوِّهم ؛ قال الأعشى : [ الكامل ]
لِمَنْ الظَّعَائنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ *** مِثْلَ السَّفينِ إذَا تَقَاذَفُ تَجْدِفُ{[17217]}
وهذا من باب إطلاق المصدر على العين ، والزَّحْفُ : الدَّبيب أيضاً ، مِنْ زَحَفَ الصبيُّ قال امرؤُ القيس : [ المتقارب ]
فَزَحْفاً أتَيْتُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ *** فَثَوْباً لَبِسْتُ وثَوْباً أجُرّ{[17218]}
\\ويجوزُ جمعُهُ على : زُحُوف ومَزَاحِف ، لاختلافِ النوع ؛ قال الهذليُّ : [ الوافر ]
كَأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فِيهِ *** قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ{[17219]}
ومَزاحِف : جمع " مَزْحف " اسم المصدر .
قوله : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } مفعول : " تولُّوهم " الثَّاني هو " الأدْبار " ، وكذا " دُبُره " مفعول ثان ل : " يُولِّهِمْ " وقرأ{[17220]} الحسن : بالسُّكونِ كقولهم : عُنْق في عُنُق ، وهذا من باب التَّعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ من فاعلها ؛ فأتى بلفظ الدُّبُر دُونَ الظَّهر لذلك ، وبعضهم من أهل علم البيان سمَّى هذا النوع كنايةً ، وليس بشيء .
قوله : " إلاَّ مُتَحرفاً " في نصبه وجهان :
والثاني : أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري .
فقال : " فإن قلت : بِمَ انتصبَ : " إلاَّ مُتَحرِّفاً " ؟ قلتُ : على الحالِ و " إلاَّ " لغوٌ ، أو على الاستثناءِ من المُولِّين : أي ومنْ يُولِّهم إلا رجلاً منهم مُتَحرفاً أو مُتَحيزاً " .
قال أبُو حيان{[17221]} : " لا يريدُ بقوله " إلاَّ " لغوٌ أنَّها زائدةٌ ، إنَّما يريد أنَّ العامل وهو : " يُولِّهِمْ " وصل لِمَا بعدها كقولهم في " لا " من قولهم : جئت بلا زاد - إنَّها لغوٌ . وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوف والتقدير : ومَنْ يُولِّهِم ملتبساً بأية حال إلاَّ من حال كذا ، وإن لم تُقدَّرُ حالٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ " إلاَّ " لأن الشَّرط عندهم واجبٌ ، والواجبُ حكمُهُ ألاَّ تدخل " إلاَّ " فيه لا في المفعول ، ولا في غيره من الفضلات ، لأنه استثناء مُفرغ ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب ، إنَّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤوَّل " .
قال شهابُ الدِّينِ{[17222]} : " قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات ، لا حاجة إليه لأنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً ، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما " .
وقال ابنُ عطيَّة{[17223]} : " وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم " مَنْ " فجعل نصبه على الاستثناء " .
وقال جماعةٌ : إنَّ الاستثناءَ من أنوع التولِّي ، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ : إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً ، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ : الانضمامُ ، وتحوَّزت الحيَّة : انطوَتْ ، وحُزْتُ الشَّيء : ضَمَمْتُهُ ، والحَوْزَةُ : ما يَضُمُّ الأشياء ، ووزنُ " متحيَّز " " مُتَفَيعِل " والأصل " مُتَحيْوِز " فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت في الباء بعدها ، ك : مَيِّت ، ولا يجوزُ أن يكون : " مُتفَعِّلاً " ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان " متحوِّزاً " ، فأمَّا متحوِّز ف " متفعِّل " .
معنى الآية : إذا ذهبتم للقتال ، فلا تولوهم الأدْبَارَ : أي لا تنهزموا ، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين :
إحداهما : أن يكون مُتحَرّفاً للقتال ، أي : أنه يجعل تحرفه أنه منهزم ، ثم ينعطف عليه ، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها . يقال : تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء . والثانية : قوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم ، والفئة الجماعةُ ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً ، وفي الكفار كثرة ، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة ، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال ، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً .والحاصل أن الانهزام من العدو حرام ، إلاَّ في هاتين الحالتين ، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.