اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ} (15)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } الآية .

في " زَحْفاً " وجهان :

أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وذلك النّاصب له في محلِّ نصب على الحال ، والتقديرُ : إذا لقيتُمُ الذين كَفَرُوا زَاحِفينَ زَحْفاً أو يَزْحَفُونَ زحفاً .

والثاني : أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ، ثُمَّ اختلفوا في صاحب الحال ، فقيل : الفاعلُ أي وأنتم زَحْفٌ من الزُّحوفِ ، أي : جماعة ، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً ، على حسب ما يُفَسَّر به الزَّحْف ، وسيأتي .

وقيل : هو المفعول ، أي : وَهُمْ جَمٌّ كثير ، أو يمشون إليكم .

وقيل : هي حالٌ منهما ، أي : لقيتموهم مُتزاحفين بعضكم إلى بعض ، والزَّحْفُ الدُّنو قليلاً قليلاً ، يقال : زَحَفَ يَزْحَفُ إليه بالفتح فيها فهو زَاحفٌ زَحْفاً ، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحَفَ وأزْحَفَ لنا عَدُوُّنَا ، أي : دَنَوا لقتالنا .

وقال اللَّيْثُ : الزَّحْفُ : الجماعةُ يمشون إلى عدوِّهم ؛ قال الأعشى : [ الكامل ]

لِمَنْ الظَّعَائنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ *** مِثْلَ السَّفينِ إذَا تَقَاذَفُ تَجْدِفُ{[17217]}

وهذا من باب إطلاق المصدر على العين ، والزَّحْفُ : الدَّبيب أيضاً ، مِنْ زَحَفَ الصبيُّ قال امرؤُ القيس : [ المتقارب ]

فَزَحْفاً أتَيْتُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ *** فَثَوْباً لَبِسْتُ وثَوْباً أجُرّ{[17218]}

\\ويجوزُ جمعُهُ على : زُحُوف ومَزَاحِف ، لاختلافِ النوع ؛ قال الهذليُّ : [ الوافر ]

كَأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فِيهِ *** قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ{[17219]}

ومَزاحِف : جمع " مَزْحف " اسم المصدر .

قوله : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } مفعول : " تولُّوهم " الثَّاني هو " الأدْبار " ، وكذا " دُبُره " مفعول ثان ل : " يُولِّهِمْ " وقرأ{[17220]} الحسن : بالسُّكونِ كقولهم : عُنْق في عُنُق ، وهذا من باب التَّعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ من فاعلها ؛ فأتى بلفظ الدُّبُر دُونَ الظَّهر لذلك ، وبعضهم من أهل علم البيان سمَّى هذا النوع كنايةً ، وليس بشيء .

قوله : " إلاَّ مُتَحرفاً " في نصبه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ حال .

والثاني : أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري .

فقال : " فإن قلت : بِمَ انتصبَ : " إلاَّ مُتَحرِّفاً " ؟ قلتُ : على الحالِ و " إلاَّ " لغوٌ ، أو على الاستثناءِ من المُولِّين : أي ومنْ يُولِّهم إلا رجلاً منهم مُتَحرفاً أو مُتَحيزاً " .

قال أبُو حيان{[17221]} : " لا يريدُ بقوله " إلاَّ " لغوٌ أنَّها زائدةٌ ، إنَّما يريد أنَّ العامل وهو : " يُولِّهِمْ " وصل لِمَا بعدها كقولهم في " لا " من قولهم : جئت بلا زاد - إنَّها لغوٌ . وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوف والتقدير : ومَنْ يُولِّهِم ملتبساً بأية حال إلاَّ من حال كذا ، وإن لم تُقدَّرُ حالٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ " إلاَّ " لأن الشَّرط عندهم واجبٌ ، والواجبُ حكمُهُ ألاَّ تدخل " إلاَّ " فيه لا في المفعول ، ولا في غيره من الفضلات ، لأنه استثناء مُفرغ ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب ، إنَّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤوَّل " .

قال شهابُ الدِّينِ{[17222]} : " قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات ، لا حاجة إليه لأنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً ، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما " .

وقال ابنُ عطيَّة{[17223]} : " وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم " مَنْ " فجعل نصبه على الاستثناء " .

وقال جماعةٌ : إنَّ الاستثناءَ من أنوع التولِّي ، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ : إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً ، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ : الانضمامُ ، وتحوَّزت الحيَّة : انطوَتْ ، وحُزْتُ الشَّيء : ضَمَمْتُهُ ، والحَوْزَةُ : ما يَضُمُّ الأشياء ، ووزنُ " متحيَّز " " مُتَفَيعِل " والأصل " مُتَحيْوِز " فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت في الباء بعدها ، ك : مَيِّت ، ولا يجوزُ أن يكون : " مُتفَعِّلاً " ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان " متحوِّزاً " ، فأمَّا متحوِّز ف " متفعِّل " .

فصل

معنى الآية : إذا ذهبتم للقتال ، فلا تولوهم الأدْبَارَ : أي لا تنهزموا ، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين :

إحداهما : أن يكون مُتحَرّفاً للقتال ، أي : أنه يجعل تحرفه أنه منهزم ، ثم ينعطف عليه ، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها . يقال : تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء . والثانية : قوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم ، والفئة الجماعةُ ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً ، وفي الكفار كثرة ، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة ، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال ، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً .والحاصل أن الانهزام من العدو حرام ، إلاَّ في هاتين الحالتين ، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة


[17217]:البيت نسبه صاحب البحر للأعشى كما ذكره المصنف وليس في ديوانه ونسب لأبي حفص وغيره. ينظر: زاد المسير 3/7331 البحر المحيط 4/48، والدر المصون 3/407.
[17218]:تقدم.
[17219]:ينظر: البيت في ديوان الهذليين 2/25 والبحر 4/468، واللسان (زحف) وشرح أشعار الهذليين 3/1273، والدر المصون 3/407.
[17220]:ينظر: المحرر الوجيز 2/50، البحر المحيط 4/470.
[17221]:ينظر: البحر المحيط 4/470.
[17222]:ينظر: الدر المصون 3/408.
[17223]:ينظر: المحرر الوجيز 2/510.