مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ} (15)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الأزهري : أصل الزحف للصبي ، وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم ، وشبه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال ، فيمشي كل فئة مشيا رويدا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضرب . قال ثعلب : الزحف المشي قليلا قليلا إلى الشيء ، ومنه الزحاف في الشعر يسقط مما بين حرفين . حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : { إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } أي متزاحفين نصب على الحال ، ويجوز أن يكون حالا للكفار ، ويجوز أن يكون حالا للمخاطبين وهم المؤمنون ، والزحف مصدر موصوف به كالعدل والرضا ، ولذلك لم يجمع ، والمعنى : إذا ذهبتم إليهم للقتال ، فلا تنهزموا ، ومعنى { فلا تولوهم الأدبار } أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم . ثم إنه تعالى لما نهى عن هذا الانهزام بين أن هذا الانهزام محرم . إلا في حالتين : إحداهما : أن يكون متحرفا للقتال ، والمراد منه أن يخيل إلى عدوه أنه منهزم . ثم ينعطف عليه ، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها ، يقال : تحرف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء . والثانية : قوله : { أو متحيزا إلى فئة } قال أبو عبيدة : التحيز التنحي وفيه لغتان : التحيز والتحوز . قال الواحدي : وأصل هذا الحوز ، وهو الجمع . يقال : حزته فانحاز وتحوز وتحيز إذا انضم واجتمع ، ثم سمى التنحي تحيزا ، لأن المتنحي عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره .

إذا عرفت هذا فنقول : الفئة الجماعة ، فإذا كان هذا المتحيز كالمنفرد ، وفي الكفار كثرة ، وغلب على ظن ذلك المنفرد أنه إن ثبت قتل من غير فائدة ، وإن تحيز إلى جمع كان راجيا للخلاص ، وطامعا في العدو بالكثرة ، فربما وجب عليه التحيز إلى هذه الفئة فضلا عن أن يكون ذلك جائزا والحاصل أن الانهزام من العدو حرام . إلا في هاتين الحالتين .