البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ} (15)

قال الليث : الجماعة يمشون إلى عدوهم هو الزحف .

قال الأعشى :

لمن الظعائن سيرهن تزحف *** منك السفين إذا تقاعس تجرف

وقال الفرّاء : الزحف الدّنو قليلاً يقال زحف إليه يزحف زحفاً إذا مشى ، وأزحفت القوم دنوت لقتالهم وكذلك تزحف وتزاحف وازحف لنا عدونا ازحافاً صاروا يزحفون لقتالنا فازدجف القوم ازدحافاً مشى بعضهم إلى بعض ، وقال ثعلب ومنه الزّحاف في الشعر وهو أن يسقط من الحرفين حرف ويزحف أحدهما إلى الآخر وسُمّي الجيش العرمرم بالزحف لكثرته كأنه يزحف إليّ يدبّ دبيباً من زحف الصبي إذا دبّ على إليته قليلاً قليلاً وأصله مصدر زحف وقد جمع أزحف على زحوف .

وقال الهذليّ يصف منهلاً :

كان مزاحف الحيّات فيه *** قبيل الصبح آثار السّياط

{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرّعب في قلوب الكفار وأمر من آمن بضرب فوق أعناقهم وبنانهم حرضهم على الصير عند مكافحة العدوّ ونهاهم عن الانهزام وانتصب { زحفاً } على الحال ، فقيل من المفعول أي لقيتموهم وهم جمع كثير وأنتم قليل فلا تفرّوا فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، وقيل من الفاعل أي وأنتم زحف من الزحوف وكان ذلك إشعاراً بما سيكون منهم يوم حنين حين انهزاموا وهم اثنا عشر ألفاً بعد أن نهاهم عن الفرار يومئذ ، وقيل حال من الفاعل والمفعول أي متزاحفين ولم يذكر ابن عطية إلا ما يدل على أنه خال منهما قال { زحفاً } يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص أي يزحف بعضهم إلى بعض .

وقيل انتصب { زحفاً } على المصدر بحال محذوفة أي زاحفين زحفاً وهذا الذي قيل محكم فحرم الفرار عند اللقاء بكلّ حال .

وقيل كان هذا في الابتداء الإسلام حيث كان الأمر بالمصابرة أن يواقف مسلم عشرة كفار ثم خفّف فجعل واحد في مقابلة اثنين ويأتي حكم المؤمنة الفارّة من ضعفها في آية التخفيف وعدل عن الظهور إلى لفظ { الأدبار } تقبيحاً لفعل الفار وتبشيعاً لانهزامه وتضمّن هذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة .