{ 54 } { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا }
أي : وهو الله وحده لا شريك له الذي خلق الآدمي من ماء مهين ، ثم نشر منه ذرية كثيرة وجعلهم أنسابا وأصهارا متفرقين ومجتمعين ، والمادة كلها من ذلك الماء المهين ، فهذا يدل على كمال اقتداره لقوله : { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } ويدل على أن عبادته هي الحق وعبادة غيره باطلة لقوله : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا }
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله - تعالى - فى الظل وفى الرياح وفى الماء . . جاء الحديث عن خلق الإنسان . فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً . . . } .
والمراد بالماء : ماء النطفة ، وبالبشر الإنسان . أو المراد بالماء ، الماء المطلق الذى أشار إليه سبحانه فى قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أى : وهو - سبحانه - الذى خلق من ماء النطفة إنسانا " فجعله نسبا وصهرا " أى : فجعل من جنس هذا الإنسان ذوى نسب : وهم الذكور الذين ينتسب إليهم بأن يقال فلان بن فلان ، كما جعل من جنسة - أيضا ذوات صِهْرٍ وهن الإناث ، لأنهن موضع المصاهرة .
والصهر يطلق على أهل بيت المرأة وأقاربها ، كالأبوين والإخوة والأعام والأخوال ، فهؤلاء يعتبرون أصهارا لزوج المرأة .
قال صاحب الكشاف : قسم - سبحانه - البشر قسمين : ذوى نسب ، أى : ذكورا ينسب إليهم فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر : أى : إناثا يُصَاهَر بهن ونحوه قوله - تعالى - : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } حيث خلق - سبحانه - من النطفة الواحدة بشرا نوعين : ذكرا وأنثى .
وإلى هنا نرى هذه الآية الكريمة قد اشتملت على ستة أدلة محسوسة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته . وهذه الأدلة الستة هى . الظلال قبضا وبسطا ، والليل والنهار راحة ونشورا ، والرياح بشرا بين يدى رحمته ، والأمطار حياة للناس والأنعام وغيرهما ، ومرج البحرين أحدهما عذب فران والآخر ملح أجاج ، وخلق الإنسان من نطفة منها الذكر ومنها الأنثى .
ومن ماء السماء وماء البحر والنهر إلى ماء النطفة الذي تنشأ منه الحياة البشرية المباشرة :
( وهو الذي خلق من الماء بشرا ، فجعله نسبا وصهرا ، وكان ربك قديرا ) . .
فمن هذا الماء يتخلق الجنين : ذكرا فهو نسب ، وأنثى فهو صهر ، بما أنها موضع للصهر .
وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء . فمن خلية واحدة [ من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل ] تتحد ببويضة المرأة في الرحم ، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب . . الإنسان . . أعجب الكائنات الحية على الإطلاق !
ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة ، لا يدرك البشر سرها ، ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها . فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكرا أو أنثى ، وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه الميزات . . ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلا ، وهذه إلى أن تكون امرأة ، في نهاية المطاف ! ( وكان ربك قديرا ) . . وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب !
ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان ، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة ، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله ، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين ، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة .
وهذه لمحات من كتاب : " الإنسان لا يقوم وحده " عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة :
" كل خلية ذكرا أو أنثى . تحتوى على كروموزومات وجينات [ وحدات الوراثة ] والكروموزومة تكون النوية [ نواة صغيرة ] المعتمة التي تحتوى الجينة . والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان . والسيتوبلازم هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين . وتبلغ الجينات [ وحدات الوراثة ] من الدقة أنها - وهي المسؤولة عن المخلوقات البشرية جميعا ، التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها - لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد ، لكان حجمها أقل من حجم " الكستبان " !
" وهذه الجينات الميكرسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات . " والكستبان " الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم . ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها .
" وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة [ البروتوبلازم ] إلى الشبه الجنسي ، إنما يقص تاريخا مسجلا ، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم .
. . . " لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات ، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية . وهي تحفظ التصميم ، وسجل السلف ، والخواص التي لكل شيء حي . وهي تتحكم تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات . تماما كما تقرر الشكل ، والقشر ، والشعر ، والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان " .
وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة ، التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة . ( وكان ربك قديرا ) . .
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } أي : خلق الإنسان من نطفة ضعيفة ، فسواه وعَدّله ، وجعله كامل الخلقة ، ذكراً أو أنثى ، كما يشاء ، { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } ، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ، ثم يتزوج فيصير صهراً ، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات . وكل ذلك من ماء مهين ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } .
وقوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء } الآية ، هو تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم ، والتنبيه على العبرة في ذلك وتعديد النعمة في التواشج الذي جعل بينهم من النسب والصهر ، وقوله { من الماء } إما أن يريد أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء ، وإما أن يريد نطف الرجال وكل ذلك قالته فرقة ، والأول أفصح وأبين ، و «النسب والصهر » معنيان يعمان كل قربى تكون بين كل آدميين ، ف «النسب » هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو في أم قرب ذلك أو بعد ، و «الصهر » تواشج المناكحة ، فقرابة الزوجة هم الأختان{[8850]} ، وقرابة الزوج ثم الأحماء{[8851]} والأصهار يقع عاماً لذلك كله ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «النسب » ما لا يحل نكاحه «والصهر » ما يحل نكاحه وقال الضحاك «الصهر » قرابة الرضاع .
قال القاضي أبو محمد : وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال حرم من النسب سبع ومن الصهر خمس ، وفي رواية أخرى من الصهر سبع يريد قول الله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } [ النساء : 23 ] ، فهذا هو من النسب . ثم يريد ب «الصهر » قوله تعالى : { وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف }{[8852]} [ النساء : 23 ] ، ثم ذكر المحصنات ، ومجمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر مع ما ذكر معه فقصد مما ذكر إلى عظمه وهو الصهر{[8853]} لأن الرضاع صهر وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه ، ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآية الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذواتي الأزواج{[8854]} ، وحكى الزهراوي قولاً أن «النسب » من جهة البنين «والصهر » من جهة البنات .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا حسن وهو في درج ما قدمته ، وقال ابن سيرين نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لأنه جمعه معه نسب وصهر فاجتماعهما وكاد حرمة إلى يوم القيامة . وقوله { وكان ربك قديراً } هي { كان } التي للدوام قبل وبعد لا أنها تعطي مضياً فقط .
مناسبة موقع هذا الاستدلال بعد ما قبله أنه استدلال بدقيق آثار القدرة في تكوين المياه وجعلها سبب حياة مختلفة الأشكال والأوضاع . ومن أعظمها دقائق الماء الذي خلق منه أشرف الأنواع التي على الأرض وهو نطفة الإنسان بأنها سبب تكوين النسل للبشر فإنه يكون أول أمره ماء ثم يتخلّق منه البشر العظيم ، فالتنوين في قوله { بشراً } للتعظيم .
والقصر المستفاد من تعريف الجزءين قصر إفراد لإبطال دعوى شركة الأصنام لله في الإلهية .
والبشر : الإنسان . وقد تقدم في قوله تعالى : { فتمثّل لها بشراً سويًّا } في سورة مريم ( 17 ) . والضمير المنصوب في { فجعله } عائد إلى البشر ، أي فجعل البشر الذي خلقه من الماء نسباً وصهراً ، أي قَسَّم الله البشر قسمين : نسببٍ ، وصهرٍ . فالواو للتقسيم بمعنى ( أو ) والواو أجود من ( أو ) في التقسيم .
و { نسباً وصهراً } مصدران سمي بهما صنفان من القرابة على تقدير : ذا نسب وصهر وشاع ذلك في الكلام .
والنسب لا يخلو من أُبوّة وبُنوّة وأُخُوة لأولئك وبنوةٍ لتلك الأُخوة .
وأما الصهر فهو : اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة ، ويسمى أيضاً مصاهرة لأنه يكون من جهتين ، وهو آصرة اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه ، فصهر الرجل قرابة امرأته ، وصهر المرأة قرابة زوجها ، ولذلك يقال : صاهر فلان فلاناً إذا تزوج من قرابته ولو قرابةً بعيدة كقرابة القبيلة . وهذا لا يخلو عنه البشر المتزوج وغير المتزوج .
ويطلق الصهر على مع له من الآخر علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في موضع الوصف فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل ، وأما قريب زوج المرأة فهو خَتَن لها أو حَمٌ . ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيداً . وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله : { وكان ربك قديراً } ، أي عظيم القدرة إذْ أوجد من هذا الماء خَلْقاً عظيماً صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر ، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى : { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] .
وفي تركيب { وكان ربك قديراً } من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له مُتصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل { كَان } ، وما في صيغة « قدير » من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله الذي خلق من النطف بشرا إنسانا فجعله نسبا، وذلك سبعة، وصهرا، وهو خمسة. كما:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"فجَعَلَهُ نَسَبا وَصِهْرا": النسب: سبع، قوله: "حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ "إلى قوله: "وَبَناتُ الأُخْتِ". والصهر خمس، قوله: "وأُمّهاتُكُمُ اللاّتِي أرْضَعْنَكُمْ "إلى قوله: "وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ".
وقوله: "وكانَ رَبّكَ قَدِيرا" يقول: وربك يا محمد ذو قدرة على خلق ما يشاء من الخلق، وتصريفهم فيما شاء وأراد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهو الذي خلق من الماء بشرا} أي من النطفة. يخبر عن فضله ومننه وقدرته ولطفه، أما لطفه وقدرته ففي خلق البشر من النطفة، ولو اجتمع جميع حكماء البشر على أن يعرفوا، ويدركوا كيفيته، لم يقدروا على ذلك. دل أنه قادر بذاته لطيف، لا يعجزه شيء.
وأما فضله ومننه فما أخبر أنه جعل لهم نسبا وصهرا. أما النسب ففيه يتعارفون، ويتواصلون، وما لولا ذلك ما تعارفوا، ولا تواصلوا. وأما الصهر فلما به يتزاوجون، ويتوالدون، كقوله: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} [النحل: 72] وقوله {وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21] يذكر فضله ومننه ليستأدي به شكره ليعلم أن مثل هذا لا يخرج عبثا باطلا بلا محنة ولا عاقبة. وكان النسب مما لا يجري بينهم التناكح والتزاوج، والصهر ما يحل بينهم التناكح والتزاوج. وفي حرف حفصة: وهو الذي خلق من الماء نسبا وصهرا. قال أبو معاذ: الصهر الفتى وآله، والختن أبو المرأة، والختنة أم المرأة والأختان المرأة وأهلها، والأصهار آل الفتى وأهله. وقال أبو عوسجة: {وصهرا} من المصاهرة، وكلهم أصهار من الجانبين جميعا. والمعروف عندنا أنه إنما تسمى قرابة الزوج أختانا، وقرابة المرأة أصهارا، وذلك لسان؛ فهو على ما تعارفوه بينهم، والله أعلم.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً}، يجوز أن يريد به الماء الذي خلق منه أصل الحيوان في قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30] وقوله: {والله خلق كل دابة من ماء} [النور: 45]، ويجوز أن يريد به النطفة التي خلق منها ولد آدم.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{وهو الذي خلق من الماء} من النطفة، {بشراً فجعله نسباً وصهراً} أي: جعله ذا نسب وصهر، وقيل: النسب: ما لا يحل نكاحه، والصهر: ما يحل نكاحه، فالنسب ما يوجب الحرمة، والصهر ما لا يوجبها، وقيل: وهو الصحيح: النسب من القرابة، والصهر: تشبه القرابة، وهو السبب المحرم للنكاح، وقد ذكرنا أن الله تعالى حرم بالنسب سبعاً وبالسبب سبعاً، في قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم...}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أراد: فقسم البشر قسمين ذوي نسب، أي: ذكوراً ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلانة، وذوات صهر: أي إناثاً يصاهر بهنّ، ونحوه قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى} [القيامة: 39]. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين: ذكراً وأنثى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وهو الذي خلق من الماء} الآية، هو تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك وتعديد النعمة في التواشج الذي جعل بينهم من النسب والصهر، وقوله {من الماء} إما أن يريد أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء، وإما أن يريد نطف الرجال وكل ذلك قالته فرقة، والأول أفصح وأبين، و «النسب والصهر» معنيان يعمان كل قربى تكون بين كل آدميين، ف «النسب» هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو في أم قرب ذلك أو بعد، و «الصهر» تواشج المناكحة، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج [الأصهار]، ثم الأحماء والأصهار يقع عاماً لذلك كله...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته، فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها. وقيل: الصهر قرابة النكاح، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء. والأصهار يقع عاما لذلك كله، قاله الأصمعي.
وقال ابن الأعرابي: الأختان أبو المرأة وأخوها وعمها -كما قال الأصمعي- والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه.
وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني: أخْتَانُ الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته.
قال النحاس: الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعا. يقال: صهرت الشيء أي خلطته، فكل واحد منهما قد خلط صاحبه.
والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع، روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك). فهذا على أن زوج البنت ختن. والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه، وكان الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وكان ربك قديرا).. وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب! ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مناسبة موقع هذا الاستدلال بعد ما قبله أنه استدلال بدقيق آثار القدرة في تكوين المياه وجعلها سبب حياة مختلفة الأشكال والأوضاع. ومن أعظمها دقائق الماء الذي خلق منه أشرف الأنواع التي على الأرض وهو نطفة الإنسان بأنها سبب تكوين النسل للبشر فإنه يكون أول أمره ماء ثم يتخلّق منه البشر العظيم، فالتنوين في قوله {بشراً} للتعظيم.
والقصر المستفاد من تعريف الجزءين قصر إفراد لإبطال دعوى شركة الأصنام لله في الإلهية.
والبشر: الإنسان. وقد تقدم في قوله تعالى: {فتمثّل لها بشراً سويًّا} في سورة مريم (17). والضمير المنصوب في {فجعله} عائد إلى البشر، أي فجعل البشر الذي خلقه من الماء نسباً وصهراً، أي قَسَّم الله البشر قسمين: نسببٍ، وصهرٍ. فالواو للتقسيم بمعنى (أو) والواو أجود من (أو) في التقسيم.
و {نسباً وصهراً} مصدران سمي بهما صنفان من القرابة على تقدير: ذا نسب وصهر وشاع ذلك في الكلام.
والنسب لا يخلو من أُبوّة وبُنوّة وأُخُوة لأولئك وبنوةٍ لتلك الأُخوة.
وأما الصهر فهو: اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة، ويسمى أيضاً مصاهرة لأنه يكون من جهتين، وهو آصرة اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه، فصهر الرجل قرابة امرأته، وصهر المرأة قرابة زوجها، ولذلك يقال: صاهر فلان فلاناً إذا تزوج من قرابته ولو قرابةً بعيدة كقرابة القبيلة. وهذا لا يخلو عنه البشر المتزوج وغير المتزوج.
ويطلق الصهر على مع له من الآخر علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في موضع الوصف فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل، وأما قريب زوج المرأة فهو خَتَن لها أو حَمٌ. ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيداً. وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله: {وكان ربك قديراً}، أي عظيم القدرة إذْ أوجد من هذا الماء خَلْقاً عظيماً صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} [الحجرات: 13].
وفي تركيب {وكان ربك قديراً} من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له مُتصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل {كَان}، وما في صيغة « قدير» من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم.