158- وكما أن الله رفع شأن الكعبة بجعلها قبلة الصلاة ، رفع أمر الجبلين اللذين يُشَارِفانِهَا وهما «الصفا » «والمروة » فجعلهما من مناسك الحج ، فيجب بعد الطواف السعي بينهما سبع مرات ، وقد كان منكم من يرى في ذلك حرجاً لأنه من عمل الجاهلية ، ولكن الحق أنه من معالم الإسلام ، فلا حرج على من ينوى الحج أو العمرة أن يسعى بين هذين الجبلين ، وليأت المؤمن من الخير ما استطاع فإن الله عليم بعمله ومثيبه عليه .
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }
يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } أي أعلام دينه الظاهرة ، التي تعبد الله بها عباده ، وإذا كانا من شعائر الله ، فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله ، وأن تعظيم شعائره ، من تقوى القلوب .
والتقوى واجبة على كل مكلف ، وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة ، كما عليه الجمهور ، ودلت عليه الأحاديث النبوية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " خذوا عني مناسككم "
{ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما ، لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام ، فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم ، لا لأنه غير لازم .
ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة ، أنه لا يتطوع بالسعي مفردا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة ، بخلاف الطواف بالبيت ، فإنه يشرع مع العمرة والحج ، وهو عبادة مفردة .
فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ، ورمي الجمار فإنها تتبع النسك ، فلو فعلت غير تابعة للنسك ، كانت بدعة ، لأن البدعة نوعان : نوع يتعبد لله بعبادة ، لم يشرعها أصلا ، ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة ، فتفعل على غير تلك الصفة ، وهذا منه .
وقوله : { وَمَنْ تَطَوَّعَ } أي : فعل طاعة مخلصا بها لله تعالى { خَيْرًا } من حج وعمرة ، وطواف ، وصلاة ، وصوم وغير ذلك { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } فدل هذا ، على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله ، ازداد خيره وكماله ، ودرجته عند الله ، لزيادة إيمانه .
ودل تقييد التطوع بالخير ، أن من تطوع بالبدع ، التي لم يشرعها الله ولا رسوله ، أنه لا يحصل له إلا العناء ، وليس بخير له ، بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل .
{ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } الشاكر والشكور ، من أسماء الله تعالى ، الذي يقبل من عباده اليسير من العمل ، ويجازيهم عليه ، العظيم من الأجر ، الذي إذا قام عبده بأوامره ، وامتثل طاعته ، أعانه على ذلك ، وأثنى عليه ومدحه ، وجازاه في قلبه نورا وإيمانا ، وسعة ، وفي بدنه قوة ونشاطا ، وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء ، وفي أعماله زيادة توفيق .
ثم بعد ذلك ، يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا ، لم تنقصه هذه الأمور .
ومن شكره لعبده ، أن من ترك شيئا لله ، أعاضه الله خيرا منه ، ومن تقرب منه شبرا ، تقرب منه ذراعا ، ومن تقرب منه ذراعا ، تقرب منه باعا ، ومن أتاه يمشي ، أتاه هرولة ، ومن عامله ، ربح عليه أضعافا مضاعفة .
ومع أنه شاكر ، فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل ، بحسب نيته وإيمانه وتقواه ، ممن ليس كذلك ، عليم بأعمال العباد ، فلا يضيعها ، بل يجدونها أوفر ما كانت ، على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم .
ثم تحدث - سبحانه - عن شعيرة من شعائر الحج فقال :
{ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ . . . }
قال الآلوسي : بعد أن أشار - سبحانه - فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالج الحج ، فكأنه جمع بين الحج والغزو ، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال ، وقيل لما ذكر الصبر عقبة ببحث الحج لما فثيه من الأمور إليه .
و { الصفا } في اللغة : الحجر الأملس ، مأخوذ من صفا يصفو إذا خلص ، واحده صفاة فهو مثل حصى وحصاة ونوى ونواة .
و { المروة } في أصل اللغة : الحجر الأبيض اللين ، وقيل : الحصاة الصغيرة . وهما - أي الصفا والمروة - قد جعلا علمين لجبلين معروفين بمكة كانا على بعد ما يقرب من ألف ذراع من المسجد الحرام . والألف واللام فيهما للتعريف لا للجنس . ومع توسعة المسجد الحرام صارا متصلين به .
و { شَعَآئِرِ } جمع شعيرة ، من الإِشعار بمعنى الإِعلام ، ومنه قولك شعرت بكذا ، أي : علمت به .
وكون الصفا والمروة من شعائر الله ، ي : أعلام دينه ومتعبداته . تعبدنا الله بالسعي بينهما في الحج والعمرة .
وشعائر الحج : معالمه الظاهرة للحواس ، التي جعلها الله أعلاما لطاعته ، ومواضع نسكه وعباداته ، كالمطاف والمسعى والموقف والمرمى والمنحر .
وتطلق الشعائر على العبادات التي تعبدنا الله بها في هذه المواضع ، لكونها علامات على الخضوع والطاعة والتسليم لله - تعالى - .
وأكدت الجملة الكريمة بأن لأن بعض المسلمين كانوا مترددين في كون السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ، وكانوا يظنون أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية ، كما سنبين بعد قليل .
وقوله : { فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } تفريع على كونهما من شعائر الله وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك . والحج لغة : القصد مطلقاً أو إلى معظم . وشرعا : القصد إلى البيت الحرام في زمان معين بأعمال مخصوصة .
و { اعتمر } أي : زار . والعمرة الزيارة مأخوذة من العمارة كأن الزائر يعمر البيت الحرام بزيارته . وشرعا الزيارة لبيت الله المعظم بأعمال مخصوصة وهي : الإِحرام والطواف والسعي بين الصفا والمروة .
و { جُنَاحَ } - بضم الجيم - الإِثم والحرج مشتق من جنح إذا مال عن القصد ، وسمى الإِثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل .
و { يَطَّوَّفَ } أصلها يتطوف ، فأبدلت التاء طاء ، وأدغمت في الطاء فصارت " يطوف والتطوف بالشيء كالطواف به ، ومعناه : الإِلمام بالشيء والمشي حوله .
وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف بالنسبة للكعبة بالدوران حولها سبعة أشواط . وفسره بالنسبة للصفا والمروة بالسعي بينهما سبعة أشواط كذلك .
و " من " في قوله : { فَمَنْ حَجَّ } شرطية ، " وحج " في محل جزم بالشرط ، و { البيت } منصوب على المفعولية ، وجملة " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " جواب الشرط .
والمعنى : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، أي : من المواضع التي يقام فيهما أمر من أمور دينه وهو السعي بينهما { فَمَنْ حَجَّ البيت } أي : قصده بالأفعال المعينة التي شرعها الله { أَوِ اعتمر } أي : أتى بالعمرة كما بينتها تعاليم الإِسلام " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " أي : فلا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة عليه في الطواف بهما ، لأنهما مطلوبان للشارع ، ومعدودان من الطاعات .
وهنا قد يقول قائل : إن بعض الذين يقرءون هذه الآية قد يشكل عليهم فهمها وذلك لأن قوله - تعالى - : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله } يدل على أن الطواف بهما مطلوب شرعاً طلبا أقل درجاته الندب ، وقوله - تعالى - { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } يقتضي رفع الأثم عن المتطوف بهما ، والتعبير برفع الإِثم عن الشيء يأتي في مقام الدالة على إباحته ، وإذن فما الأمر الداعي إلى أن يقال في هذه الشعيرة : لا إثم على من يفعلها بعد التصريح بأنها من شعائر الله ؟ وللإِجابة على هذا القول نقول . إن الوقوف على سبب نزول الآية الكريمة يرفع هذا الاستشكال . وقد روى العلماء في سبب نزولها عدة روايات منها : ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال : سألت عائشة - رضي الله عنها - قلت لها : أرأيت قوله - تعالى - : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا . . . } فوالله ، ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ؟ قالت بئس ما قلت يا ابن أختي ! ! إن هذه الآية لو كانت كما أولتها لكانت : لا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ولكن الآية أنزلت في الأنصار . كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المشلل . فكان من أهل يتحرج أن يتطوف بالصفا والمروة . فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقالوا : يا رسول الله : إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
قالت عائشة : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما .
وهناك رواية لمسلم عن عروة عن عائشة تشبه ما جاء في رواية البخاري ، وهناك رواية للنسائي عن زيد بن حارثة قال : كان على الصفا والمروة صتمان من نحاس يقال لهما " إساف ونائلة " كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما .
وهناك رواية للطبراني وابن أبي حاتم بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال : قالت الأنصار : إن السعي بن الصفا والمروة من أمر الجاهلية فأنزل الله هذه الآية .
فيؤخذ من هذه الروايات أن بعض المسلمين كانوا يتحرجون من السعي بين الصفا والمروة لأسباب من أهمها أن هذا السعي كان من شعائرهم في الجاهلية فقد كانوا يهلون - أي يحرمون - لمناة ، ثم يسعون بينهما ليتمسحوا بصنمين عليهما ، وهم لا يريدون أن يعملوا في الإِسلام شيئا مما كان من أمر الجاهلية لأن دين الإِسلام الذي خالط أعماق قلوبهم هز أرواحهم هزاً قوياً وجعلهم ينظرون بجفوة وازدراء واحتراس إلى كل ما كانوا عليه في الجاهلية من أعمال تتنافى مع تعاليم دينهم الجديد ، فنزلة هذه الآية الكريمة لتزيل التحرج الذي كان يتردد في صدورهم من السعي بين الصفا والمروة .
وهذا يدل على قوة إيمانهم ، وصفاء يقينهم ، وتحرزهم من كل قول أو عمل يشم منه رائحة التعارض مع العقيدة التي جعلتهم يخلصون عبادتهم لله الواحد القهار .
وقوله { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد منه الإِتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها ، وقيل إنه تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة .
و { تَطَوَّعَ } من التطوع وهو فعل الطاعة فريضة كانت أو نافلة ، وقيل هو التطوع بالنفل خاصة .
{ شَاكِرٌ } من الشكر ، والشاكر في اللغة هو المظهر للإِنعام عليه ، وذلك محال في حق الله - تعالى - ، إذ هو المنعم على خلقه ، فوجب حمل شكر الله لعباده على معنى مجازاتهم على ما يعملون من خيرات ، وإثابتهم على ذلك بالثواب الجزيل .
قال الإِمام الرازي : وإنما سمي - سبحانه - المجازاة على الطاعة شكراً لوجوه :
الأول : أن اللفظ خرج مخرج التلطف مع العباد مبالغة في الإِحسان إليهم ، كما في قوله - تعالى - : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } وهو - سبحانه - لا يستقرض من عوز ، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل : من ذا الذي يعمل عمل المقرض . بأن يقدم فياخذ أضعاف ما قدم .
الثاني : أن الشكر لما كان مقابلا للإِنعام أو الجزاء عليه ، سمي كل ما كان جزاء شكراً على سبيل التشبيه .
الثالث : كأنه يقول : أنا وإن كنت غنياً عن طاعتك ، إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل .
وبالجملة فالمقصود أن طاعة العبد مقبولة عند الله ، وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات .
و { تَطَوَّعَ } فعل الشرط ، و { خَيْراً } منصوب على نزل الخافض ، وأصله بخير ؛ لأن تطوع يتعدى بالباء ولا يتعدى بنفسه ثم حذفت الباء في نظم الكلام نحو : تمرون الديار فلم تعوجوا . أو هو منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أي : تطوعاًَ خيراً ، وجملة { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } دليل على جواب الشرط ، إذ التقدير ، ومن تطوع خيراً جوزي فإن الله شاكر عليم .
والمعنى : ومن تطوع بالخيرات وأنواع الطاعات ، أو من أتى بالحج أو العمرة طاعة لله ، أو من أتى بهما مرة بعد مرة زيادة على المقروض أو الواجب عليه ، فاز بالثواب الجزيل ، والنعيم المقيم ؛ لأن من صفاته - سبحانه - مجازاة من يحسنون العمل ، وهو عليم بكل ما يصدر عن عباده ، ولن يضيع أجر من أحسن عملا .
هذا ، وقد اختلفت أقوال الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة .
فمنهم من يرى أنه من أركان الحج كالإِحرام والطواف والوقوف بعرفة . وإلى هذا الرأي ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك في أشهر الروايتين عنه ومن حججهم أنه من أفعال الحج ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اهتم به وبادر إليه ، فقد روى الشيخان عن عمرو بن دينار قال : سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة ، ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته ؟ فقال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين ، وطاف بين الصفا والمروة . وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .
ومنهم من يرى أنه واجب يجبر بالدم ، وإلى هذا الرأي ذهب الحنفية ومن حججهم أنه لم يثبت بدليل قطعى فلا يكون ركنا .
( إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) . .
هناك عدة روايات عن سبب نزول هذه الآية ، أقربها إلى المنطق النفسي المستفاد من طبيعة التصور الذي أنشأه الإسلام في نفوس المجموعة السابقة إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار . . الرواية التي تقول : إن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة ، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية ، وأنه كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة . فكره المسلمون أن يطوفوا كما كانوا يطوفون في الجاهلية .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن عاصم بن سليمان : قال سألت أنسا عن الصفا والمروة قال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية . فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) . . وقال الشعبي : كان أساف على الصفا ، وكانت نائلة على المروة ، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية .
ولم يرد تحديد لتاريخ نزول هذه الآية . والأرجح أنها نزلت متأخرة عن الآيات الخاصة بتحويل القبلة . ومع أن مكة قد أصبحت دار حرب بالنسبة للمسلمين ، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين كانوا يتمكنون أفرادا من الحج ومن العمرة . وهؤلاء هم الذين تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة . . وكان هذا التحرج ثمرة التعليم الطويل ، ووضوح التصور الإيماني في نفوسهم ، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرزون ويتوجسون من كل أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية . إذ أصبحت نفوسهم من الحساسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كل ما كان في الجاهلية ، وتتوجس أن يكون منهيا عنه في الإسلام . الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة . .
كانت الدعوة الجديدة قد هزت أرواحهم هزا وتغلغلت فيها إلى الأعماق ، فأحدثت فيها انقلابا نفسيا وشعوريا كاملا ، حتى لينظرون بجفوة وتحرز إلى ماضيهم في الجاهلية ؛ ويحسون أن هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالا كاملا ، فلم يعد منهم ، ولم يعودوا منه ؛ وعاد دنسا ورجسا يتحرزون من الإلمام به !
وإن المتابع لسيرة هذه الفترة الأخيرة في حياة القوم ليحس بقوة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النفوس . يحس التغير الكامل في تصورهم للحياة . حتى لكأن الرسول [ ص ] قد أمسك بهذه النفوس فهزها هزة نفضت عنها كل رواسبها ، وأعادت تأليف ذراتها على نسق جديد ؛ كما تصنع الهزة الكهربية في تأليف ذرات الأجسام على نسق آخر غير الذي كان !
وهذا هو الإسلام . . هذا هو : انسلاخا كاملا عن كل ما في الجاهلية ، وتحرجا بالغا من كل أمر من أمور الجاهلية ، وحذرا دائما من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية . حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه . . فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى ، مما لا يرى فيه بأسا . ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي . فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية ؛ ولكن لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام ، تستمد أصلها من الإسلام .
وهنا نجد مثالا من هذا المنهج التربوي العميق . إذ يبدأ القرآن بتقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله :
( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) . .
فإذا أطوف بهما مطوف ، فإنما يؤدي شعيرة من شعائر الله ؛ وإنما يقصد بالطواف بينهما إلى الله . ولقد انقطع ما بين هذا الطواف الجديد وطواف الجاهلية الموروث ؛ وتعلق الأمر بالله - سبحانه - لا بأساف ونائلة وغيرهما من أصنام الجاهلية !
ومن ثم فلا حرج ولا تأثم . فالأمر غير الأمر ، والاتجاه غير الاتجاه :
( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) . .
وقد أقر الإسلام معظم شعائر الحج التي كان العرب يؤدونها ، ونفى كل ما يمت إلى الأوثان وإلى أوهام الجاهلية ، وربط الشعائر التي أقرها بالتصور الإسلامي الجديد ، بوصفها شعائر إبراهيم التي علمه ربه إياها ]وسيأتي تفصيل هذا عند الكلام على فريضة الحج في موضعه من سياق السورة[ . . فأما العمرة فكالحج في شعائرها فيما عدا الوقوف بعرفة دون توقيت بمواقيت الحج . وفي كلا الحج والعمرة جعل الطواف بين الصفا المروة من شعائرهما .
ثم يختم الآية بتحسين التطوع بالخير إطلاقا :
( ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) . .
فيلمح إلى أن هذا الطواف من الخير ، وبذلك ينفي من النفوس كل حرج ، ويطيب القلوب بهذه الشعائر ، ويطمئنها على أن الله يعدها خيرا ، ويجازي عليها بالخير . وهو يعلم ما تنطوي عليه القلوب من نية وشعور .
ولا بد أن نقف لحظة أمام ذلك التعبير الموحي : ( فإن الله شاكر . . . ) . . إن المعنى المقصود أن الله يرضى عن ذلك الخير ويثيب عليه . ولكن كلمة( شاكر ) تلقي ظلالا ندية وراء هذا المعنى المجرد . تلقي ظلال الرضى الكامل ، حتى لكأنه الشكر من الرب للعبد . ومن ثم توحي بالأدب الواجب من العبد مع الرب . فإذا كان الرب يشكر لعبده الخير ، فماذا يصنع العبد ليوفي الرب حقه من الشكر والحمد ؟ ؟ تلك ظلال التعبير القرآني التي تلمس الحس بكل ما فيها من الندى والرفق والجمال .
قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قلت : أرأيت قول الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قلت : فوالله ما على أحد جناح أن لا يطَّوف بهما ؟ فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها{[2982]} عليه كانت : فلا جناح عليه
ألا يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهِلّون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل . وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية . فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى قوله : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قالت عائشة : ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما ، فليس لأحد أن يَدع الطواف بهما . أخرجاه في الصحيحين{[2983]} .
وفي رواية عن الزهري أنه قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فقال : إن هذا العلم ، ما كنت سمعته ، ولقد سمعتُ رجالا{[2984]} من أهل العلم يقولون{[2985]} إن الناس - إلا من ذكرتْ عائشة - كانوا يقولون : إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية . وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء .
ورواه البخاري من حديث مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة{[2986]} بنحو ما تقدم . ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن عاصم بن سُليمان قال : سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال : كنا نرى ذلك{[2987]} من أمر الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }{[2988]} .
وذكر القرطبي{[2989]} في تفسيره عن ابن عباس قال : كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله ، وكانت بينهما آلهة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية . وقال الشعبي : كان إساف على الصفا ، وكانت نائلة على المروة ، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية . قلت : وذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة{[2990]} أن إسافا ونائلة كانا بشرين ، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس ، فلما طال عهدهما عبدا ، ثم حولا إلى الصفا والمروة ، فنصبا هنالك ، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ، ولهذا يقول أبو طالب ، في قصيدته المشهورة :
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم *** بمفضى السيول من إساف ونائل
وفي صحيح مسلم [ من ]{[2991]} حديثُ جابر الطويلُ ، وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت ، عاد إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من باب الصفا ، وهو يقول : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ثم قال : " أبدأ بما بدأ الله به " . وفي رواية النسائي : " ابدؤوا بما بدأ الله به " {[2992]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا شريح ، حدثنا عبد الله بن المؤمل ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن صفية بنت شيبة ، عن حَبِيبة بنت أبي تجراة{[2993]} قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه ، وهو وراءهم ، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره ، وهو يقول : " اسعَوا ، فإن الله كتب عليكم السعي " {[2994]} .
ثم رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن واصل - مولى أبي عُيَينة - عن موسى بن عبيدة{[2995]} عن صفية بنت شيبة ، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول : " كتب عليكم السعي ، فاسعوا " {[2996]} .
وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج ، كما هو مذهب الشافعي ، ومن وافقه [ ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك ]{[2997]} . وقيل : إنه واجب ، وليس بركن [ فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه تقول طائفة وقيل : بل مستحب ، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين ، وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس ، وحكي عن مالك في العتبية ، قال القرطبي : واحتجوا بقوله : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } ] {[2998]} . وقيل : بل مستحب . والقول الأول أرجح ، لأنه عليه السلام طاف بينهما ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " . فكل ما فعله في حَجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج ، إلا ما خرج بدليل ، والله أعلم [ وقد تقدم قوله عليه السلام : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ]{[2999]} .
فقد بين الله - تعالى - أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ، أي : مما شرع الله تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحج ، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف {[3000]} هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها ، لما نفد ماؤها وزادُها ، حين تركهما إبراهيم - عليه السلام - هنالك ليس عندهما أحد من الناس ، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك ، ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من الله ، عز وجل ، فلم تزل تردد{[3001]} في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله ، عز وجل ، حتى كشف الله كربتها ، وآنس غربتها ، وفرج شدتها ، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم ، وشفاء سقم ، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه ، وأن يلتجئ إلى الله ، عز وجل ، ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب ، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم{[3002]} وأن يثبته عليه إلى مماته ، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي ، إلى حال الكمال والغُفران والسداد والاستقامة ، كما فعل بهاجر - عليها السلام .
وقوله : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا }{[3003]} قيل : زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك . وقيل : يطوف بينهما{[3004]} في حجة تطوع ، أو عمرة تطوع . وقيل : المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات . حكى ذلك [ فخر الدين ]{[3005]} الرازي ، وعزي الثالث إلى الحسن البصري ، والله أعلم . وقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي : يثيب على القليل بالكثير { عَلِيمٌ } بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه و { لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] .
{ إن الصفا والمروة } هما علما جبلين بمكة . { من شعائر الله } من أعلام مناسكه ، جمع شعيرة وهي العلامة { فمن حج البيت أو اعتمر } الحج لغة القصد ، والاعتمار الزيارة . فغلبا شرعا على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين . { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } كان إساف على الصفا ونائلة على المروة ، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما . فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت . والإجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة ، وإنما الخلاف في وجوبه . فعن أحمد أنه سنة ، وبه قال أنس وابن عباس رضي الله عنهم لقوله : { فلا جناح عليه } فإنه يفهم منه التخيير وهو ضعيف ، لأن نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب ، فلا يدفعه . وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه واجب ، يجبر بالدم . وعن مالك والشافعي رحمهما الله أنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " . { ومن تطوع خيرا } أي فعل طاعة فرضا كان أو نفلا ، أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة ، أو طواف أو تطوع بالسعي إن قلنا إنه سنة . و{ خيرا } نصب على أنه صفة مصدر محذوف ، أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه ، أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى أتى أو فعل . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب ، وأصله يتطوع فأدغم مثل يطوف { فإن الله شاكر عليم } مثيب على الطاعة لا تخفى عليه .
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( 158 )
{ الصفا والمروة } : جبيلان بمكة ، و { الصفا } جمع صفاة ، وقيل : هو اسم مفرد جمعه صفى وأصفاء ، وهي الصخرة العظيمة ، قال الراجز : [ الرجز ] ( {[1442]} )
مواقعُ الطَّيرِ على الصَّفى . . . وقيل : من شروط الصفا البياض والصلابة ، و { المروة } واحدة المرو ، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين ، ومنه قول الذي أصاب شاته الموت من الصحابة «فذكيتها بمروة »( {[1443]} ) ، ومنه قيل الأمين : «اخرجني إلى أخي فإن قتلني فمروة كسرت مروة ، وصمصامة قطعت صمصامة »( {[1444]} ) ، وقد قيل في المرو : إنها الصلاب . قال الشاعر( {[1445]} ) : [ الوافر ]
وَتَوَلَّى الأَرْضَ خِفّاً ذَابِلاً . . . فإذَا ما صَادَفَ الْمَرْوَ رَضَخْ
والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى( {[1446]} ) وترق حاشيته ، وفي هذا يقال المرو أكثر ، وقد يقال في الصليب ، وتأمل قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
حتى كأني للحوادث مروة . . . بصفا المشقر كل يوم تقرع( {[1447]} )
وجبيل { الصفا } بمكة صليب ، وجبيل { المروة } إلى اللين ماهق( {[1448]} ) ، فبذلك سميا ، قال قوم : ذكر { الصفا } لأن آدم وقف عليه ، ووقفت حواء على المروة فانثت لذلك .
وقال الشعبي : «كان على الصفا صنم يدعى إسافاً ، وعلى المروة صنم يدعى نائلة » ، فاطرَد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر ، و { من شعائر الله } معناه من معالمه ومواضع عبادته( {[1449]} ) ، وهي جمع شعيرة أو شعارة ، وقال مجاهد : ذلك راجع إلى القول ، أي مما أشعركم الله بفضله ، مأخوذ من تشعرت إذا تحسست( {[1450]} ) ، وشعرت مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الجسد من الثياب ، والشعار مأخوذ من الشعر ، ومن هذه اللفظة هو الشاعر( {[1451]} ) : و { حج } معناه قصد وتكرر ، ومنه قول الشاعر( {[1452]} ) : [ الطويل ]
وأَشْهَدُ مِنْ عوفٍ حلولاً كثيرةً . . . يحجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
ومنه قول الآخر( {[1453]} ) : [ البسيط ]
يحج مأمومةً في قَعْرِها لجفُ . . . و { اعتمر } زار وتكرر مأخوذ من عمرت الموضع ، وال { جناح } الإثم والميل عن الحق والطاعة ، ومن اللفظة الجناح لأنه في شق ، ومنه قيل للخباء جناح لتمايله وكونه كذي أجنحة ، ومنه : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }( {[1454]} ) [ الأنفال : 61 ] ، و { يطوف } أصله يتطوف( {[1455]} ) سكنت التاء وأدغمت في الطاء .
وقرأ أبو السمال «أن يطاف » وأصله يطتوف تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً فجاء يطتاف أدغمت التاء بعد الإسكان في الطاء على مذهب من أجاز إدغام الثاني في الأول ، كما جاء في مدكر ، ومن لم يجز ذلك قال قلبت طاء ثم أدغمت الطاء في الطاء ، وفي هذا نظر لأن الأصلي أدغم في الزائد وذلك ضعيف( {[1456]} ) .
وروي عن ابن عباس وأنس بن مالك وشهر بن حوشب أنهم قرؤوا «أن لا يتطوف » وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب «أن لا يطوف »( {[1457]} ) ، قيل : «أن لا يطوف » بضم الطاء وسكون الواو( {[1458]} ) .
وقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما .
وقوله { فلا جناح } ليس المقصد منه إباحة الطواف لمن شاء ، لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم ، وإنما المقصد منه رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه حرج ، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب ، واختلف في كيفية ذلك( {[1459]} ) فروي أن الجن كانت تعرف وتطوف بينهما في الجاهلية فكانت طائفة من تهامة لا تطوف بينهما في الجاهلية لذلك ، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف( {[1460]} ) .
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن ذلك في الأنصار وذلك أنهم كانوا يهلون لمناة التي كانت بالمشلل حذو قديد ويعظمونها فكانوا لا يطوفون بين إساف ونائلة إجلالاً لتلك ، فلما جاء الإسلام تحرجوا فنزلت هذه الآية( {[1461]} ) ، وروي عن الشعبي أن العرب التي كانت تطوف هنالك كانت تعتقد ذلك السعي إجلالاً لإساف ونائلة ، وكان الساعي يتمسح بإساف فإذا بلغ المروة تمسح بنائلة وكذلك حتى تتم أشواطه ، فلما جاء الإسلام كرهوا السعي هنالك إذ كان بسبب الصنمين( {[1462]} ) .
واختلف العلماء في السعي بين الصفا والمروة( {[1463]} ) فمذهب مالك والشافعي أن ذلك فرض ركن من أركان الحج لا يجزي تاركه أو ناسيه إلا العودة ، ومذهب الثوري وأصحاب الرأي أن الدم يجزيء تاركه وإن عاد فحسن ، فهو عندهم ندب ، وروي عن أبي حنيفة : إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم ، وإن ترك ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين ، وقال عطاء ليس على تاركه شيء لا دم ولا غيره ، واحتج عطاء بما في مصحف ابن مسعود «أن لا يطوف بهما » وهي قراءة خالفت مصاحف الإسلام ، وقد أنكرتها عائشة رضي الله عنها في قولها( {[1464]} ) لعروة حين قال لها «أرأيت قول الله : { فلا جناح أن يطوف بهما } ؟ فما نرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما » قالت : «يا عروة( {[1465]} ) كلا لو كان ذلك لقال : فلا جناح عليه ألا يطوف بها » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وأيضاً فإن ما في مصحف ابن مسعود يرجع إلى معنى أن يطوف وتكون «لا » زائدة صلة في الكلام( {[1466]} ) ، كقوله { ما منعك ألا تسجد } [ الأعراف : 12 ] ، وكقول الشاعر( {[1467]} ) : [ البسيط ]
ما كان يرضى رسولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ . . . والطِّيبانِ أبو بَكْرٍ ولا عمرُ
أي وعمر وكقول الآخر( {[1468]} ) : [ الرجز ]
وما ألومُ البِيضَ أَنْ لا تَسْخَرَا . . . ومذهب مالك وأصحابه في العمرة أنها سنة إلا ابن حبيب فإنه قال بوجوبها ، وقرأ قوم من السبعة وغيرهم «ومن يطوع » بالياء من تحت على الاستقبال والشرط ، والجواب في قوله { فإن } ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «تطوع » على بابه في المضي ، ف { من } على هذه القراءة بمعنى الذي ، ودخلت الفاء في قوله { فإن } للإبهام الذي في { من } ، حكاه مكي ، وقال أبو علي : يحتمل «تطوع » أن يكون في موضع جزم و { من } شرطية ، ويحتمل أن تكون { من } بمعنى الذي والفعل صلة لا موضع له من الإعراب ، والفاء مؤذنة أن الثاني وجب لوجوب الأول ، ومن قال بوجوب السعي قال : معنى { تطوع } أي زاد براً بعد الواجب ، فجعله عاماً في الأعمال ، وقال بعضهم : معناه من تطوع بحج أو عمرة بعد حجة الفريضة ، ومن لم يوجب السعي قال : المعنى من تطوع بالسعي بينهما ، وفي قراءة ابن مسعود «فمن تطوع بخير » ومعنى { شاكر } أي يبذل الثواب والجزاء( {[1469]} ) ، { عليم } بالنيات والأعمال لا يضيع معه لعامل بر ولا غيره عمل .
هذا كلام وقع معترضاً بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة ، نزل هذا بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة وذلك عام حجة الوداع ، كما جاء في حديث عائشة الآتي ، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدَها ، لأن الحج لم يكن قد فُرِض ، وهي من الآيات التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها ببعض السُّوَر التي نزلت قبل نزولها بمدة ، والمناسبةُ بينها وبين ما قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس ، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقعُ الاعتراض في أثناء الاعتراض ، فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه السلام تذكيراً بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هاجر أم إسماعيل لما تركها إبراهيم بموضع مكة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جِراباً من تمر وسِقاءً فيه ماء ، فلما نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظُر إليه يَتَلَوَّى فانطلقتْ كراهيةَ أن تنظُرَ إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سَعَى الناسُ بينهما ، فسَمِعَت صوتاً فقالت في نفسها صه ثم تسمَّعَتْ فسَمِعَتْ أيضاً فقالت قد أَسْمَعْتَ إن كان عندَكَ غُواث ، فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم فبحثَ بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعَتْ ولَدَها » ، فيحتمل أن إبراهيم سَعَى بين الصفا والمروة تذكُّراً لشكر النعمة وأمَرَ به إسماعيل ، ويحتمل أن إسماعيل ألحقهُ بأفعال الحج ، أو أن من جاء من أبنائه فَعَل ذلك فتقرر في الشعائر عند قريش لا محالة .
وقد كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عَمْرو ابن لُحَيَ إلى مكة فعبدها العرب إحداهما يسمى إِسَافاً والآخر يُسمى نَائِلَةَ ، كان أحدهما موضوعاً قرب جدارِ الكعبة والآخر موضوعاً قرب زمزم ، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم ، وكان العرب يذبحون لهما ، فلما جَدَّد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثَرَتْها جُرْهُمُ حين خروجِهم من مكة وبنَى سقاية زمزم نقل ذينك الصنمين فوضع إِسافاً على الصفا ونائلةَ على المروة ، وجعل المشركون بعد ذلك أصناماً صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى ، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين ، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بالمُشَلَّلِ قُرْب قُدَيْد فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجاً من أن يطوفوا بغير صنمهم ، في البخاري فيما علَّقه عن معمر إلى عائشة قالت « كان رجال من الأنصار مِمَّن كان يُهل لمناة قالوا يا نبيء الله كُنا لا نطوف بين الصفا والمروة « تعظيماً لمناة » .
فلما فتحت مكة وأزيلت الأصنام وأبيح الطواف بالبيت وحج المسلمون مع أبي بكر وسعت قريش بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمروة وسأل جمع منهم النبي صلى الله عليه وسلم هل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية .
وقد روى مالك رحمهُ الله في « الموطأ » عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال قلت لعائشة وأنا يومئذٍ حديث السن أرأيتِ قولَ الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ، فما على الرجُل شيء أن لا يَطَّوَّف بهما فقالت عائشة كَلاَّ لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما أنزلت هاته الآية في الأنصار كانوا يُهلون لمناة وكانت مناةُ حذوَ قُديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله : { إن الصفا والمروة } » الآية .
وفي البخاري عن أنس كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكْنا عنهما فأنزل الله { إن الصفا والمروة } ، وفيه كلام معمر المتقدم أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة .
فتأكيد الجملة بإنَّ لأن المخاطبين مترددون في كونهما من شعائر الله وهم أَمْيَلُ إلى اعتقاد أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية ، وفي « أسباب النزول » للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع ، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك .
والصفا والمروة اسمان لجُبَيْلَين متقابلين فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس ، وأما المَرْوَة فرأس هو منتهى جبلُ قعَيقِعَان . وسُمي الصفا لأن حجارته من الصَّفا وهو الحجر الأملس الصُّلْب ، وسميت المَروةُ مَروةً لأن حجارها من المَرْو وهي الحجارة البيضاء اللينة التي توري النار ويذبح بها لأن شَذْرها يخرج قطعاً محددة الأطراف وهي تضرب بحجارة من الصفا فتتشقق قال أبو ذؤيب
حتى كأنِّي للحَوَادِث مَرْوَة *** بِصَفَا المُشقَّرِ {[168]} كلَّ يوم تفرع
وكأن الله تعالى لطف بأهل بمكة فجعل لهم جبلاً من المروة للانتفاع به في اقتداحهم وفي ذبائحهم ، وجعل قبالته الصفا للانتفاع به في بنائهم .
والصفا والمروة بقرب المسجد الحرام وبينهما مسافة سبعمائة وسبعين ذراعاً وطريق السعي بينهما يمر حذو جدار المسجد الحرام ، والصفا قريب من باب يسمى باب الصفا من أبواب المسجد الحرام ويصعد الساعي إلى الصفا والمروة بمثل المدرجة .
والشعائر جمع شعيرة بفتح الشين وشعارة بكسر الشين بمعنى العلامة مشتق من شعر إذا علم وفطن ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة أي معلم بها ومنه قولهم أشعر البعير إذا جعل له سمة في سنامه بأنه معد للهدي . فالشعائر ما جعل علامة على أداء عمل من عمل الحج والعمرة وهي المواضع المعظمة مثل المواقيت التي يقع عندها الإحرام ، ومنها الكعبة والمسجد الحرام والمقام والصفا والمروة وعرفة والمشعر الحرام بمزدلفة ومنى والجمار .
ومعنى وصف الصفا والمروة بأنهما من شعائر الله أن الله جعلهما علامتين على مكان عبادة كتسمية مواقيت الحج مواقيت فوصفهما بذلك تصريح بأن السعي بينهما عبادة إذ لا تتعلق بهما عبادة جعلا علامة عليها غير السعي بينهما ، وإضافتهما إلى الله لأنهما علامتان على عبادته أو لأنه جعلهما كذلك .
وقوله : { فمن حج البيت } تفريع على كونهما من شعائر الله ، وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك فلا يريبه ما حصل فيهما من صُنع الجاهلية لأن الشيء المقدس لا يزيل تقديسه ما يحف به من سيء العوارض ، ولذلك نبه بقوله { فلا جناح } على نفي ما اختلج في نفوسهم بعد الإسلام كما في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها .
والجناح بضم الجيم الإثم مشتق من جنح إذا مال لأن الإثم يميل به المرء عن طريق الخير ، فاعتبروا فيه المَيل عن الخير عكس اعتبارهم في حنف أنه ميل عن الشر إلى الخير .
والحج اسم في اللغة للقصد وفي العرف غلب على قصد البيت الحرام الذي بمكة لعبادة الله تعالى فيه بالطواف والوقوف بعرفة والإحرامِ ولذلك صار بالإطلاق حقيقة عرفية في هذا المعنى جِنْساً بالغلبة كالعَلَم بالغلبة ولذلك قال في « الكشاف » « وهما ( أي الحج والعُمرة ) في المعاني كالنجْم والبيت في الذَّوات » ، فلا يحتاج إلى ذكر مضاف إليه إلاّ في مقام الاعتناء بالتنصيص ولذلك ورد في القرآن مقطوعاً عن الإضافة نحو { الحجُّ أَشْهُرٌ معلومات } إلى قوله : { ولا جدال في الحج } [ البقرة : 197 ] ، وورد مضافاً في قوله : { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] لأنه مقام ابتداء تشريع فهو مقام بيان وإطناب . وفِعْل حَج بمعنى قصد لم ينقطع عن الإطلاق على القصد في كلام العرب فلذلك كان ذكر المفعول لزيادة البيان . وأما صحة قولك حج فلان وقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب عليكم الحج فحُجُّوا " بدون ذكر المفعول فذلك حذفٌ للتعويل على القرينة فغلبة إطلاق الفعل على قصد البيت أقل من غلبة إطلاق اسم الحج على ذلك القصد .
والعمرة اسم لزيارة البيت الحرام في غير وقت الحج أو في وقته بدون حضور عرفة فالعمرة بالنسبة إلى الحج مثل صلاة الفذ بالنسبة لصلاة الجماعة ، وهي بصيغة الاسم علم الغلبة على زيارة الكعبة ، وفعلُها غلب على تلك الزيارة تبعاً لغلبة الاسم فساواه فيها ولذلك لم يذكر المفعول هنا ولم يسمع . والغلبة على كل حال لا تمنع من الإطلاق الآخر نادراً .
ونفي الجناح عن الذي يطوف بين الصفا والمروة لا يدل على أكثر من كونه غير منهي عنه فيصدق بالمباح والمندوب ، والواجب والرُّكنِ ، لأن المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات فيُحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر ولذلك قالت عائشة لعروة « لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما » ، قال ابن العربي في « أحكام القرآن » إن قول القائل لا جناج عليك أن تفعل إباحة للفعل وقوله لا جناح عليك أن لا تفعل إباحة لترك الفعل فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ولا فيه دليل عليه وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان تحرج منه في الجاهلية أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصداً للأصنام التي كانت فيه اهـ .
ومراده أَنَّ لا جناح عليك أن تفعل نص في نفي الإثم عن الفاعل وهو صادق بالإباحة والندب والوجوب فهو في واحد منها مجمل ، بخلاف لا جناح عليك أن لا تفعل فهو نص في نفي الإثم التالي وهو صادق بحرمة الفعل وكراهيته فهو في أحدهما مجمل ، نعم إن التصدي للإِخبار بنفي الإثم عن فاعل شيء يبدو منه أن ذلك الفعل مظنة لأن يكون ممنوعاً هذا عرف استعمال الكلام فقولك لا جناح عليك في فعل كذا ظاهر في الإباحة بمعنى استواء الوجهين دون الندب والوجوب إذ لا يعمد أحد إلى واجب أو فرض أو مندوب فيقول فيه إنه لا جناح عليكم في فعله ، فمن أجْل ذلك فهم عروة بن الزبير من الآية عدم فرضية السعي ، ولقد أصاب فهماً من حيث استعمال اللغة لأنه من أهل اللسان ، غير أن هنا سبباً دعا للتعبير بنفي الإثم عن الساعي وهو ظن كثير من المسلمين أن في ذلك إثماً ، فصار الداعي لنفي الإثم عن الساعي هو مقابلة الظن بما يدل على نقيضه مع العلم بانتفاء احتمال قصد الإباحة بمعنى استواء الطرفين بما هو معلوم من أوامر الشريعة اللاحقة بنزول الآية أو السابقة لها ، ولهذا قال عروة فيما رواه " وأنا يومئذٍ حديثُ السن " يريد أنه لا علم له بالسنن وأسباب النزول ، وليس مراده من حداثة سنه جهلَه باللغة لأن اللغة يستوي في إدراك مفاداتها الحديث والكبير ، ولهذا أيضاً قالت له عائشة « بئسما قلتَ يا ابنَ أختي » تريد ذَم كلامه من جهة ما أداه إليه من سوء فهم مقصد القرآن لو دام على فهمه ذلك ، على عادتهم في الصراحة في قول الحق ، فصار ظاهر الآية بحسب المتعارف مؤولاً بمعرفة سبب التصدي لنفي الإثم عن الطائف بين الصفا والمروة .
فالجناح المنفي في الآية جُناح عَرَض للسعي بين الصفا والمروة في وقت نصب إساف ونائلةَ عليهما وليس لذات السعي ، فلما زال سببه زال الجناح كما في قوله تعالى : { فلا جناح عليهما أن يُصلحا بينهما صلحاً والصلح خير } [ النساء : 128 ] فنفى الجناح عن التصالح وأثبت له أنه خير فالجناح المنفي عن الصلح ما عَرَض قبله من أسباب النشوز والإعراضِ ، ومثله قوله : { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه } [ البقرة : 182 ] مع أن الإصلاح بينهم مرغب فيه وإنما المراد لا إثم عليه فيما نقصَ من حق أحد الجانبين وهو إثم عارض .
والآية تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة بالإخبار عنهما بأنهما من شعائر الله فلأجل هذا اختلفت المذاهب في حكم السعي فذهب مالك رحمه الله في أَشْهَر الروايتين عنه إلى أنه فرض من أركان الحج وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور ، ووجهه أنه من أفعال الحج وقد اهتم به النبي صلى الله عليه وسلم وبادر إليه كما في حديث « الصحيحين » و« الموطأ » فلما تردد فعله بين السنية والفرضية قال مالك بأنه فرض قضاء لحق الاحتياط ولأنه فعل بسائر البدن من خصائص الحج ليس له مثيل مفروض فيُقاس على الوقوف وطواف الإفاضة والإحرامِ ، بخلاف ركعتي الطواف فإنهما فعل ليس من خصائص الحج لأنه صلاة ، وبخلاف ترك لبس المخيط فإنه تَرْك ، وبخلاف رَمي الجمار فإنه فعل بعضو وهو اليد . وقولي ليس له مثيل مفروض لإخراج طواف القودم فإنه وإن كان فعلاً بجميع البدن إلا أنه به مثيل مفروض وهو الإفاضة فأغنى عن جعله فرضاً ، ولقوله في الحديث : " اسْعَوْا فإن الله كتب عليكم السعي " والأمرُ ظاهر في الوجوب ، والأصل أن الفرض والواجب مترادفان عندنا في الحج ، فالواجب دون الفرض لكن الوجوب الذي هو مدلول الأمر مساوٍ للفرض .
وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب ينجبر بالنسك واحتج الحنفية لذلك بأنه لم يثبت بدليل قطعي في الدلالة فلا يكون فرضاً بل واجباً لأن الآية قطعية المتن فقط والحديث ظني فيهما ، والجواب أن مجموع الظواهر من القول والفعل يدل على الفرضية وإلاّ فالوقوف بعرفة لا دليل على فرضيته وكذلك الإحرام فمتى يثبت هذا النوع المسمى عندهم بالفرض ؟ وذهب جماعة من السلف إلى أنه سنة .
وقوله : { ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم } تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة بمفاد قوله : { من شعائر الله } ، والمقصد من هذا التذييل الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل أو نوافل فقط فليس المقصود من { خيراً } خصوص السعي لأن خيراً نكرة في سياق الشرط فهي عامة ولهذا عطفت الجملة بالواو دون الفاء لئلا يكون الخير قاصراً على الطواف بين الصفا والمروة بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله :
{ وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له } [ البقرة : 184 ] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضلُ من تركه أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه كما سيأتي .
وتطوَّع يطلق بمعنى فعل طاعة وتكلفها ، ويطلق مطاوعَ طوَّعه أي جعله مطيعاً فيدل على معنى التبرع غالباً لأن التبرع زائد في الطاعة . وعلى الوجهين فانتصاب { خيراً } على نزع الخافض أي تطوع بخير أو بتضمين { تطوع } معنى فَعَل أو أتى . ولما كانت الجملة تذييلاً فليس فيها دلالة على أن السعي من التطوع أي من المندوبات لأنها لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع عظيم ، على أن { تطوع } لا يتعين لكونه بمعنى تبرع بل يحتمل معنى أتى بطاعة أو تكلف طاعة .
وقرأ الجمهور : { ومن تطوع } بصيغة الماضي ، وقرأه حمزة والكسائي ويعقوب وخلَف { يَطَّوَّع } بصيغة المضارع وياء الغيبة وجزم العين .
و { مَنْ } هنا شرطية بدليل الفاء في جوابها . وقوله : { فإن الله شاكر عليم } دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيراً جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن ، عليم لا يخفى عنه إحسانه ، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلاّ عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله : { شاكر عليم } والأظهر عندي أن { شاكر } هنا استعارة تمثيلية شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدي إليه نعمة ، وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء...وأما المروة: فإنها الحصاة الصغيرة، وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"إنّ الصّفا والمَرْوَةَ" في هذا الموضع: الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه دون سائر الصفا والمرو، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين دون سائر الأصفاء والمرو.
"مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ": من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعرا يعبدونه عندها، إما بالدعاء وإما بالذكر وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها.
وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله: "إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ "عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحجّ التي سنّها لهم، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، إذ سأله أن يريه مناسك الحج. وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر، فإنه مراد به الأمر، لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: "ثم أوْحَيْنَا إليكَ أن اتّبِعْ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا" وجعل تعالى ذكره إبراهيم إماما لمن بعده. فإذا كان صحيحا أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد عمل به وسنّه لمن بعده، وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أمته باتباعه، فعليهم العمل بذلك على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ": "فَمَنْ حَجّ البَيْتَ": فمن أتاه عائدا إليه بعد بدء، وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاجّ إليه... وإنما قيل للحاج حاج لأنه يأتي البيت قبل التعريف، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر، فلتكراره العود إليه مرّة بعد أخرى قيل له حاجّ. وأما المعتمر فإنما قيل له معتمر لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه.
وإنما يعني تعالى ذكره بقوله: "أوِ اعْتَمَرَ": أو اعتمر البيت، ويعني بالاعتمار الزيارة، فكل قاصد لشيء فهو له معتمر.
"فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما": فلا حرج عليه ولا مأثم في طوافه بهما.
فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا إن قوله: "إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه" وإن كان ظاهره ظاهر الخبر فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرا بالطواف، ثم يقال: لا جناح على من حجّ البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟ وإنما يوضع الجناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناح والحرج، والأمر بالطواف بهما، والترخيص في الطواف بهما غير جائز اجتماعهما في حال واحدة؟
قيل: إن ذلك بخلاف ما إليه ذهب، وإنما معنى ذلك عند أقوام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عمرة القضية تخوّف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما فقالوا: وكيف نطوف بهما، وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون الله شرك؟ ففي طوافنا بهذين الحجرين أحد ذلك، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليوم ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له. فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم: "إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ..." يعني أن الطواف بهما، فترك ذكر الطواف بهما اكتفاء بذكرهما عنه. وإذ كان معلوما عند المخاطبين به أن معناه: من معالم الله التي جعلها علما لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر، فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا يتخوّفن الطواف بهما، من أجل ما كان أهل الجاهلية يطوفون بهما، من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرا، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولي وطاعة لأمري، فلا جناح عليكم في الطواف بهما. والجناح: الإثم.
وقال آخرون: بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية في سبب قوم كانوا في الجاهلية لا يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام تخوفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوّفونه في الجاهلية... حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة بن الزبير، قال: سألت عائشة فقلت لها: أرأيت قول الله: إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما؟ وقلت لعائشة: والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت كما أوّلتها كانت لا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون بالمشلّل، وكان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة، أنزل الله تعالى ذكره: إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره. فأما قوله: "فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما" فجائز أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين، وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية على ما روي عن عائشة. وأيّ الأمرين كان من ذلك فليس في قول الله تعالى ذكره: "فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما" الآية، دلالة على أنه عنى به وضع الحرج عمن طاف بهما، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر الله ذلك ثم جعل الطواف بهما رخصة لإجماع الجميع، على أن الله تعالى ذكره لم يحظر ذلك في وقت، ثم رخص فيه بقوله: "فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما".
وإنما الاختلاف في ذلك بين أهل العلم على أوجه؛ فرأى بعضهم أن تارك الطواف بينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه، كما لا يجزي تارك الطواف الذي هو طواف الإفاضة إلا قضاؤه بعينه، وقالوا: هما طوافان أمر الله بأحدهما بالبيت، والاَخر بين الصفا والمروة.
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية، ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الجمرات، والوقوف بالمشعر، وطواف الصّدَر، وما أشبه ذلك مما يجزي تاركه من تركه فدية ولا يلزمه العود لقضائه بعينه.
ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوّع، إن فعله صاحبه كان محسنا، وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه شيء. والله تعالى أعلم...
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب، وأن على من تركه العود لقضائه ناسيا كان أو عامدا لأنه لا يجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حجّ بالناس فكان مما علمهم من مناسك حجهم الطواف بهما... فإذا كان صحيحا بإجماع الجميع من الأمة أن الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم وعمله في حجه وعمرته، وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمته جمل ما نصّ الله في كتابه وفَرَضه في تنزيله، وأمر به مما لم يدرك علمه إلا ببيانه لازما العمل به أمته كما قد بينا في كتابنا «كتاب البيان عن أصول الأحكام» إذا اختلفت الأمة في وجوبه، ثم كان مختلفا في الطواف بينهما هل هو واجب أو غير واجب، كان بيّنا وجوب فرضه على من حجّ أو اعتمر لما وصفنا، وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بين الصفا والمروة، لما كان مختلفا فيما على من تركه مع إجماع جميعهم، على أن ذلك مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علمهم مناسك حجهم، كما طاف بالبيت وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم، إذ علمهم مناسك حجهم وعمرتهم، وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تجزي منه فدية ولا بدل، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه كان نظيرا له الطواف بالصفا والمروة، ولا تجزي منه فدية ولا جزاء، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه، إذ كانا كلاهما طوافين أحدهما بالبيت والاَخر بالصفا والمروة...
"وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فإنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ": ومن تطوّع بالحجّ والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكر له على تطوّعه له بما تطوّع به من ذلك ابتغاء وجهه فمجازيه به، عليم بما قصد وأراد بتطوّعه بما تطوّع به.
وإنما قلنا إن الصواب في معنى قوله: "فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا" هو ما وصفنا دون قول من زعم أنه معنيّ به: فمن تطوّع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوّعا بالسعي بينهما إلا في حجّ تطوّع أو عمرة تطوّع لما وصفنا قبل وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما أنه إنما عنى بالتطوّع بذلك التطوّع بما يعمل ذلك فيه من حجّ أو عمرة.
وأما الذين زعموا أن الطواف بهما تطوّع لا واجب، فإن الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوّع بالطواف بهما فإن الله شاكر لأن للحاجّ والمعتمر على قولهم الطواف بهما إن شاء وترك الطواف، فيكون معنى الكلام على تأويلهم: فمن تطوّع بالطواف بالصفا والمروة، فإن الله شاكر تطوّعه ذلك، عليم بما أراد ونوى الطائف بهما كذلك... من تطوّع خيرا فاعتمر فإن الله شاكر عليم قال: فالحجّ فريضة، والعمرة تطوّع، ليست العمرة واجبة على أحد من الناس.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله تعالى: (ومن تطوع خيرا) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أولها:"من تطوع خيرا" أي بالحج العمرة بعد الفريضة...
الثالث: "من تطوع خيرا "بعد الفرائض، وهذا هو الأولى، لأنه أعم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الصفا والمروة: علمان للجبلين، والشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، أي من أعلام مناسكه ومتعبداته، والحج: للقصد. والاعتمار: الزيارة، فغلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين.
المسألة الأولى: اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه؛ (أحدها): أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال: {ولأتم نعمتي عليكم} وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعي هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية.
(وثانيها): أنه تعالى لما قال: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} إلى قوله: {وبشر الصابرين} قال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات.
المسألة الثالثة: الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك، أو نحملها على مواضع العبادات والنسك، فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف، لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك، فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى، وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام، لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك وكيف كان فالسعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه، وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وأرنا مناسكنا}
واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضا من أبعاض الحج، فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.
المسألة الرابعة: الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل عليه السلام أغاثها الله تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب ممن دعاه فإنه غياث المستغيثين، فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما، ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة، وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين.
المسألة الخامسة: ذكر القفال في لفظ الحج أقوالا.
(الأول): الحج في اللغة كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه، فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولا ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر... وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه...
أما قوله تعالى: {فإن الله شاكر عليم} فاعلم أن الشاكر في اللغة هو المظهر للإنعام عليه، وذلك في حق الله تعالى محال، فالشاكر في حقه تعالى مجاز، ومعناه المجازي على الطاعة:
وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكرا لوجوه.
(الأول): أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان إليهم، كما قال تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} وهو تعالى لا يستقرض من عوض، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل: من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم.
(الثاني): أن الشكر لما كان مقابلا الإنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكرا على سبيل التشبيه.
(الثالث): كأنه يقول: أنا وإن كنت غنيا عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات.
وأما قوله: {عليم} فالمعنى أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى: {عليم} تعلق بشاكر ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه، وتحذير من خلاف ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ مما أراد من أحوال الطاعنين في القبلة التي هي قيام للناس وما استتبع ذلك مما يضطر إليه في إقامة الدين من جدالهم وجلادهم وختم ذلك بالهدى شرع في ذكر ما كان البيت به قياماً للناس من المشاعر القائدة إلى كل خير الحامية عن كل ضير التي جعلت مواقفها أعلاماً على الساعة لا سيما والحج أخو الجهاد في المشقة والنزوح عن الوطن وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم أحد الجهادين مع أنه من أعظم مقاصد البيت المذكورة في هذه الآيات مناقبه المتلوة مآثره المنصوبة شعائره التي هي في الحقيقة دعائمه من الاعتكاف والصلاة والطواف المشار إلى حجه واعتماره بقوله:مثابة للناس وأمناً} [البقرة: 125] فأفصح به بعد تلك الإشارة بعض الإفصاح إذ كان لم يبق من مفاخره العظمى غيره وضم إليه العمرة الحج الأصغر لمشاركتها له في إظهار فخاره وإعلاء مناره فقال: {إن الصفا والمروة} فهو كالتعليل لاستحقاق البيت لأن يكون قبلة، وعرفهما لأنهما جبلان مخصوصان معهودان تجاه الكعبة، اسم الصفا من الصفوة وهو ما يخلص من الكدر، واسم المروة من المرو وهو ما تحدد من الحجارة -قاله الحرالي. وخصهما هنا بالذكر إشارة إلى أن بركة الإقبال عليهما على ما شرع الله سبحانه وتعالى مفيدة لحياة القلوب بما أنزل على هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة الباقيين إلى آخر الدهر شفاء للقلوب وزكاة للنفوس زيادة للنعمة بصفة الشكر وتعليماً بصفة العلم كما كان الإقبال على السعي بينهما تسليماً لأمر الله مفيداً لحياة أبيه إسماعيل عليه الصلاة والسلام ونفع من بعده بما أنبع له من ماء زمزم الباقي إلى قيام الساعة طعام طعم وشفاء سقم، وفي ذلك مع تقديم الصفا إشارة للبصراء من أرباب القلوب إلى أن الصابر لله المبشر فيما قبلها ينبغي أن يكون قلبه جامعاً بين الصلابة والصفا، فيكون بصلابته الحجرية مانعاً من القواطع الشيطانية، وبرقته الزجاجية جامعاً للوامع الرحمانية، بعيداً عن القلب المائي بصلابته، وعن الحجري بصفائه واستنارته. ومن أعظم المناسبات أيضاً كون سبيل الحج إذ ذاك كان ممنوعاً بأهل الحرب، فكأنها علة لما قبلها وكأنه قيل: ولنبلونكم بما ذكر لأن الحج من أعظم شعائر هذا البيت الذي أمرتم باستقباله وهو مما يفرض عليكم وسبيله ممنوع بمن تعلمون، فلنبلونكم بقتالهم لزوال مانع الحج وقتال غيرهم من أهل الكتاب وغيرهم لإتمام النعمة بتمام الدين وظهوره على كل دين. ومن أحسنها أيضاً أنه تعالى لما ذكر البلايا بنقص الأموال بسبب الذنوب {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] أتبعها الدواء الجابر لذلك النقص ديناً ودنيا، "فإن الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والفضة "رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي أيضاً عن عدة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما بينته في كتابي الاطلاع على حجة الوداع
وقال الحرالي: لما تقدم ذكر جامعة من أمر الحج في قوله سبحانه وتعالى {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] من حيث أن النعمة المضافة إليه أحق بنعمة الدين وفي ضمنها نعمة الدنيا التي لم يتهيأ الحج إلا بها من الفتح والنصر والاستيلاء على كافة العرب كما قال تعالى فيما أنزل يوم تمام الحج الذي هو يوم عرفة {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] وذلك بما أتم الله سبحانه وتعالى عليهم من نعمة تمام معالم الدين وتأسيس الفتح بفتح أم القرى التي في فتحها فتح جميع الأرض لأنها قيام الناس نظم تعالى بما تلاه من الخطاب تفصيلاً من تفاصيل أمر الحج انتظم بأمر الذين آمنوا من حيث ما في سبب إنزاله من التحرج للذين أعلموا برفع الجناح عنهم وهم طائفة من الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد فتحرجوا من التطوف بين الصفا والمروة.
وطائفة أيضاً خافوا أن يلحقهم في الإسلام بعملهم نحو ما كانوا يعملونه في الجاهلية نقص في عمل الإسلام، فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن ذلك موضوع عنهم لمختلف نياتهم فإن الأعمال بالنيات، فما نوي لله كان لله ولم يُبل فيه بموافقة ما كان من عاداتهم في الجاهلية، وفي فقهه صحة السجود لله سبحانه وتعالى لمن أكره على السجود للصنم، وفي طي ذلك صحة التعبد لله بكلمة الكفر لمن أكره عليها، أذن صلى الله عليه وسلم غير مرة في أن يقول فيه قائل ما يوافق الكفار بحسن نية للقائل في ذلك ولقضاء حاجة له من حوائح دنياه عند الكفار، فظهر بذلك كونه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، يقبل الضمائر ولا يبالي بالظواهر في أحوال الضرائر، فرفع الله سبحانه وتعالى عنهم الجناح بحسن نياتهم وإخلاصهم لله سبحانه وتعالى عملهم، فبهذا النحو من التقاصر في هذه الرتبة انتظم افتتاح هذا الخطاب بما قبله من أحوال الذين آمنوا من المبتلين بما ذكر- انتهى.
{من شعائر الله} أي أعلام دين الملك الأعلى الذي دان كل شيء لجلاله. وقال الحرالي: وهي أي الشعائر ما أحست به القلوب من حقه، وقال: والشعيرة ما شعرت به القلوب من أمور باطنة {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32] وإنما ذكرها تعالى بالشعائر وعملها معلم من معالم الإسلام وحرمة من حرم الله لما كان حكم في أمر القلوب التي كان في ضمائرها تحرجهم فمن حيث ذكرها بالشعيرة صححها الإخلاص والنية {فمن حج} من الحج وهو ترداد القصد إلى ما يراد خيره وبره. وقال الأصفهاني: أصله زيادة شيء تعظمه -انتهى.
{البيت} ذكر البيت في الحج والمسجد الحرام في التوجه لانتهاء الطواف إلى البيت واتساع المصلى من حد المقام إلى ما وراءه لكون الطائف منتهياً إلى البيت وكون المصلي قائماً بمحل أدب يؤخره عن منتهى الطائف مداناة البيت، وذكره تعالى بكلمة "من "المطلقة المستغرقة لأولي العقل تنكباً بالخطاب عن خصوص المتحرجين، ففي إطلاقه إشعار بأن الحج لا يمنعه شيء مما يعرض في مواطنه من مكروه الدين لاشتغال الحاج بما هو فيه عما سواه، ففي خفي فقهه إعراض الحاج عن مناكر تلك المواطن التي تعرض فيها بحسب الأزمان والأعصار، ويؤكد ذلك أن الحج آية الحشر وأهل الحشر لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37] فكذلك حكم ما هو آيته؛ وحج البيت إتيانه في خاتمة السنة من الشهور الذي هو شهر ذي الحجة أنه ختم العمر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حيث ختم الله سبحانه وتعالى عمره بعمل الحج؛ قال سبحانه وتعالى {أو اعتمر} فذكر العمرة مع الحج لما كان الطواف بين الصفا والمروة من شعائر العملين {فلا جناح} وهو المؤاخذة على الجنوح، والجنوح الميل عن جادة القصد- انتهى {عليه أن يطوف} أي يدور بهمة وتعمد ونشاط {بهما} بادياً بما بدأ الله. قال الحرالي: رفع الجناح عن الفعل حكم يشترك فيه الجائز والواجب والفرض والمباح حتى يصح أن يقال: لا جناح عليك أن تصلي الظهر، كما يقال: لا جناح عليك أن تطعم إذا جعت؛ وإنما يشعر بالجواز والتخيير نفي الجناح عن الترك لا عن الفعل، كما قال عليه الصلاة والسلام للذين سألوه عن العزل: "لا جناح عليكم أن لا تفعلوا" أي أن لا تُنزلوا، لأن الفعل كناية عن الثبوت لا عن الترك الذي هو معنى العزل "وهو الذي قررته عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال عروة: ما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما، فقالت: لو كان كما تقول كان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما الحديث. قلت: ولعل التعبير بالنفي إنما اختير ليدل على نفي ما توهموه بالمطابقة، وتقع الدلالة على الوجوب بإفهام الجزاء لأن من حج أو اعتمر ولم يتطوف بهما كان عليه حرج، وبالسنة التي بينته من قوله صلى الله عليه وسلم:"اسعوا فإن الله قد كتب عليكم السعي "ومن فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله." خذوا عني مناسككم "ومن عدهما من الشعائر ونحو ذلك. قال الحرالي: وما روي من قراءة من قرأ {أن لا يطوف بهما} فليست {لا} نافية على حد ما نفت معناه عائشة رضي الله تعالى عنها وإنما هي مؤكدة للإثبات بمنزلة {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12] و {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29] لأن من تمام المبهم استعماله في المتقابلين من النفي والإثبات كاستعماله في وجوه من التقابل كما تستعمل {ما} في النفي والإثبات، وكذلك جاءت" لا "في لسان العرب بمنزلتها في الاستعمال وإن كان دون ذلك في الشهرة، فوارد القرآن معتبر بأعلى رتبة لغة العرب وأفصحها، لا يصل إلى تصحيح عربيته من اقتصر من النحو والأدب على ما دون الغاية لعلوه في رتبة العربية إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [الزخرف: 2] انتهى... قال الحرالي: وذكره تعالى بالتطوف الذي هو تفعّل أي تشبه بالطواف، ومع البيت بالطواف في قوله تعالى:
{أن طهرا بيتي للطائفين} [البقرة: 125] لما كان السعي تردداً في طول، والمراد الإحاطة بهما، فكان في المعنى كالطواف لا في الصورة، فجعله لذلك تطوفاً أي تشبهاً بالطواف -انتهى.
ولما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يقصدوا بترك الطواف بينهما إلا الطاعة فأعلموا أن الطواف بينهما طاعة، عبر بما يفيد مدحهم فقال تعالى: {ومن تطوع} قَالَ الحرالي: أي كلف نفسه معاهدة البر والخير من غير استدعاء له {خيراً} فيه إعلام بفضيلة النفقة في الحج والعمرة بالهدي ووجوه المرافق للرفقاء بما يفهمه لفظ الخير، لأن عرف استعماله في خير الرزق والنفقة، كما قال تعالى: {وإنه لحب الخير لشديد} [العاديات: 8] و {إن ترك خيراً} [البقرة: 180]؛ ولما كان رفع الجناح تركاً عادلها في الخطاب بإثبات عمل خير ليقع في الخطاب إثبات يفيد عملاً حين لم يفد الأول إلا تركاً، فمن تحقق بالإيمان أجزل نفقاته في الوفادة على ربه واختصر في أغراض نفسه، ومن حرم النصف من دنياه اقتصر في نفقاته في وفادته على ربه وأجزل نفقاته في أغراض نفسه وشهوات عياله، فذلك من أعلام المؤمنين وأعلام الجاهلين، من وفد على الملك أجزل ما يقدم 474 بين يديه، وإنما قدمه بالحقيقة لنفسه لا لربه، فمن شكر نعمة الله بإظهارها 475 حين الوفادة 476، عليه في آية بعثه إليه ولقائه له شكراً لله له ذلك يوم يلقاه، فكانت هدايا الله له يوم القيامة أعظم من هديه إليه يوم الوفادة عليه في حجه وعمرته {فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {شاكر} أي مجاز بالأعمال مع المضاعفة لثوابها؛ قال الحرالي: وقوله: {عليم} فيه تحذير من مداخل الرياء والسمعة في إجزال النفقات لما يغلب على النفس من التباهي في إظهار الخير- انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
علم مما تقدم أن مسألة القبلة جاءت في معرض الكلام عن معاندة المشركين وأهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان التحويل شبهة من شبهاتهم وتقدم أن من لوازم حكم تحويل القبلة إلى البيت الحرام، توجيه قلوب المؤمنين إلى الاستياء عليه كما يوجهون إليه وجوههم لأجل تطهيره من الشرك والآثام، كما عهد الله إلى أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإلا كانوا راضين باستقبال الأصنام، وأن في طي {ولأتم نعمتي عليكم} بشارة هذا الاستياء، مفيدة الأمل والرجاء، وقد علم الله المؤمنون بعد هذه البشارة ما يستعينون به على الوصول إليها هي وسائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة وأشعرهم بما يلاقون في سبيل الحق من المصائب والشدائد، فكان من المناسب بعد هذا أن يذكر شيئا يؤكد تلك الإشارة ويقوي ذلك الأمل فذكر شعيرة من شعائر الحج هي السعي بين الصفا والمروة. فكان ذكرها تصريحا ضمنيا بأن سيأخذون مكة ويقيمون مناسك إبراهيم فيها، وتتم بذلك لهم النعمة والهداية، وهو قوله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطرف بهما}
فهذه الآية ليست منقطعة عن السياق السابق لإفادة حكم جديد لا علاقة له بما قبله كما توهم بل هي من تتمة الموضوع ومرتبطة به أشد الارتباط، من حيث هي تأكيد للبشارة، ومن حيث الحكم الذي فيها من مناسك الحج التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي صلى الله عليه وسلم ملته وجعلت الصلاة إلى قبلته. كأنه قال: لا تلوينكم قوة المشركين في مكة، وكثرة الأصنام على الكعبة، والصفا والمروة، عن القصد إلى تطهير البيت الحرام، وإحياء تلك الشعائر العظيمة، كما لا يلوينكم عن استقبال البيت تقول أهل الكتاب والمشركين، ولا زلزال مرضى القلوب من المنافقين، بل ثقوا بوعد الله، واستعينوا بالصبر والصلاة...
الأستاذ الإمام: وصف الباري تعالى بالشاكر لا يظهر على حقيقته فلا بد من حمله على المجاز. فالشكر في اللغة مقابلة النعمة والإحسان، بالثناء والعرفان، وشكر الناس الله في اصطلاح الشرع عبارة عن صرف نعمه فيما خلقت لأجله، وكلاهما لا يظهر بالنسبة إلى الله تعالى إذ لا يمكن أن يكون لأحد عنده يد أو يناله من أحد نعمة يشكرها له بهذا المعنى. فالمعنى إذا أن الله تعالى قادر على إثابة المحسنين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكرا، وسمى الله تعالى نفسه شاكرا.
وأزيد على قول الأستاذ أن الله تعالى وعد الشاكرين لنعمه بالمزيد منها، فسمي هذا شكرا من باب المشاكلة. والنكتة في اختيار هذا التعبير تعليمنا الأدب فقد علمنا سبحانه وتعالى بهذا أدبا من أكمل الآداب بما سمى إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم مع أن عملهم لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرا فيكون إنعاما عليه ويدا عنده، وإنما منفعته لهم فهو في الحقيقة من نعمه عليهم إذ هداهم إليه، وأقدرهم عليه، فهل يليق بمن يفهم هذا الخطاب الأعلى، أن يرى نعم الله عليه لا تعد ولا تحصى، وهولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما سيقت لأجله؟ ثم هل يليق به أن يرى بعض الناس يسدي إليه معروفا ثم لا يشكره له ولا يكافئه عليه، وإن كان هو فوق صاحب المعروف رتبة وأعلى منه طبقة؟ كيف وقد سمى الله تعالى جده وجل ثناؤه إنعامه على من يحسنون إلى أنفسهم وإلى الناس شكرا، والله الخالق وهم المخلوقون، وهو الغني الحميد وهم الفقراء المعوزون؟
[إن] شكر النعمة والمكافأة على المعروف من أركان العمران وترك الشكر والمكافأة مفسدة لا تضاهيها مفسدة، إذ هي مدعاة ترك المعروف كما أن الشكر مدعاة المزيد، ولذلك أوجب الله تعالى علينا شكره، وجعل في ذلك مصلحتنا ومنفعتنا، لأن كفران نعمه بإهمالها أو بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله أو بعدم ملاحظة أنها من فضله وكرمه تعالى كل ذلك من أسباب الشقاء والبلاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يستهدف هذا الدرس تصحيح عدد من القواعد التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح؛ مع الاستمرار في مواجهة يهود المدينة الذين لا يكفون عن تلبيس الحق بالباطل في هذه القواعد؛ وكتمان الحق الذي يعلمونه في شأنها؛ وإيقاع البلبلة والاضطراب فيها.. ولكن السياق يتخذ في هذا الدرس أسلوب التعميم؛ وعرض القواعد العامة، التي تشمل اليهود وغيرهم ممن يرصدون للدعوة. وكذلك يحذر المسلمين من المزالق التي تترصدهم في طريقهم بصفة عامة. ومن ثم نجد بيانا في موضوع الطواف بالصفا والمروة، بسبب ما كان يلابس هذا الموضوع من تقاليد الجاهلية. وهو بيان يتصل كذلك بمسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وإقرار شعائر الحج إلى هذا البيت. لذلك يليه في السياق بيان في شأن أهل الكتاب الذي يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى؛ وحملة عنيفة عليهم؛ مع فتح باب التوبة لمن يريد أن يتوب. فأما الذين يصرون على الكفر فيعدهم اللعنة الجامعة، والعذاب الشديد الدائم. ثم بيان لوحدانية الله، وتوجيه إلى الآيات الكونية الشاهدة بهذه الحقيقة. وتنديد بمن يتخذون من دون الله اندادا. وعرض مشهد من مشاهد القيامة للتابعين منهم والمتبوعين. يتبرأ بعضهم من بعض وهم يرون العذاب. وبمناسبة ما كان يجادل فيه اليهود من الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، مما نزل به القرآن وبيانه عندهم فيما يكتمونه من التوراة.. تجيء دعوة إلى الناس كافة للاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله؛ وتحذير من الشيطان الذي يأمرهم بالسوء والفحشاء. تليها دعوة خاصة للذين آمنوا للاستمتاع بما أحل الله لهم والامتناع عما حرم عليهم، وبيان هذه المحرمات التي يجادل فيها اليهود ويماحلون وهم يعلمون. ومن ثم حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا. وتهديد رعيب بما ينتظرهم في الآخرة من إهمال وغضب واحتقار. وفي نهاية الدرس يرد بيان عن حقيقة البر يتضمن قواعد الإيمان والعمل الصالح، يصحح به التصور الإيماني؛ فليس هو شكليات ظاهرية، وتقليبا للوجوه قبل المشرق والمغرب، ولكنه شعور وعمل وارتباط بالله في الشعور والعمل.. وتبدو العلاقة بين هذا البيان والجدل الذي ثار حول القبلة واضحة. وهكذا نجد السياق ما يزال في المعركة.. المعركة في داخل النفوس لتصحيح التصورات والموازين. والمعركة مع الكيد والدس والبلبلة التي يقوم بها أعداء المسلمين..
(ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم).. فيلمح إلى أن هذا الطواف من الخير، وبذلك ينفي من النفوس كل حرج، ويطيب القلوب بهذه الشعائر، ويطمئنها على أن الله يعدها خيرا، ويجازي عليها بالخير. وهو يعلم ما تنطوي عليه القلوب من نية وشعور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي « أسباب النزول» للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك...
{فإن الله شاكر عليم} دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيراً جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن، عليم لا يخفى عنه إحسانه، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلاّ عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله: {شاكر عليم}
والأظهر عندي أن {شاكر}: شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدي إليه نعمة، وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن...
{ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} هذا القول يقتضي أن نفهم أن الشاكر أصابته نعمة من المشكور، فما الذي أصاب الحق هنا من تكرار الحج؟. إن المؤمن عندما يؤدي ما افترضه الله عليه فهو يؤدي الفرض، لكن عندما يزيد بالتطوع حبا في النسك ذاته فهذه زيادة يشكره الله عليها، إذن فالشكر من الله عز وجل يفيد أن نعمة ستجيئ، والحق سبحانه وتعالى حين يفترض على عبد كذا من الفروض يلتزم العبد بذلك، فإذا زاد العبد من جنس ما افترضه الله عليه، فقد دل ذلك على حبه وعشقه للتكليف من الله، وإذا ما أحب وعشق التكليف من الله بدون أن يطلبه الله منه ويلزمه به بل حبّبه إليه، فهو يستحق أن يشكره الله عليه، وشكر الله للعبد هو عطاء بلا نهاية...