ثم أكد - سبحانه - هذا الإِصرار من الكافرين على كفرهم فقال : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }أى : إننا لم نكتف بجعل الأغلال فى أعناقهم ، بل أضفنا إلى ذلك أننا جعلنا من أمامهم حاجزا عظيما ومن خلقهم كذلك حاجزا عظيما . { فأغشيناهم } أى : فجلعنا على أبصارهم غشاوة وأغطية تمنعهم من الرؤية { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } شيئا بسبب احتجاب الرؤية عنهم .
فالآية الكريمة تمثيل آخر لتصميمهم على كفرهم ، حيث شبههم - سبحانه - بحال من أحاطت بهم الحواجز من كل جانب ، فمنعتهم من الرؤية والإِبصار .
ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهاتين الآيتين : ثم مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل على ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين فى أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رءوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم فى أن لا تأمل ولا تبصر ، وأنهم متعاملون عن النظر فى آيات الله .
وقد ذكروا فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة ، أن أبا جهل قال : لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزل الله - تعالى - قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً . . . } فكانوا يقولن لأبى جهل : هذا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : أين هو ؟ ولا يبصره .
وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً . فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) . .
إن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم ، موضوعة تحت أذقانهم . ومن ثم فإن رؤوسهم مرفوعة قسراً ، لا يملكون أن ينظروا بها إلى الأمام ! ومن ثم فهم لا يملكون حرية النظر والرؤية وهم في هذا المشهد العنيف ! وهم إلى هذا محال بينهم وبين الحق والهدى بسد من أمامهم وسد من خلفهم ؛ فلو أرخي الشد فنظروا لم تنفذ أبصارهم كذلك من هذه السدود ! وقد سدت عليهم سبيل الرؤية وأغشيت أبصارهم بالكلال !
ومع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع ، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلاً عنيفاً كهذا بينهم وبينه . وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي ، وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع ، فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك . مشدودة عن الهدى قسراً وملفوتة عن الحق لفتاً . وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك . وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود . وهو يصدع بالحجة ، ويدلي بالبرهان . وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان .
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا } : قال مجاهد : عن الحق ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } قال مجاهد : عن الحق ، فهم يترددون . وقال قتادة : في الضلالات .
وقوله : { فَأَغْشَيْنَاهُمْ } أي : أغشينا أبصارهم عن الحق ، { فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } أي : لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه .
قال ابن جرير : وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : " فأعشيناهم " بالعين المهملة ، من العشا وهو داء في العين .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : جعل الله هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ثم قال : من منعه الله لا يستطيع .
وقال عكرمة : قال أبو جهل : لئن رأيتُ محمدًا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا } إلى قوله : { [ فَهُمْ ] لا يُبْصِرُونَ }{[24670]} ، قال : وكانوا يقولون : هذا محمد . فيقول : أين هو أين هو ؟ لا يبصره . رواه ابن جرير .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب قال : قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه{[24671]} كنتم ملوكا ، فإذا متم{[24672]} بعثتم بعد موتكم ، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها . وخرج [ عليهم ]{[24673]} رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وفي يده حفنة من تراب ، وقد أخذ الله على أعينهم دونه ، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم ، ويقرأ : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } حتى انتهى إلى قوله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ، وباتوا رُصَدَاء على بابه ، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار ، فقال : ما لكم ؟ قالوا : ننتظر محمدًا . قال قد خرج عليكم ، فما بقي منكم من رجل إلا [ قد ]{[24674]} وضع على رأسه ترابا ، ثم ذهب لحاجته . فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب . قال : وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قول أبي{[24675]} جهل فقال : " وأنا أقول ذلك : إن لهم مني لذبحا ، وإنه أحدهم " .
وقوله : وَجَعَلْنا مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا يقول تعالى ذكره : وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سدّا ، وهو الحاجز بين الشيئين إذا فتح كان من فعل بني آدم ، وإذا كان من فعل الله كان بالضمّ . وبالضمّ قرأ ذلك قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين . وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفيين بفتح السين سَدّا في الحرفين كلاهما والضم أعجب القراءتين إليّ في ذلك ، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة .
وعنى بقوله : وَجَعَلْنا مِن بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا أنه زيّن لهم سوء أعمالهم ، فهم يَعْمَهون ، ولا يبصرون رشدا ، ولا يتنبهون حقا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا قال : عن الحقّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَجَعَلْنا مِنْ بين أيْديهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفهِمْ سَدّا عن الحقّ فهم يتردّدون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا قال : ضلالات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَجَعَلْنا مِنْ بَينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال : جعل هذا سدّا بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وقرأ : إنّ الّذِينَ حَقّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ . . . الاَية كلها ، وقال : من منعه الله لا يستطيع .
وقوله : فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يقول : فأغشينا أبصار هؤلاء : أي جعلنا عليها غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ هُدًى ، ولا ينتفعون به .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أبي جهل بن هشام حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة . ذكر الرواية بذلك :
حدثني عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا عُمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا لأفعلنّ ولأفعلنّ ، فأنزلت : إنّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِمْ أغْلالاً . . . إلى قوله فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال : فكانوا يقولون : هذا محمد ، فيقول : أين هو ، أين هو ؟ لا يبصره .
وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : «فَأَعْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ » بالعين بمعنى أعشيناهم عنه ، وذلك أن العَشَا هو أن يمشي بالليل ولا يبصر .
وقرأ الجمهور «سُداً » بضم السين في الموضعين ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وطلحة وابن وثاب وعكرمة والنخعي وابن كثير «سَداً » بفتح السين ، وقال أبو علي : قال قوم هما بمعنى واحد أي حائلاً يسد طريقهم ، وقال عكرمة : ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح .
قال القاضي أبو محمد : والسد ما سد وحال ، ومنه قول الأعرابي في صفة سحاب : طلع سد مع انتشار الطفل{[9773]} ، أي سحاب سد الأفق ، ومنه قولهم : جراد سد{[9774]} ، ومعنى الآية أن طريق الهدى سد دونهم ، وقرأ جمهور الناس «فأغشيناهم » بالغين منقوطة أي جعلنا على أعينهم غشاوة ، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين «فأعشيناهم » بالعين غير منقوطة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي من العشى أي أضعفنا أبصارهم{[9775]} والمعنى { فهم لا يبصرون } رشداً ولا هدى ، وقرأ يزيد البربري «فأغشيتهم » بتاء دون ألف وبالغين منقوطة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَجَعَلْنا مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا" يقول تعالى ذكره: وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سدّا، وهو الحاجز بين الشيئين، إذا فتح كان من فعل بني آدم، وإذا كان من فعل الله كان بالضمّ. وبالضمّ قرأ ذلك قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين. وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفيين بفتح السين سَدّا في الحرفين كلاهما، والضم أعجب القراءتين إليّ في ذلك، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة.
وعنى بقوله: "وَجَعَلْنا مِن بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا "أنه زيّن لهم سوء أعمالهم، فهم يَعْمَهون، ولا يبصرون رشدا، ولا يتنبهون حقا...
وقوله: "فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ" يقول: فأغشينا أبصار هؤلاء: أي جعلنا عليها غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أغرقناهم اليومَ في بحار الضلالة وأحْطنا بهم سرادقات الجهالة. وفي الآخرة سنُغْرِقُهم في النار والأنكال، ونضيِّقُ عليهم الحال، بالسلاسل والأغلال. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}: أعميناهم اليومَ عن شهود الحُجَّة، ونُلَبِّسُ في الآخرة سبيلَ المَحَجَّة، فَيتَعَثَّرُون في وَهَدَاتِ جهنم داخرين، ويبقون في حُرُقَاتها مهجورين، مطرودين ملعونين، لا نَقْطَعُ عنهم ما به يُعَذَّبُون، ولا نَرْحمهم مما منه يَشْكُون؛ تَمَادَى بهم حِرْمانُ الكفر، وأحاطت بهم سرادقاتُ الشقاء، وَوقعت عليهم السِّمَةُ بالفراق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
..."فأغشيناهم" فأغشينا أبصارهم أي: غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي وعن مجاهد: فأغشيناهم: فألبسنا أبصارهم غشاوة.
{وجعلنا من بين أيديهم سدا}؛ مسائل:
المسألة الأولى: السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة، فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة ومن بين أيديهم سدا فلا يقدرون على السلوك، وأما السد من خلفهم، فما الفائدة فيه؟
الأول: هو أن الإنسان له هداية فطرية، والكافر قد يتركها، وهداية نظرية، والكافر ما أدركها، فكأنه تعالى يقول: جعلنا من بين أيديهم سدا، فلا يسلكون طريقة الاهتداء التي هي نظرية، {وجعلنا من خلفهم سدا} فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية.
الثاني: هو أن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه، فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من المصير إلى الله ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله.
الثالث: هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق، فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد، ولكنه يرجع، وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه، فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم} إشارة إلى إهلاكهم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {فأغشيناهم} بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق، ويكون الإغشاء مرتبا على جعل السد فكيف ذلك؟
أحدهما: أن يكون ذلك بيانا لأمور مترتبة يكون بعضها سببا للبعض فكأنه تعالى قال: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا} فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: وجعلنا على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون شيئا أصلا.
وثانيهما: هو أن ذلك بيان لكون السد قريبا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقا بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئا، أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريبا من العين جدا.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
" لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون.
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون.
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم".
(سورة يس – الآيات: 7، 8، 9،10)
علم الله أن نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم – يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وإنقاذهم من الهلكة.
وعلم أنهم لا يؤمن به إلا أقلهم، وعلم أن ذك يكون من أعظم ما يؤلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم – لشدة حرصه على إيمانهم، و عظيم شفقته عليهم، ولعدم ظهوره ثمرة ما بذل من جهد في هدايتهم.
فأراد – تعالى – أن يقوي قلب نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم – على تحمل ذك بإعلامه به من أول الأمر، إذ ليس المؤلم المتوقع كالمؤلم الذي يصدم عن مفاجأة،وأعظم منه الذي يصدم مع توقع ضده، كما هنا: فإن المتوقع منهم بعد الإنذار البالغ بالبرهان الساطع. هو إيمان أكثرهم لا كفره...
لقد وجد وثبت ما سبق في علم الله، في أكثرهم، وما كان في قوله بعدم إيمانهم؛ فلا يرجى من ذلك الأكثر – الذي سبق في علم الله عدم إيمانه – إيمان...
قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار وما نصب له من آيات مشاهدات، وما أرسل إليهم من رسل بآيات بينات.
وهذه كلها أمور معلومة لديهم، ضرورية عندهم، لا يستطيعون أن ينكروا شيئا منها؛ فلا يمكنهم أن يجحدوا ما عندهم من عقل ومن اختيار ولا أن ينفوا ما يشاهدونه من الآيات في المخلوقات، ولا أن ينكروا مجيء الرسل إليهم وما تلو عليهم من آيات.
وبهذه الأشياء قامت حجة الله عليهم، كان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم.
فأما ما سبق من علم الله فهو أمر مغيب عنهم، غير مؤثر فيهم؛ لأن العلم ليس من صفات التأثير ولا دافع لهم، فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم؛ لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب منهم؟ وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.
تقوم حجة الله على العبد أولا. ويعمل هو – كاسبا ومكتسبا – باختياره ثانيا، ويظهر لنا مما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثا.
ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم...
لله المثل الأعلى، فقد أحاط بكل شيء علما، فعلم من سيطيعه: ومن سيعصي.
ولكنه الحكم العدل، فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه.
بل جعل جزاءهم بعد إقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم، ليكون جزاءهم على ما عملوا، وما قدمت أيديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب.
أرأيت كيف أن الله – تعالى – لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم على أعمالهم.
فهذا تعليم لنا: كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض؟ فلا نجازي على مجرد الظن، بل ولا على مجرد اليقين. وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال.
فرب شخص قدرت فيه الخير أو الشر، ففعل ضد ما قدرت! فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه، ولنال كل ما لا يستحقه.
فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه، وهذا ما ينبغي أن نربط به المجازاة بيننا.
تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه:
"إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.
وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون".
لما ذكر عدم إيمانهم، وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الإيمان، ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الإعراض عنه...
إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالا ضيقة عريضة، تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الإيمان، لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا.
وجعلنا أمامهم حجابا وخلفهم حجابا محيطين و ملتزقين بهم و مغطيين لجميع ذواتهم، فلا يستطيعون معها تحريكا و لا إبصارا.
دعوا إلى الإيمان والتوحيد ومكارم الأخلاق، وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها؛ شبهوا بالإبل المقمحة عن الماء.
ثم إن هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة، تدرك باستعمال النظر فيما بين الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها، وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها.
فلما أعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملتزقين و محيطين به، فجمد في مكانه؛ فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئا.
كل ما دعا إليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال، فهو مما تقبله الفطر السليمة، وتدركه العقول بالنظر الصحيح.
فمن قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد، وخالف فطرته، وعاكس عقله، كان حقيقا بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة، والطبع على القلب؛ فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ، الذي صورها في أبشع وأفظع صورة؛ ليحذرنا من الإعراض عن الحق والعناد له، ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله.
لكل إنسان فطرته وعقله، فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما راجعين إلى الفطرة الإنسانية، وإلى العقل البشري منزهين عن الأغراض والأهواء والأوهام والشبهات.
فإذا كان هلاك هؤلاء بعدم الاستفادة منهما، فإن النجاة عن ما تعرض الأمور بالرجوع إليهما.
ونجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة؛ ليعلمنا الرجوع إليهما والاستفادة منهما.
من استوى عنده الإنذار وعدم الإنذار لا يرجى منه إيمانا:
" وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون".
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلاً عنيفاً كهذا بينهم وبينه. وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي، وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع، فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك. مشدودة عن الهدى قسراً وملفوتة عن الحق لفتاً. وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك. وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود. وهو يصدع بالحجة، ويدلي بالبرهان وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً}.
هذا ارتقاء في حرمانهم من الاهتداء لو أرادوا تأملاً بأنّ فظاظة قلوبهم لا تقبل الاستنتاج من الأدلة والحجج بحيث لا يتحولون عما هم فيه، فمُثّلت حالهم بحالة من جُعلوا بين سدَّيْن، أي جدارين: سداً أمامهم، وسداً خلفهم، فلو راموا تحوّلاً عن مكانهم وسعيهم إلى مرادهم لما استطاعوه كقوله تعالى: {فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون} [يس: 67]
وإعادة فعل {وجعلنا} على الوجه الأول في معنى قوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} [يس: 8] الآية، تأكيد لهذا الجعل، وأما على الوجه الثاني في معنى {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} فإعادة فعل {وجعلنا} لأنه جَعْل حاصل في الدُّنيا فهو مغاير للجعل الحاصل يوم القيامة.
وقرأ الجمهور {سداً} بالضم وهو اسم الجدار الذي يَسُدّ بين داخل وخارج.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالفتح وهو مصدر سمي به ما يُسد به.
{فأغشيناهم فَهُمْ لا يبصرون}: تفريع على كلا الفعلين {جعلنا في أعناقهم أغلالاً} [يس: 8] و {جعلنا من بين أيديهم سُدّاً ومن خلفهم سداً} لأن في كلا الفعلين مانعاً من أحوال النظر.
وفي الكلام اكتفاء عن ذكر ما يتفرع ثانياً على تمثيلهم بمن جعلوا بين سُدين من عدم استطاعة التحول عمّا هم عليه.
{فهم لا يبصرون} وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإِفادة تقوي الحكم، أي تحقيق عدم إبصارهم.
هل معنى هذا أن الله تعالى يساعدهم، ويُعينهم على الكفر؟ قالوا: نعم لأن عبدي حين أناديه فيتأبَّى عليَّ في ندائي، ولا يُقبِل عليَّ بعبوديته لي أعينه على كفره؛ لأنني رَبٌّ غني عنه، فإنْ أحب الكفر وعشقه ولم يَعُدْ هناك أمل في هدايته أختم على قلبه، فلا يدخله إيمان، ولا يخرج منه الكفر. لذلك مَنْ تجنَّى عليك وصَدَّ عنك فأعِنْه على ذلك، ولا تُذكِّره بنفسك.
إذن: ما كفر أحد غَصْباً عن الله، إنما كفر بما أودع الله فيه من اختيار، ولأنه سبحانه رَبٌّ وهو خالق العباد، فعليه سبحانه أنْ يُعينهم، كلاً على ما يريد، فالذي أراد الإيمان وأحبَّه أعانه على الإيمان، والذي أراد الكفر وعَشِقه أيضاً أعانه عليه وساعده.
لذلك ختم الله على قلوب الكافرين، وهنا يقول: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} يعني: أمامهم {سَدّاً} حاجزاً ومانعاً {ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً}.
هذا مانع مادي خارج عن تكوين الإنسان {فَأغْشَيْنَاهُمْ} يعني: جعلنا على أبصارهم غشاوة وغطاءً، فهم مصدودون عن الحق لأشياء. أولاً: في ذواتهم أغشينا أبصارهم فلا يروْنَ ولا يهتدون؛ لأنهم بذواتهم لم يذكروا عهد الفطرة الأولى التي فطر اللهُ الناس عليها.
أما الخارج عنهم، ففي المنهج الذي لم يلتفتوا إليه، لا فيما أمامهم، ولا فيما وراءهم؛ لأن هناك سَدّاً يمنعهم، فلو تذكَّروا ما ينتظرهم لارتدعوا عن غَيِّهم، ولو تأملوا ما نزل بمَنْ سبقهم من المكذِّبين، وما حاق بهم من عذاب الله لرجعوا.
لكن جعل الله من أمامهم سَدّاً، فلا يعرفون ما ينتظرهم، ومن خَلفهم سَدّاً فلا يتدبرون ما حاق بأسلافهم، ممَّن قال الله فيهم:
{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا..} [العنكبوت: 40].
فإنْ قُلْتَ: الحق سبحانه جعل سَدّاً يمنعهم من الجهة الأمامية، وسَدّاً يمنعهم من الجهة الخلفية، فماذا لو ساروا على جنب إلى اليمين، أو إلى اليسار؟ قالوا: لو ساروا وتوجهوا إلى اليسار مثلاً لَصَار اليسار بالنسبة لهم أمام، واليمين صار خلفاً، فهم إذن مُحَاصرون بالموانع، بحيث لا أمل لهم في الرجوع إلى منهج الحق، وإلى الصواب.
ويصح أن يكون المعنى {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} أي: مانعاً يمنعهم من التأمل والنظر في الأدلة العقلية المنصوبة أمامهم ليؤمنوا {ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} يمنعهم، فلم ينتهوا إلى الفطرة الإيمانية المُودَعة فيهم.