{ 30 - 35 } { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }
يعني : أن الخبر اشتهر وشاع في البلد ، وتحدث به النسوة فجعلن يلمنها ، ويقلن : { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } أي : هذا أمر مستقبح ، هي امرأة كبيرة القدر ، وزوجها كبير القدر ، ومع هذا لم تزل تراود فتاها الذي تحت يدها وفي خدمتها عن نفسه ، . ومع هذا فإن حبه قد بلغ من قلبها مبلغا عظيما .
{ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } أي : وصل حبه إلى شغاف قلبها ، وهو باطنه وسويداؤه ، وهذا أعظم ما يكون من الحب ، { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث وجدت منها هذه الحالة التي لا تنبغي منها ، وهي حالة تحط قدرها وتضعه عند الناس ، وكان هذا القول منهن مكرا ، ليس المقصود به مجرد اللوم لها والقدح فيها ، وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي فتنت به امرأة العزيز لتحنق امرأة العزيز ، وتريهن إياه ليعذرنها ، ولهذا سماه مكرا ، فقال : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ }
ثم حكت السورة الكريمة بعد ذلك ما قالته بعض النساء ، بعد ان شاع خبر امرأة العزيز مع فتاها ، وما فعلته معهن من أفعال تدل على شدة مكرها ودهائها ، وما قاله يوسف - عليه السلام - بعد أن سمع من تهديدهن وإغرائهن . . قال - تعالى - :
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز . . . } .
قوله - سبحانه - { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ . . } حكاية لما تناقلته الألسنة عن امرأة العزيز ، فقد جرت العادة بين النساء ، أن يتحدثن عن أمثال هذه الأمور في مجالسهن ، ولا يكتمنها خصوصا إذا كانت صاحبة الحادثة من نساء الطبقة المرموقة . . كامرأة العزيز .
والنسوة : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومفرده حيث المعنى : امرأة .
والمراد بالمدينة : مدينة مصر التي كان يعيش فيها العزيز زوجته والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لنسوة .
أى : وقال نسوة من نساء مدينة مصر - على سبيل النقد والتشهير والتعجب - إن امرأة العزيز ، صاحبة المكانة العالية ، والمنزلة الرفيعة ، بلغ بها الحال في انقيادها لهواها ، وفى خروجها عن طريق العفة . . أنها تراود فتاها عن نفسه ، أى : تطلب منه مواقعتها ، وتتخذ لبلوغ غرضها شتى الوسائل والحيل .
ولم يبين لنا القرآن الكريم عدد هؤلاء النسوة ولا صفاتهم ، لأنه لا يتعلق بذلك غرض نافع ، ولأن الذي يهدف إليه القرآن الكريم هو بيان ما حدث بين يوسف وامرأة العزيز ، قد شاع أمره بين عدد من النساء في مدينة كبيرة كمصر وفى وصفها بأنها { امرأة العزيز } زيادة في التشهير بها . فقد جرت العادة بين الناس ، بأن ما يتعلق بأصحاب المناصب الرفيعة من أحداث ، يكون أكثر انتشارا بينهم ، وأشد في النقد والتجريح .
والتعبير بالمضارع في قوله - سبحانه - { تُرَاوِدُ } يشعر بأنها كانت مستمرة على ذلك ، دون أن يمنعها منه افتضاح أمرها ، وقول زوجها لها { واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين }
والمراد بفتاها يوسف - عليه السلام - ووصفْتَه بذلك لأنه كان في خدمتها ، والمبالغة في رميها بسوء السلوك ، حيث بلغ بها الحال في احتقار نفسها ، أن تكون مراودة لشخص هو خادم لها . .
وجملة { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } بيان لحالها معه ، وهى في محل نصل حال من فاعل تراود أو من مفعوله والمقصود بها تكرير لومها ، وتأكيد انقيادها لشهواتها .
وشغف مأخوذ من الشغاف - بكسر الشين - وهو غلاف القلب ، أو سويداؤه أو حجابه ، يقال : شغف الهوىو قلب فلان شغفا ، أى بلغ شغافه .
والمراد أن حبها إياه قد شق شغاف قلبها . وتمكن منه تمكنا لا مزيد عليه و " حبا " تمييز محول عن الفاعل ، والأصل : شغفها حبها إياه .
وجملة { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } مقررة لمضمون ما قبلها من لوم امرأة العزيز ، وتحقير سلوكها ، والمراد بالضلال : مخالفة طريق الصواب .
أى : إنا لنرى هذه المرأة بعين بصيرتنا ، وصادق علمنا . في خطأ عظيم واضح بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، لأنها - وهى المرأة المرموقة وزوجة الرجل الكبير - تراود خادمها عن نفسه .
والتعبير " بإنا لنراها . . " للإِشعار بأن حكمهن عليها بالضلال ليس عن جهل ، وإنما هو عن علم ورورية ، مع التلويح بأنهن يتنزهن عن مثل هذا الضلال المبين الصادر عنها .
قال صاحب المنار : " وهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر ، وكرها للرذيلة ، ولا حبا في المعروف ، ونصرا للفضيلة ، وإنما قلنه مكرا وحيلة ، ليصل إليها قولهن فيحملها على دعوتهن ، وإراءتهن بأعين أبصارهن ، ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن ، فيعذرنها فيما عذلنها عليه فهو مكر لا رأى " .
ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها . ومضت الأمور في طريقها . فهكذا تمضي الأمور في القصور !
ولكن للقصور جدرانا ، وفيها خدم وحشم . وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورا . وبخاصة في الوسط الأرستقراطي ، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن . وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات :
( وقال نسوة في المدينة : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه . قد شغفها حبا . إنا لنراها في ضلال مبين ) . .
وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون . ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز ، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر - أي كبير وزرائها - ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة :
( امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ) . .
فهي مفتونة به ، بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه ، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق :
وهي السيدة الكبيرة وزوجة الكبير ، تفتتن بفتاها العبراني المشترى . أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها ، وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار ؟ !
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة ، وهي مصر ، حتى تحدث الناس به ، { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ } مثل نساء الأمراء [ و ]{[15144]} الكبراء ، ينكرن على امرأة العزيز ، وهو الوزير ، ويعبن ذلك عليها : { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي : تحاول غلامها عن نفسه ، وتدعوه إلى نفسها ، { قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } أي قد : وصل حبه إلى شغاف قلبها . وهو غلافه .
قال الضحاك عن ابن عباس : الشَّغَف : الحب القاتل ، والشَّغَف دون ذلك ، والشغاف : حجاب القلب .
{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : في صنيعها هذا من حبها فتاها ، ومراودتها إياه عن نفسه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : وتحدّث النساء بأمر يوسف ، وأمر امرأة العزيز في مدينة مصر ، وشاع من أمرهما فيها ما كان ، فلم ينكتم ، وقلن : { امرأة العزيز تراود فتاها } : عبدها ، عن نفسه : كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وشاع الحديث في القرية ، وتحدّث النساء بأمره وأمرها ، وقلن : { امْرأةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ } ، أي : عبدها .
وأما العزيز فإنه الملك في كلام العرب ، ومنه قول أبي دؤاد :
دُرّةٌ غاصَ عَلَيْها تاجِرٌ *** جُلِيَتْ عنْدَ عَزِيزٍ يَوْمَ طَلّ
يعني بالعزيز : الملك ، وهو من العزّة .
وقوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول قد وصل حثّ يوسف إلى شغاف قلبها ، فدخل تحته حتى غلب على قلبها . وشغاف القلب : حجابه وغلافه الذي هو فيه ، وإياه عَنى النابغة الذبياني بقوله :
وَقَدْ حالَ هَمّ دُونَ ذلكَ داخِلٌ *** دُخُولَ شُغافٍ تَبْتَغِيهِ الأصَابِعُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول في قوله : { شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه تحت الشغاف .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه في شغافها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه في شغافها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : كان حبه في شغافها .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث الحسن بن محمد ، عن شبابة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول : علقها حبّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : غلبها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه عن أيوب بن عائذ الطائي عن الشعبي : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : المشغوف : المحبّ ، والمشعوف : المجنون .
وبه قال : حدثنا أبي ، عن أبي الأشهب ، عن أبي رجاء والحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : أحدهما : قد بطنها حبا ، وقال الاَخر : قد صدقها حبا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد بطنها حبّا . قال يعقوب : قال أبو بشر : أهل المدينة يقولون : قد بطنها حبّا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، قال : سمعته يقول في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطنها حبّا . وأهل المدينة يقولون ذلك .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن قرة ، عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد بطن بها حبّا .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطنها حبه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطن بها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : استبطنها حبها إياه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، أي : قد علقها .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد علقها حبّا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هو الحبّ اللازق بالقلب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول : هلكت عليه حبّا ، والشّغَاف : شَغاف القلب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : والشغاف : جلدة من على القلب ، يقال لها : لسان القلب ، يقول : دخل الحبّ الجلد حتى أصاب القلب .
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأته عامة قرأة الأمصار بالغين : { قَدْ شَغَفَها } ، على معنى ما وصفت من التأويل .
وقرأ ذلك أبو رجاء : { قَدْ شَعَفَها } ، بالعين .
حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن أبي رجاء : { قَدْ شَعَفَها } .
قال : حدثنا خلف ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي الأشهب ، أو عوف ، عن أبي رجاء : { قَدْ شَعَفَها حُبّا } ، بالعين .
قال : حدثنا خلف ، قال : حدثنا محبوب ، قال : قرأه عوف : { قَدْ شَعَفَها } .
قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن أسيد ، عن الأعرج : { قَدْ شَعَفَها حُبّا } ، وقال : شعفها : إذا كان هو يحبها .
ووجّه هؤلاء معنى الكلام إلى أن الحبّ قد عمها .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول : هو من قول القائل : " قد شُعِفَ بها " ، كأنه ذهب بها كلّ مذهب ، من شغف الجبال ، وهي رؤوسها .
ورُوي عن إبراهيم النخعي أنه قال : الشغف : شغف الحبّ . والشّعفَ : شَعَف الدابة حين تذعر .
حدثني بذلك الحارث ، عن القاسم ، أنه قال : يُروى ذلك عن أبي عوانة ، عن مغيرة عنه .
قال الحارث : قال القاسم ، يذهب إبراهيم إلى أنّ أصل الشغف : هو الذعر . قال : وكذلك هو كما قال إبراهيم في الأصل ، إلا أن العرب ربما استعارت الكلمة فوضعتها في غير موضعها قال امرؤ القيس :
أتَقْتُلِني وَقَدْ شَعَفْتُ فُؤَادَها *** كمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرّجلُ الطّالي
قال : وشعف المرأة . من الحبّ ، وشعف المهنوءة من الذّعر ، فشبه لوعة الحبّ وجواه بذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : إن الشّغْف ، والشّعَف مختلفان ، والشعْف في البغض ، والشغْف في الحبّ . وهذا الذي قاله ابن زيد لا معنى له ، لأن الشعْف في كلام العرب بمعنى : عموم الحبّ ، أشهر من أن يجهله ذو علم بكلامهم .
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك عندنا من القراءة : { قَدْ شَغَفَها } ، بالغين ؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : { إنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ، قلن : إنا لنرى امرأة العزيز في مراودتها فتاها عن نفسه ، وغلبة حبه عليها لفي خطأ من الفعل ، وجور عن قصد السبيل مبين لمن تأمله وعلمه أنه ضلال وخطأ غير صواب ولا سداد . وإنما كان قيلهنّ ما قلن من ذلك ، وتحدّثهنّ بما تحدّثن به من شأنها وشأن يوسف مكرا منهنّ فيما ذكر لتريهنّ يوسف .
{ وقال نسوة } هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها . { في المدينة } ظرف لقال أي أشعن الحاكية في مصر ، أو صفة نسوة وكن خمسا زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب . { امرأة العزيز تُراود فتاها عن نفسه } تطلب مواقعة غلامها إياها . و{ العزيز } بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة . { قد شغفها حبّاً } شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حبا ، ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه . وقرئ " شعفها " من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه . { إنا لنراها في ضلال مبين } في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب .
ذكر الفعل المسند إلى «النسوة » لتذكير اسم الجمع و { نسوة } جمع قلة لا واحد له من لفظه ، وجمع التكثير نساء ، و { نسوة } فعلة ، وهو أحد الأبنية الأربعة التي هي لأدنى العدد ، وقد نظمها القائل ببيت شعر : [ البسيط ]
بأفعل وبأفعال وأفعلة*** وفعلة يعرف الأدنى من العدد{[6649]}
ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعاً : امرأة خبازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة بوابة ، وامرأة سجانة . و { العزيز } : الملك ومنه قول الشاعر : [ الرمل ]
درة غاص عليها تاجر*** جلبت عند عزيز يوم طل{[6650]}
و «الفتى » الغلام ، وعرفه في المملوك - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ، وليقل فتاي وفتاتي »{[6651]} ، ولكنه قد يقال في غير المملوك ، ومنه { إذ قال موسى لفتاه }{[6652]} وأصل «الفتى » في اللغة الشاب ، ولكن لما كان جل الخدمة شباباً استعير لهم اسم الفتى . و { شغفها } معناه : بلغ حتى صار من قلبها موضع الشغاف ، وهو على أكثر القول غلاف من أغشية القلب ، وقيل : «الشغاف » : سويداء القلب ، وقيل : الشغاف : داء يصل إلى القلب{[6653]} .
وقرأ أبو رجاء والأعرج وعلي بن أبي طالب والحسن بخلاف ويحيى بن يعمر وقتادة بخلاف وثابت وعوف ومجاهد وغيرهم : «قد شغفها » بالعين غير منقوطة ، ولذلك وجهان :
أحدهما أنه علا بها كل مرقبة من الحب ، وذهب بها كل مذهب ، فهو مأخوذ - على هذا - من شعف الجبال وهي رؤوسها وأعاليها ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن »{[6654]} .
والوجه الآخر أن يكون الشعف لذة بحرقة يوجد من الجراحات والجرب ونحوها ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
أيقتلني وقد شعفت فؤادها*** كما شَعَفَ المهنوءةَ الرجلُ الطالي{[6655]}
والمشعوف في اللغة الذي أحرق الحب قلبه ، ومنه قول الأعشى :
تعصي الوشاة وكان الحب آونة*** مما يزين للمشعوف ما صنعا{[6656]}
وروي عن ثابت البناني{[6657]} وأبي رجاء أنهما قرآ : «قد شعِفعما » بكسر العين غير منقوطة . قال أبو حاتم : المعروف فتح العين وهذا قد قرىء به . وقرأ ابن محيصن : { قد شغفها } أدغم الدال في الشين .
وروي أن مقالة هؤلاء النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها أو يحق لومها . وقد قال ابن زيد الشغف في الحب والشغف في البغض ، وقال الشعبي : الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب والشغف : الجنونن والمشغوف : المجنون ، وهذان القولان ضعيفان .
النسوة : اسم جمع امرأة لا مفرد له ، وهو اسم جمع قِلة مثله نساء . وتقدم في قوله تعالى : { ونساءَنا ونساءَكم } في سورة آل عمران ( 61 ) .
وقوله : { في المدينة } صفة لنسوة . والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كنّ متفرقات في ديار من المدينة . وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة ( مَنْفِيسْ ) حيث كان قصر العزيز ، فنقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزيز . وقيل : إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها فأفشينه كأنّها أرادت التشاور معهن ، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن ( ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره ) . وهذا الذي يقتضيه قوله : { وأعْتَدت لهن متكئاً } [ سورة يوسف : 31 ] وقوله : { ولئن لم يفعل } [ سورة يوسف : 32 ] .
والفتى : الذي في سنّ الشباب ، ويكنى به عن المملوك وعن الخادم كما يكنى بالغلام والجارية وهو المراد هنا . وإضافته إلى ضمير امرأة العزيز } لأنه غلام زوجها فهو غلام لها بالتبع ما دامت زوجة لمالكه .
وشَغَف : فعل مشتق من اسم جامد ، وهو الشِغاف بكسر الشين المعجمة وهو غلاف القلب . وهذا الفعل مثل كَبَدهُ ورآهُ وجَبَهه ، إذا أصاب كَبده ورئته وجَبهته .
والضمير المستتر في { شغفها } ل { فتاها } . ولما فيه من الإجمال جيء بالتمييز للنسبة بقوله : { حبّا } . وأصله شغفها حبه ، أي أصاب حبه شغافها ، أي اخترق الشغاف فبلغ القلب ، كناية عن التمكن .
وتذكير الفعل في { وقال نسوة } لأن الفعل المسند إلى ألفاظ الجموع غير الجمع المذكر السالِم يجوز تجريده من التاء باعتبار الجمع ، وقرنه بالتاء باعتبار الجماعة مثل { وجاءت سيارة } [ سورة يوسف : 19 ] .
وأما الهاء التي في آخر { نسوة } فليست علامة تأنيث بل هي هاء فِعلة جمع تكسير ، مثل صبية وغلمة .
وقد تقدم وجه تسمية الذي اشترى يوسف عليه السّلام باسم العزيز عند قوله تعالى : { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته } [ سورة يوسف : 21 ] . وتقدم ذكر اسمه واسمها في العربية وفي العبرانية .
ومجيء تراود } بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت لقصد استحضار الحالة العجيبة لقصد الإنكار عليها في أنفسهن ولومها على صنيعها . ونظيره في استحضار الحالة قوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ سورة هود : 74 ] .
وجملة قد شغفها حباً } في موضع التعليل لجملة { تراود فتاها } .
وجملة { إنا لنراها في ضلال مبين } استئناف ابتدائي لإظهار اللوم والإنكار عليها . والتأكيد ب ( إنّ ) واللام لتحقيق اعتقادهِن ذلك ، وإبعاداً لتهمتهن بأنهن يحسدنها على ذلك الفتى .
والضلال هنا : مخالفة طريق الصواب ، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى ، وليس المراد الضلال الديني . وهذا كقوله تعالى آنفاً : { إن أبانا لفي ضلال مبين } [ سورة يوسف : 8 ] .