وبعد هذا النداء الذى يحمل أكرم البشارات للمؤمنين ، ذم - سبحانه - الكافرين ذما شديداً ، فقال : { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } .
والاسم الموصول مبتدأ وخبره محذوف ، و { تَعْساً } منصوب على المصدر بفعل مضمر من لفظه ، واللام فى قوله { لَّهُمْ } لتبيين المخاطب ، كما فى قولهم : سقيا له ، أى : أعنى له يقال : تعس فلان - من باب منع وسمع - بمعنى هلك .
قال القرطبى ما ملخصه وقوله : { تَعْساً لَّهُمْ } نصب على المصدر بسبيل الدعاء ، مثل سقيا له . . وفيه عشرة أقوال : الأول : بعداً لهم . الثانى : حزنا لهم . . الخامسه هلاكا لهم . . يقال : تعسا لفلان ، أى ألزمه الله هلاكا .
ومنه الحديث الشريف : " تعس بعد الدينار والدرهم والقطيفة . إن أعطى رضى ، وإن لم يعط لم يرض " .
وفى رواية : " تعس وانتكس ، وإذا شيك - أى أصابته شوكة - فلا انتقش " أى : فلا شفى من مرضه .
والمعنى : والذين كفروا فتعسوا تعسا شديدا ، وهلكوا هلاكا مبيراً ، وأضل الله - تعالى - أعمالهم ، بأن أحبطها ولم يقبلها منهم ، لأنهم صدرت عن نفوس أشركت مع خالقها ورازقها آلهة أخرى فى العبادة .
فقوله : { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } معطوف على الفعل المقدر الذى نصب به لفظ " تعسا " ودخلت الفاء على هذا اللفظ ، تشبيها للاسم الموصول بالشرط .
ثم قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ } ، عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تَعِس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد القَطِيفة - [ وفي رواية : تعس عبد الخميصة ] {[26634]} - تعس وانتكس ، وإذا شِيكَ فلا انتقش " ، أي : فلا شفاه الله .
وقوله : { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : أحبطها وأبطلها ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لّهُمْ وَأَضَلّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : وَالّذِينَ كَفَرُوا بالله ، فجحدوا توحيده فَتَعْسا لَهُمْ يقول : فخزيا لهم وشقاء وبلاء . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسا لَهُمْ قال : شقاء لهم .
وقوله : وأضَلّ أعمالَهُمْ يقول وجعل أعمالهم معمولة على غير هدى ولا استقامة ، لأنها عملت في طاعة الشيطان ، لا في طاعة الرحمن . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأضَلّ أعمالَهُمْ قال : الضلالة التي أضلهم الله لم يهدهم كما هَدى الاَخرين ، فإن الضلالة التي أخبرك الله : يضلّ من يشاء ، ويهدي من يشاء قال : وهؤلاء ممن جعل عمله ضلالاً ، وردّ قوله : وأضَلّ أعمالَهُمْ على قوله : فَتَعْسا لَهُمْ وهو فعل ماض ، والتعس اسم ، لأن التعس وإن كان اسما ففي معنى الفعل لما فيه من معنى الدعاء ، فهو بمعنى : أتعسهم الله ، فلذلك صلح ردّ أضلّ عليه ، لأن الدعاء يجري مجرى الأمر والنهي ، وكذلك قوله : حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ مردودة على أمر مضمر ناصب لضرب .
وقوله تعالى : { فتعساً لهم } معناه : عثاراً وهلاكاً فيه ، وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر ، ومنه قول الشاعر : [ المنسرح ]
يا سيدي إن عثرت خذ بيدي . . . ولا تقل : لا ، ولا تقل تعسا{[10357]}
بذات لوت َعِفرناٍة إذا عثرت . . . فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا{[10358]}
ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها : تعس مسطح{[10359]} . قال ابن السكيت : التعس أن يخر على وجهه . و : { تعساً } مصدر نصبه فعل مضمر .
هذا مقابل قوله : { والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم } [ محمد : 4 ] فإن المقاتلين في سبيل الله هم المؤمنون ، فهذا عطف على جملة { والذين قاتلوا في سبيل الله } [ محمد : 4 ] الآية .
والتعْس : الشقاء ويطلق على عدة معان : الهلاك ، والخيبة ، والانحطاط ، والسقوط ، وهي معان تحوم حول الشقاء ، وقد كثر أن يقال : تعسا له ، للعاثر البغيض ، أي سقوطاً وخروراً لا نهوض منه . ويقابله قولهم للعاثر : لعاً لهَ ، أي ارتفاعاً ، قال الأعشى :
بذات لَوث عفرناةٍ إذا عَثَرت *** فالتعسُ أولى لها من أن أقول لَعَا
وفي حديث الإفك : فعثرت أم مسطح في مِرطها فقالت : تَعِس مسطح لأن العثار تَعْس .
ومن بدائع القرآن وقوع { فتَعْساً لهم } في جانب الكفار في مقابلة قوله للمؤمنين : { ويُثبتْ أقدامكم } [ محمد : 7 ] .
والفعل من التعس يجيء من باب منع وباب سمع ، وفي « القاموس » إذا خاطبتَ قلتَ : تَعَست كمَنع ، وإذا حَكيت قلت : تَعِسَ كسمع .
وانتصب { تعساً } على المفعول المطلق بدلاً من فعله . والتقدير : فتعسوا تعسهم ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله مثل تبًّا له ، وويحاً له . وقصد من الإضافة اختصاص التعس بهم ، ثم أدخلت على الفاعل لام التبيين فصار { تعساً لهم } . والمجرور متعلق بالمصدر ، أو بعامله المحذوف على التحقيق وهو مختار بن مالك وإن أباه ابنُ هشام . ويجوز أن يكون { تعساً لهم } مستعملاً في الدعاء عليهم لقصد التحقير والتفظيع ، وذلك من استعمالات هذا المركب مثل سَقياً له ورَعياً له وتَبًّا له وويحاً له وحينئذٍ يتعين في الآية فعل قول محذوف تقديره : فقال الله : تعساً لهم ، أو فيقال : تعساً لهم .
ودخلت الفاء على { تعساً } وهو خبر الموصول لمعاملة الموصول معاملة الشرط .
وقوله : { وأضل أعمالهم } إشارة إلى ما تقدم في أول السورة من قوله : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] ، وتقدم القول على { أضلّ أعمالهم } هنالك .