وأما المتقون لربهم ، المؤمنون به- فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها }
فلو قدر أنهم في دار الدنيا ، قد حصل لهم كل بؤس وشدة ، وعناء ومشقة ، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم ، والعيش السليم ، والسرور والحبور ، والبهجة نزرا يسيرا ، ومنحة في صورة محنة ، ولهذا قال تعالى : { وما عند الله خير للأبرار } وهم الذين برت قلوبهم ، فبرت أقوالهم وأفعالهم ، فأثابهم البر الرحيم من بره أجرا عظيما ، وعطاء جسيما ، وفوزا دائما .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين إثر بيانه لسوء عاقبة الكافرين فقال : { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } .
وافتتحت الآية الكريمة بحرف " لكن " الذى معناه الاستدراك ، لأن مضمونها ضد الكلام الذى قبلها . ولكى تكون هناك مقابلة بين عاقبة المشركين الفجار وبين عاقبة المؤمنين الأخيار .
والمعنى : هذا هو شأن الكافرين يتقلبون فى البلاد لفترة قصيرة من الزمان هيى مدة حياتهم فى هذه الدنيا الفانية ثم يتركون كل شىء عند موتهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم وهو عذاب جهنم الذى لا ينقطع . . . لكن الذين اتقوا ربهم وخافوا مقامه ونهوا أنفسهم عن الهوى ليسوا كذلك فقد أعد الله لهم جنات تجرى من تحت قصورها وأشجارها الأنهار المليئة بأنواع المشارب الطيبة اللذيذة ، وهم خالدون فى تلك الجنات خلودا أبديا لا انقطاع له ولا زوال .
. . فأين مصير أولئك ، الأشرار من مصير هؤلاء الأخيار ؟
فالآية الكريمة بيان لكمال حسن حال المؤمنين ، إثر بيان سوء عاقبة الكافرين .
ثم قال - تعالى - { نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } .
والنزل : ما يعد للنزيل والضيف لإكرامه والحفاوة به من طعام وشراب وغيرهما . وهو منصوب على أنه حال من " جنات " لتخصيصها بالوصف ، والعامل فيه ما فى الضرف من معنى الاستقرار .
أى لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها حالة كون هذه الجنات منزلا مهيئاً لهم من عند الله - تعالى - على سبيل الإكرام لهم ، والتشريف لمنزلتهم .
وقوله { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } أى ما عند الله من نعيم مقيم لعباده المتقين خير مما يتقلب فيه الكافرون من المتاع القليل الزائل .
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله :
( جنات تجري من تحتها الأنهار ) . . ( خالدين فيها ) . . ( نزلا من عند الله ) . . ( وما عند الله خير للأبرار ) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة ، وهذا النصيب في كفة ، أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !
إن الله - سبحانه - في موضع التربية ، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر ، ولا يعدهم بقهر الأعداء ، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض ، ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى ، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو ( ما عند الله ) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة : التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية ، ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون ، ويكلوا أمرها إليه ، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة : عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض ، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر ، ويقع التمكين ، ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ؛ وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ؛ ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية ، إلا حين تجردوا هذا التجرد ، ووفوا هذا الوفاء :
قال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله [ ص ] يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه [ ص ] على الهجرة إليهم ] : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . . قالوا : ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . " الجنة " . . والجنة فقط ! لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ؛ أنهي أمرها ، وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض ، وزمام القيادة ، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها ، وكل رغباتها ، وكل شهواتها ، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها ، والمنهج الذي تحققه ، والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه ، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر مآلهم إلى النار قال بعده : " { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نزلا } أي : ضيافة من عند الله { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ }
وقال{[6387]} ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن نصر{[6388]} أخبرنا أبو طاهر سهل بن عبد الله ، أنبأنا{[6389]} هشام بن عَمَّار ، أنبأنا سعيد بن يحيى ، أنبأنا عُبَيد الله بن الوليد الوصافي{[6390]} عن مُحَارب بن دِثَار ، عن عَبْد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما سُمّوا الأبرار لأنهم بَرّوا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك عليك حقا ، كذلك لولدك عليك حق " .
كذا رواه ابن مَرْدُويه عن عَبْد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا{[6391]} وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن جَنَاب ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن عُبَيد الله بن الوليد الوصافي{[6392]} عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بَرّوا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك{[6393]} عليك حقا ، كذلك لولدك عليك حق ، وهذا أشبه والله أعلم{[6394]} .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدَّسْتَوائي ، عن رجل ، عن الحسن قال : الأبرار الذين لا يؤذون الذَّرّ .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن خيْثَمَة ، عن الأسود قال : قال عبد الله - يعني ابن مسعود - : ما من نَفْس بَرّة ولا فاجرة إلا الموت خيرٌ لها ، لئن كان برا لقد قال الله : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ }
وكذا رواه عبد الرزاق ، عن الأعمش ، عن الثوري ، به ، وقرأ : { وَلا يَحْسَبَنَّ{[6395]} الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن فرج بن فضالة ، عن لقمان ، عن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له ، وما من كافر إلا والموت خير له ، ومن لم يصدقني فإن الله يقول : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } ويقول : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
{ لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : { لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْا رَبّهُمْ } : لكن الذين اتقوا الله بطاعته ، واتباع مرضاته ، في العمل بما أمرهم به ، واجتناب ما نهاههم عنه . { لَهُمْ جَنّاتٌ } يعني : بساتين ، { تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ خالِدِينَ فِيها } يقول : باقين فيها أبدا ، { نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللّهِ } يعني : إنزالاً من الله إياهم فيها أنزلهموها¹ ونصب «نُزُلاً » على التفسير ، من قوله : لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، كما يقال : لك عند الله جّنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا ، وكما يقال : هو لك صدقة ، وهو لك هبة . وقوله : { مِنْ عِنْدِ اللّهِ } يعني : من قبل الله ، ومن كرامة الله إياهم ، وعطاياه لهم . وقوله : { وَما عِنْدَ اللّهِ خيْر للأَبْرَارِ } يقول : وما عند الله من الحياة والكرامة ، وحسن المآب خير للأبرار ، مما يتقلب فيه الذين كفروا فإن الذي يتقلبون فيه زائل فان ، وهو قليل من المتاع خسيس ، وما عند الله خير من كرامته للأبرار ، وهم أهل طاعته ، باق غير فانٍ ولا زائل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ للأَبْرَارِ } قال : لمن يطيع الله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن خيثمة عن الأسود ، عن عبد الله ، قال : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها . ثم قرأ عبد الله : { وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ للأَبْرَارِ } وقرأ هذه الاَية : { وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسَهِمْ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن فرج بن فضالة ، عن لقمان ، عن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له ، وما من كافر إلا والموت خير له . ومن لم يصدقني ، فإن الله يقول : { وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ للأَبْرَارِ } ويقول : { وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْما } .
{ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله } النزل والنزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وصلة . قال أبو الشعر الضبي :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا *** جعلنا القنا والمرهفات نزلا
وانتصابه على الحال من جنات والعامل فيها الظرف ، وقيل : إنه مصدر مؤكد والتقدير أنزلوها نزلا { وما عند الله } لكثرته ودوامه { خير للأبرار } مما يتقلب فيه الفجار لقلته وسرعة زواله .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : : «لكنّ الذين » ، بشد النون ، وعلى أن { الذين } في موضع نصب اسماً ل «لكنّ » ، و { نزلاً } : معناه تكرمة ، ونصبه على المصدر المؤكد ، وقرأ الحسن : «نزْلاً » ساكنة الزاي ، وقوله تعالى : { وما عند الله خير للأبرار } يحتمل أن يريد : خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم ، ويحتمل أن يريد : خير مما هم فيه في الدنيا ، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له ، أما الكافر فلئلا يزداد إثماً ، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار{[3811]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر »{[3812]} ، فقال القاضي ابن الطيب : هذا هو بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة ، فالدنيا على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة ، والدنيا للكافر الفقير المضيق عليه في حاله و صحته جنة بالإضافة إلى جهنم ، وقيل : المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تعبه في الطاعات وصومه وقيامه ، فهو فيها كالمعنت المنكل ، وينتظر الثواب في الأخرى التي هي جنته ، والدنيا جنة الكافر ، لأنها موضع ثوابه على ما عسى أن يعمل من خير ، وليس ينتظر في الآخرة ثواباً ، فهذه جنته ، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول .