اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَارِ} (198)

قرأ الجمهورُ بتخفيف " لكن " وأبو جعفر بتشديدها{[6316]} ، فعلى القراءة الأولى الموصول رفع بالابتداء ، وعند يونس يجوز إعمال المخففة ، وعلى الثانية في محل نصب .

ووقعت " لكِن " هنا أحسن موقع ؛ فإنها وقعت بين ضِدَّيْن ، وذلك أن معنى الجملتينِ - التي بعدها والتي قبلها - آيلٌ إلى تعذيب الكفار ، وتنعيم المؤمنين المتقين . ووجه الاستدراك أنه لما وصف الكفار بقلة نَفْع تقلبهم في التجارة ، وتصرُّفهم في البلاد لأجْلِها ، جاز أن يَتَوَهَّم مُتَوَهِّمٌ أن التجارة - من حيث هي - متصفة بذلك ، فاستدرك أنَّ المتقينَ - وإن أخذوا في التجارة - لا يضرهم ذلك ، وأنَّ لهم ما وعدهم به .

قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } هذه الجملة أجاز مكيٌّ فيها وجهينِ :

أحدهما : الرفع ، على النعت لِ " جَنَّاتٌ " .

والثاني : النصبُ ، على الحال من الضمير المستكن في " لَهُمْ " قال : " وإن شئت في موضع نصب على الحال من المضمر المرفوع في " لَهُمْ " إذْ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت " جَنَّاتٌ " بالابتداء ، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في " لَهُمْ " ضميرٌ مرفوعٌ ؛ إذ هو كالفعل المتقدِّم على فاعله " . يعني أنّ " جَنَّاتٌ " يجوز فيها رفعها من وجهين :

أحدهما : الابتداء ، والجار قبلها خبرها ، والجملة خبر " الَّذِينَ اتَّقوا " .

ثانيهما : الفاعلية ؛ لأن الجارَّ قبلها اعتمد بكونه خبراً لِ " الَّذِينَ اتَّقَوْا " . وقد تقدم أن هذا أوْلَى ، لقُربه من المفرد .

فإنْ جعلنا رفعها بالابتداء جاز في { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } وجهان : الرفع على النعت ، والنصب على الحال من الضمير المرفوع في " لَهُمْ " لتحمُّله - حينئذٍ - ضميراً .

وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعيَّن أن يكون الجملة بعدها في موضع رَفْع ؛ نعتاً لها ، ولا يجوز النصبُ على الحال ، لأن " لَهُمْ " ليس فيه - حينئذٍ - ضمير ؛ لرفعه الظاهر .

و " خَالِدِينَ " نُصِبَ على الحالِ من الضمير في " لَهُمْ " والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ .

قوله : " نُزُلاً " النُّزُل : ما يُهَيَّأ للنزيل - وهو الضيف .

قال أبو العشراء الضبي : [ الطويل ]

وكُفَّا إذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا *** جَعَلْنَا الْقَنَا والْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلا{[6317]}

هذا أصله ، ثم اتُّسِع فيه ، فأطلق على الرزق والغذاء - وإن لم يكن لضيف - ومنه قوله تعالى : { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [ الواقعة : 93 ] وفيه قولانِ ، هل هو مصدرٌ أو جمع نازل ، كقول الأعشى : [ البسيط ]

. . . *** أوْ تَنْزِلُونَ فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ{[6318]}

إذا تقرَّر هذا ففي نَصْبه سِتَّةُ أوجهٍ :

أحدهما : أنه منصوب على المصدر المؤكّد ، لأنه معنى " لَهُمْ جَنَّاتٌ " : نُنْزِلُهم جنات نزلاً ، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله : " كأنه قيل : رزقاً ، أو عطاءً من عند اللَّهِ " .

ثانيها : نصبه بفعل مُضْمَر ، أي : جعلنا لهم نُزُلاً .

ثالثها : نَصبه على الحال من " جَنَّات " لأنها تخصَّصَت بالوَصْف .

رابعها : أن يكون حالاً من الضمير في " فِيهَا " أي مُنزّلةً - إذا قيل بأنّ " نُزلاً " مصدر بمعنى المفعول نقله أبو البقاءِ .

خامسها : أنه حالٌ من الضمير المستكن في " خَالِدِينَ " - إذا قُلْنَا : إنه جمع نازل - قاله الفارسيُّ في التذكرة .

سادسها - وهو قول الفرّاء - نصبه على التفسير - أي التمييز - كما تقول : هو لك هبةً ، أو صدقةً وهذا هو القولُ بكونه حالاً .

والجمهور على ضم الزاي ، وقرأ الحسنُ ، والأعمشُ ، والنَّخَعِيُّ ، بسكونها{[6319]} ، وهي لغةٌ ، وعليها البيتُ المتقدم . وقد تقدم أن مثل هذا يكون فيه المسكَّن مخففاً من المثقل أو بالعكس ، والحق الأول .

قوله : { مِّنْ عِندِ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه ، لأنك إن جعلت " نُزُلاً " مصدراً ، كان الظرفُ صفةً له ، فيتعلق بمحذوف ، أي : نزلاً كائناً من عند اللَّهِ ، أي : على سبيلِ التكريمِ ، وإنْ جعلته جمعاً كان في الظرف وجهانِ :

أحدهما : جَعْله حالاً من الضمير المحذوفِ ، تقديره : نُزُلاً إياها .

ثانيهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : ذلك من عند الله ؛ نقل ذلك أبو البقاءِ .

قوله : { وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ } " ما " موصولة ، وموضعها رفع بالابتداء والخبر " خَيْرٌ " و " للأبْرَارِ " صفة لِ " خير " فهو في محل رفع ، ويتعلق بمحذوفٍ ، وظاهر عبارة أبي حيّان أنه يتعلق بنفس " خَيْرٍ " فإنه قال : و " لِلأبْرَارِ " متعلق ب " خَيْرٌ " .

وأجاز بعضهم أن يكون " لِلأبْرَارِ " هو الخبر ، و " خَيْرٌ " خبر ثانٍ ، قال أبو البقاء : " والثاني - أي : الوجه الثاني - : أن يكون الخبر " لِلأبْرَارِ " والنية به التقديمُ ، أي : والذي عند اللَّهِ مستقرٌّ للأبرارِ ، و " خَيْرٌ " - على هذا - خبرٌ ثانٍ " .

وفي ادِّعاء التقديمِ والتأخيرِ نظرٌ ؛ لأن الأصلَ في الإخبار أنْ يكونَ بالاسمِ الصريحِ ، فإذا اجتمعَ خبرٌ مفردٌ صريحٌ ، وخبرٌ مؤوَّلٌ به بُدِئَ بالصريحِ من غير عكس - كالصفة - فإذا وقعا في الآية على الترتيبِ المذكور ، فكيف يُدَّعَى فيها التقديمُ والتأخيرُ ؟ .

ونقل أبو البقاء{[6320]} - عن بعضهم - أنه جعل " لِلأبْرَارِ " حالاً من الضمير في الظرف ، " خَيْرٌ " خبر المبتدأ ، قال : " وهذا بعيدٌ ؛ لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحالٍ لغيره ، والفصلُ بين الحالِ وصاحب الحالِ بخبر المبتدأ ، وذلك لا يجوزُ في الاختيار " .

قال أبو حيّان : " وقيل : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : الذي عند اللَّهِ للأبرار خير لهم ، وهذا ذهولٌ عن قاعدةِ العربية من أن المجرور - إذ ذاك - يتعلق بما تعلَّق به الظرف الواقع صلة للموصول ، فيكون المجرورُ داخلاً في حيِّز الصِّلَةِ ، ولا يُخْبَر عن الموصول إلا بعد استيفائه صِلته ومتعلقاتها " .

فإن عنى الشيخُ بالتقديم والتأخير على الوجه - أعني جعل " لِلأبْرَارِ " حالاً من الضمير في الظرف فصحيحٌ ، لأنَّ العاملَ في الحالِ - حينئذ - الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقع صِلةً ، فيلزم ما قاله ، وإن عنى به الوجهَ الأول - أعني : جعل " لِلأبْرَارِ " خبراً ، والنية به التقديم وب " خَيْرٌ " التأخير كما ذكر أبو البقاءِ ، فلا يلزم ما قال ؛ لأنّ " لِلأبْرَارِ " - حينئذٍ - يتعلَّق بمحذوفٍ آخرَ غير الذي تعلَّق به الظرفُ .

و " خَيْرٌ " - هنا - يجوز أن يكون للتفضيل ، وأن لا يكون ، فإن كان للتفضيل كان المعنى : وما عند الله خيرٌ للأبرار مما لهم في الدنيا ، أو خيرٌ لهم مما يتقلب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ .


[6316]:انظر: إتحاف 1/499، وشرح الطيبة 4/187، والمحرر الوجيز 1/558، والبحر المحيط 3/154، والدر المصون 2/291.
[6317]:ينظر البيت في حاشية الشهاب 3/94، والبحر 3/154 والكشاف 1/491، و4/59 والدر المصون 2/291.
[6318]:عجز بيت وتمامه: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا *** أو تنزلون فإنا معشر نزل هذه هي الرواية المشهورة ورواية الديوان هي: قالوا: الركوب، فقلنا: تلك عادتنا *** أو تنزلوا فإنا معشر نزل ينظر ديوانه (113) والخزانة 8/552 والمغني 2/993 والصاحبي (470) والهمع 2/60 وشواهد الكتاب 1/429 وإعراب النحاس 1/631 والدرر 2/76 والمحتسب 1/195 وشرح الكافية 2/248 ورغبة الآمل 6/27 والأمالي الشجرية 2/965 والدر المصون 2/291، 1725.
[6319]:انظر: المحرر الوجيز 1/558، والبحر المحيط 3/154، وزاد فيه أنها قراءة مسلمة بن محارب، وانظر: الدر المصون 2/292.
[6320]:ينظر: الإملاء 1/164.