فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَارِ} (198)

( لكن الذين اتقوا ربهم ) وقعت " لكن " هنا أحسن موقع فإنها وقعت بين ضدين وذلك ان معنى الجملتين التي قبلها وبعدها آيل إلى تعذيب الكفار وتنعيم المتقين ، وهو استدراك مما تقدمه لأن معناه معنى النفي كأنه قال ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع ، لكن اتقوا وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وإن لهم ما وعدهم به .

وفي الشهاب وجه الاستدراك انه رد على الكفار فيما يتوهمون من أنهم ينعمون ، وان المؤمنين في عناء ومشقة ، فقال ليس الأمر كما توهمتم فإن المؤمنين لا عناء لهم إذا نظر إلى ما أعد لهم عند الله ، أو انه لما ذكر تنعمهم بتقلبهم في البلاد ، أوهم أن الله لا ينعم المؤمنين ، فاستدرك عليه بأن ما هم فيه عين النعيم لأنه سبب لما بعده من النعم الجسام{[400]} .

( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) أي مقدرين الخلود ( نزلا ) النزل ما يهيأ للنزيل ويعد للضيف ، والجمع أنزال ثم اتسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء وإن لم يكن ضيف ، ومنه ( فنزل من حميم ) وهو مصدر مؤكد عند البصريين أو جمع نازل ، وقال الهروي ثوابا ( من عند الله ) وقيل إكراما من الله لهم أعدها لهم كما يعد القرى للضيف إكراما .

( وما عند الله ) مما عده لمن أطاعه ( خير ) للتفضيل وهو ظاهر ( للأبرار ) مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار ، فإنه متاع قليل عن قريب يزول .

عن ابن عمر قال إنما سماهم أبرارا لأنهم بروا الآباء والأبناء كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق وروى هذا مرفوعا والأول أصح قاله السيوطي ، وقال ابن زيد خير لمن يطيع الله .


[400]:روى ابن الجوزي في تفسيره سببا لنزول هذه الآية: ان النبي صلى الله عليه وسلم أراد ان يستلف من بعضهم (اليهود) شعيرا فأبى إلا على رهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو أعطاني لأوفيته إني لأمين في السماء أمين في الأرض".