{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
أي : إن يمددكم الله بنصره ومعونته { فلا غالب لكم } فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد ، لأن الله لا مغالب له ، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم ، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه ، ولا تسكن إلا بإذنه .
{ وإن يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق .
وفي{[170]} ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه ، والبراءة من الحول والقوة ، ولهذا قال : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } بتقديم المعمول يؤذن بالحصر ، أي : على الله توكلوا لا على غيره ، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده ، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود ، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه ، بل ضار .
وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده ، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله .
ولقد أكد الله - تعالى - وجوب التوكل عليه بعد ذلك فى قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } ؟
والمراد بالنصر هنا العون الذى يسوقه لعباده حتى ينتصروا على أعدائهم . والمراد بالخذلان ترك العون . والمخذول ، هو المتروك الذى لا يعبأ به .
يقال : خذلت الوحشية إذا أقامت على ولدها فى المرعى وتركت صواحباتها .
والمعنى : أن يرد الله - تعالى - نصركم كما نصركم يوم بدر - { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } أى فإنه لا يوجد قوم يستطيعون قهركم ، لأن الله معكم ، ومن كان الله معه فلن يغلبه أحد من الخلق .
وأن يرد أن يخذلكم ويمنع عنكم عونه كما حدث لكم يوم أحد ، فلن يستطيع أحد أن ينصركم من بعد خذلانه ، لأنه لا يوجد أحد عنده قدرة تقف أمام قدرة الله - تعالى - ومشيئته .
والاستفهام هنا إنكارى يعنى النفى ، أى لا أحد يستطيع نصركم إذا اراد الله خذلانكم ، وهو جواب للشرط الثانى .
وفيه لطف بالمؤمنين ، حيث صرح لهم بعدم الغلبة فى الأول ، ولم يصرح لهم بأنهم لا ناصر لهم فى الثانى ، بل أتى به فى صورة الاستفهام وإن كان معناه نفيا ليكون أبلغ ، إذ فى مجيئه على هذه الصورة الاستفهامية توجيه لأنظار المخاطبين إلى البحث عن قوة تكون قدرته كافية للوقوف أمام إرادة الله - تعالى - ولا شك أنهم لن يجدوه ، وعندئذ سيعتقدون عن يقين بأن الله وحده هو الكبير المتعال ، وأنه لا ناصر لهم سواه .
وقوله { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أى وعلى الله وحده لا على أحد سواه . فليجعل المؤمنون اعتمادهم واتكالهم عليه ، لأن الذين يعتمدون على أى قوة سوى الله - تعالى - لن يصلوا إلى العاقبة الطيبة التى أعدها - سبحانه - لعباده المتقين .
فالآية الكريمة كلام مستأنف ، وقد سيق بطرق تلوين الخطاب ، تشريفا للمؤمنين لايجاب التوكل عليه والترغيب فى طاعته التى تؤدى إلى النصر ، وتحذيرا لهم من معصيته التى تقضى إلى الخسران والخذلان .
ولتقرير حقيقة التوكل على الله ، وإقامتها على أصولها الثابتة ، يمضي السياق فيقرر أن القوة الفاعلة في النصر والخذلان هي قوة الله ، فعندها يلتمس النصر ، ومنها تتقى الهزيمة ، وإليها يكون التوجه ، وعليها يكون التوكل ، بعد اتخاذ العدة ، ونفض الأيدي من العواقب ، وتعليقها بقدر الله :
( إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله - سبحانه - وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله . . إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب . ولكن الأسباب ليست هي التي " تنشىء " النتائج . فالفاعل المؤثر هو الله . والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته . . ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه ، وأن يبذل جهده ، وأن يفي بالتزاماته . وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها . . وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة الله وقدره . هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء ، وكيفما يشاء . . وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله . فهو يعمل ويبذل ما في طوقه ؛ وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر الله ومشيئته . ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب . فهو لا يحتم أمرا بعينه على الله !
وهنا في قضية النصر والخذلان ، بوصفهما نتيجتين للمعركة - أية معركة - يرد المسلمين إلى قدر الله ومشيئته ؛ ويعلقهم بإرادة الله وقدرته : إن ينصرهم الله فلا غالب لهم . وأن يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده . . وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود . حيث لا قوة إلا قوة الله ، ولا قدرة إلا قدرته ، ولا مشيئة إلا مشيئته . وعنها تصدر الأشياء والأحداث . . ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج ، وطاعة التوجيه ، والنهوض بالتكاليف ، وبذلك الجهد ، والتوكل بعد هذا كله على الله :
( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير الله ؛ ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود ؛ فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء ؛ ويتوكل على الله وحده في أحداث النتائج ، وتحقيق المصاير ، وتدبير الأمر بحكمته ، وتقبل ما يجيء به قدر الله في اطمئنان أيا كان .
إنه التوازن العجيب ، الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام .
{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الّذِي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : إن ينصركم الله أيها المؤمنون بالله ورسوله ، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه ، والكافرين به ، فلا غالب لكم من الناس ، يقول : فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد ، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه ، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم ، وكثرة عددهم ، ما كنتم على أمره ، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله ، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم . { وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذِي يَنْصُرْكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } يعني : إن يخذلكم ربكم ، بخلافكم أمره ، وترككم طاعته وطاعة رسوله ، فيكلكم إلى أنفسكم ، فمن ذا الذي ينصركم من بعده ، يقول : فأيسوا من نصرة الناس ، فإنكم لا تجدون أمرا من بعد خذلان الله إياكم أن خذلكم ، يقول : فلا تتركوا أمري ، وطاعتي وطاعة رسولي ، فتهلكوا بخذلاني إياكم . { وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤمِنُونَ } يعني : ولكن على ربكم أيها المؤمنون فتوكلوا دون سائر خلقه ، وبه فارضوا من جميع من دونه ، ولقضائه فاستسلموا ، وجاهدوا فيه أعداءه ، يكفكم بعونه ، ويمددكم بنصره . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إنْ يَنْصُرْكُمْ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعلى اللّهِ فَلْيَتَوكّلِ المُؤْمِنُونَ } : أي إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ، لن يضرّك خذلان من خذلك ، وإن يخذلك ، فلن ينصرك الناس ، فمن الذي ينصركم من بعده : أي لا تترك أمري للناس ، وارفُضْ ( أمر ) الناس لأمري { وَعَلى اللّهِ } ( لا على الناس ) { فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ } .
استئناف نشأ عن قوله : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو مِتُّم } [ آل عمران : 157 ] أو عن قوله : { لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } [ آل عمران : 156 ] الآية .
ولو حُمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبَاراً بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون ، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قَدّر نَصر أحَدٍ فلا رادّ لنصره ، وأنَّه إذا قدّر خَذْلَه فلا ملجأ له من الهزيمة ، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته ، مؤمن بوحدانيته ، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته ، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مراداً به غيرُ ظاهر الإخبار ، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريراً لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة ، حتَّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس ، وعزاء على المصيبة ، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوماً في بعض الأيَّام ، وخَذْله إيّاهم في بعضها ، لا يكون إلاّ لحِكَم وأسباب ، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر ، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخَذل كما أشار إليه قوله : { يأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] وقوله : { فأثابكم غماً بغم } [ آل عمران : 153 ] وقوله الآتي : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليْها قلتم أنى هذا } [ آل عمران : 165 ] وعليهم التطلّب للأسباب الَّتي قُدر لهم النَّصر لأجلها في مثل يوم بَدر ، وأضدادها الَّتي كان بها الخَذل في يَوم أحُد ، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك ، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها ، وزجّ بها في مسارح العبر ، ومراكض العظات ، والسابقون الجيادُ ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك . وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه : لأنَّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] إلى هنا ، جمع لهم كُلّ ذلك في كلام جامع نافعٍ في تلقِّي الماضي ، وصالحٍ للعمل به في المستقبل ، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّاً على تنزيل العالم منزلة الجاهل ، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات ، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح ، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى . فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر .
والنَّصر : الإعانة على الخلاص من غلب العَدوّ ومُريد الإضرار .
والخِذْلانُ ضدّه : وهو إمساك الإعانة مع القدرة ، مأخوذ من خَذلت الوَحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي .
ومعنى { إن ينصركم } { وإن يخذلكم } إنْ يُرد هَذا لَكم ، وإلاّ لما استقام جواب الشرط الأوّل ، وهو « { فلا غالب لكم } إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفِعل ، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله : { فلا غالب لكم } ، لأنَّه يصير من الإخبار بالمعلوم ، كما تقول : إن قمتَ فأنتَ لست بقَاعد . وأمَّا فعل الشرط الثَّاني وهو : { وإن يخذلكم } فيقدّر كذلك حَمْلاً على نظيره ، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه . وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية .
وجَعْل الجواب بقوله : { فلا غالب لكم } دون أن يقول : لا تغلبوا ، للتنصيص على التَّعميم في الجواب ، لأنّ عموم ترتّب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئياً أي لا تغلبوا من بعض المغالبين ، فأريد بإفادة التعميم دفع التّوهم .
والاستفهام في قوله : { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } إنكاري أي فلا ينصركم أحد غيره .
وكلمة { من بَعده } هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاوزة : أي فمن الَّذي ينصركم دونَه أو غيرَه أي دون اللَّه ، فالضّمير ضمير اسم الجلالة لا محالة ، واستعمال ( بعد ) في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية : بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذللك فحذف ما يدل على الحالة المشبه بها ورمز إليه بلازمه وهو لفظ { من بعده } .
وجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } تذييل قصد به الأمر بالتَّوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى : من أسبابٍ عادية وهي الاستعداد ، وأسبابٍ نفسانية وهي تزكية النفس واتّباع رضَى الله تعالى .