{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } قال المفسرون : المراد بذلك : الجوع الذي أصابهم سبع سنين ، وأن الله ابتلاهم بذلك ، ليرجعوا إليه بالذل والاستسلام ، فلم ينجع فيهم ، ولا نجح منهم أحد ، { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ } أي : خضعوا وذلوا { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } إليه ويفتقرون ، بل مر عليهم ذلك ثم زال ، كأنه لم يصبهم ، لم يزالوا في غيهم وكفرهم ، ولكن وراءهم العذاب الذي لا يرد ، وهو قوله :
وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } مؤكد لما قبله من وصف هؤلاء المشركين بالجحود والعناد .
والمراد بالعذاب هنا : العذاب الدنيوى كالجوع والقحط والمصائب .
والاستكانة : الانتقال من كون إلى كون ومن حال إلى حال . ثم غلب استعمال هذه الكلمة فى الانتقال من حال التكبر والغرور إلى حال التذلل والخضوع .
أى : ولقد أخذنا هؤلاء الطغاة ، بالعذاب الشديد ، كالفقر ، والمصائب والأمراض فما خضعوا لربهم - عز وجل - وما انقادوا له وأطاعوه ، وما تضرعوا إليه - سبحانه - بالدعاء الخالص لوجهه الكريم ، لكى يكشف عنهم - عز وجل - ما نزل بهم من ضر .
هؤلاء الذين لايؤمنون بالآخرة ، والذين تنكبوا الطريق ، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ، ولا الابتلاء بالنقمة . فإن أصابتهم النعمة حسبوا : ( أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات )وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم ، ولم تستيقظ ضمائرهم ، ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر ، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون .
( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون . ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون . حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ) . .
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس ، القاسية قلوبهم ، الغافلين عن الله ، المكذبين بالآخرة ، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
والاستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله ، والشعور بأنه الملجأ والملاذ . والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان ، واستيقظ وتذكر ، وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل ، وأفاد من المحنة و انتفع بالبلاء . فأما حين يسدر في غيه ، ويعمه في ضلاله ، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح ، وهو متروك لعذاب الآخرة ، الذي يفاجئه ، فيسقط في يده ، ويبلس ويحتار ، وييأس من الخلاص .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرّعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا ، وأنزلنا بهم بأسنا ، وسخطنا وضيّقنا عليهم معايشهم ، وأجدبنا بلادهم ، وقتلنا سراتهم بالسيف . فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبّهِمْ يقول : فما خضعوا لربهم فينقادوا لأمره ونهيه ويُنيبوا إلى طاعته . وَما يَتَضَرّعُونَ يقول : وما يتذللون له .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ الله قريشا بسني الجدب ، دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن الحسن ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : جاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، أَنْشُدُكَ الله والرحم ، فقد أكلنا العِلْهِز يعني الوبر والدم . فأنزل الله : وَلَقَدْ أخَذْناهُمْ بالعَذَابِ ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبّهِمْ وَما يَتَضَرّعُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن عِلباء بن أحمر ، عن عِكرمة ، عن ابن عباس : أن ابن أُثالٍ الحنفيّ لما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أسير ، فخلّى سبيله ، فلحق بمكة ، فحال بين أهل مكة وبين المِيرة من اليمامة ، حتى أكلت قريش العِلْهِزَ ، فجاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أليس تزعم بأنك بُعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : «بَلى » فقال : قد قتلت الاَباء بالسيف والأبناء بالجوع فأنزل الله : وَلَقَدْ أخَذْناهُمْ بالعَذَابِ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : قال الحسن : إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلاء فإنما هي نقمة ، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحَمِيّة ولكن استقبلوها بالاستغفار ، وتضرّعوا إلى الله . وقرأ هذه الاَية : وَلَقَدْ أخَذْناهُمْ بالعَذَابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبّهِمْ وَما يَتَضَرّعونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَلَقَد أخَذْناهُمْ بالعَذَابِ قال : الجوع والجدب . فَمَا اسْتَكانُوا لرَبّهِمْ فصبروا . وما اسْتَكانُوا لرَبّهِم وَما يَتَضَرّعُونَ .
استدلال على مضمون قوله { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } [ المؤمنون : 75 ] بسابق إصرارهم على الشرك والإعراض عن الالتجاء إلى الله وعدم الاتعاظ بأن ما حل بهم من العذاب هو جزاء شركهم .
والجملة المتقدمة خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعلم صدقه فلم يكن بحاجة إلى الاستظهار عليه . ولكنه لما كان متعلقاً بالمشركين وكان بحيث يبلغ أسماعهم وهم لا يؤمنون بأنه كلام من لا شك في صدقه ، كان المقام محفوفاً بما يقتضي الاستدلال عليهم بشواهد أحوالهم فيما مضى ؛ ولذلك وقع قبله { فذرْهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] ، ووقع بعده { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } [ المؤمنون : 84 ] .
والتعريف في قوله { بالعذاب } للعهد ، أي بالعذاب المذكور آنفاً في قوله : { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } [ المؤمنون : 64 ] الخ . ومصبّ الحال هو ما عطف على جملتها من قوله { فما استكانوا لربهم } ، فلا تتوهمنّ أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفاً مستنداً إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها . وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان ( 13 15 ) { أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه } إلى قوله { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجؤار دون التوبة والاستغفار .
وقيل : هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفاً فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر .
والاستكانة : مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له ، فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته . وألفه ألف الافتعال مثل الاضطراب ، والتاء زائدة كزيادتها في استعاذة .
وقيل الألف للإشباع ، أي زيدت في الاشتقاق فلازمت الكلمة . وليس ذلك من الإشباع الذي يستعمله المستعملون شذوذاً كقول طرفة :
أي ينبع . وأشار في « الكشاف » إلى الاستشهاد على الإشباع في نحوه إلى قول ابن هرمة :
وأنت من الغوائل حين ترمي *** ومن ذم الرجال بمنتزاح
ويبعد أن يكون { استكانوا } استفعالاً من الكون من جهتين : جهة مادته فإن معنى الكون فيه غير وجيه وجهة صيغته لأن حمل السين والتاء فيه على معنى الطلب غير واضح .
والتعبير بالمضارع في { يتضرعون } لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم . والتضرع : الدعاء بتذلل ، وتقدم في قوله : { لعلهم يتضرعون } في سورة الأنعام ( 42 ) . والقول في جملة { حتى إذا فتحنا عليهم باباً } كالقول في { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } [ المؤمنون : 64 ] .