{ الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } أى : الذى أحكم وأتقن كل شئ خلقه وأوجده فى هذا الكون ، لأنه - سبحانه - أوجده على النحو الذى تقتضيه حكمته ، وتستدعيه مصلحة عباده .
قال الشوكانى : وقرأ الجمهور { خلَقه } - بفتح اللام - على أنه فعل ماض صفة لشئ ، فهو فى محل جر . أو صفة للمضاف فيكون فى محل نصب .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ابن عامر : { خلْقه } - بسكون اللام - وفى نصبه أوجه : الأول : أن يكون بدلاً من { كُلَّ شَيْءٍ } بدل اشتمال ، والضمير عائد على كل شئ ، وهذا هو المشهور . .
والمراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ } آدم - عليه السلام - ، أى وبدأ خلق أبيكم آدم من طين ، فصار على أحسن صورة ، وأبدع شكل
. . واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل . الحق المتمثل في أشكال الأشياء ، ووظائفها . وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة . وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها . وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد .
سبحانه ! هذه صنعته في كل شيء . هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق . هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان ؛ فلا تجاوز ولا قصور ، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص ، ولا إفراط ولا تفريط ، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة . كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص . ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر . ولا يتجاوز مداه ولا يقصر . . كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام . ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام . كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان . . وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث . وكلها من خلق الله . مقدرة تقديرا دقيقا في موعدها وفي مجالها وفي مآلها ، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله .
كل شيء ، وكل خلق ، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود ، معد لأداء هذا الدور إعدادا دقيقا ، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل . هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف . هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون . هذه السمكة . هذا الطائر . هذه الزاحفة . هذا الحيوان . . ثم هذا الإنسان . . وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت . وهذه الأفلاك والعوالم ؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام . . كل شيء . كل شيء . حيثما امتد البصر متقن الصنع . بديع التكوين . يتجلى فيه الإحسان والإتقان .
والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير ، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه ؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده . والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن ، يمنح الإنسان رصيدا ضخما من ذخائر الحسن والجمال ، ومن إيقاعات التناسق والكمال ، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق ؛ وتسكبها في القلب البشري ؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن ، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب . ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة .
ولا يدرك القلب شيئا من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة ، ومن ملالة الألفة . وإلا حين يتسمع لإيقاعات الكون من حوله ، ويتطلع إلى إيحاءاته . و إلا حين يبصر بنور الله فتتكشف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة . وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه ؛ فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع ؛ فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس ، لأنه يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله .
إن هذا الوجود جميل . وإن جماله لا ينفد . وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود . قدر ما يريد . وفق ما يريده له مبدع الوجود .
وإن عنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود . فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء ، يصل إلى حد الجمال . وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو ، وفي كل خلق . . انظر . . هذه النحلة . هذه الزهرة . هذه النجمة . هذا الليل . هذا الصبح . هذه الظلال . هذه السحب . هذه الموسيقى السارية في الوجود كله . هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور !
إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين ؛ يلفتنا القرآن إليها لنتملاها ، ونستمتع بها وهو يقول : ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) . . فيوقظ القلب لتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير .
( الذي أحسن كل شيء خلقه ) . . ( وبدأ خلق الإنسان من طين ) . .
ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين . فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة ، وكان في المرحلة الأولى . ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولا مداها ولا زمنها ، فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح . وبخاصة حين يضم هذا النص إلى النص الآخر الذي في سورة " المؤمنون " . . ( خلق الإنسان من سلالة من طين ) . . فيمكن أن يفهم منه أنه إشارة إلى تسلسل في مراحل النشأة الإنسانية يرجع أصلا إلى مرحلة الطين .
وقد يكون ذلك إشارة إلى بدء نشأة الخلية الحية الأولى في هذه الأرض ؛ وأنها نشأت من الطين . وأن الطين كان المرحلة السابقة لنفخ الحياة فيها بأمر الله . وهذا هو السر الذي لم يصل إليه أحد . لا ما هو . ولا كيف كان . ومن الخلية الحية نشأ الإنسان . ولا يذكر القرآن كيف تم هذا ، ولا كم استغرق من الزمن ومن الأطوار . فالأمر في تحقيق هذا التسلسل متروك لأي بحث صحيح ؛ وليس في هذا البحث ما يصادم النص القرآني القاطع بأن نشأة الإنسان الأولى كانت من الطين . وهذا هو الحد المأمون بين الاعتماد على الحقيقة القرآنية القاطعة وقبول ما يسفر عنه أي تحقيق صحيح .
غير أنه يحسن - بهذه المناسبة - تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة : بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية ؛ وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيوانا فوق القردة العليا ودون الإنسان . . أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة - التي لم يكن دارون قد عرفها - تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربا من المستحيل . فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه ؛ وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه ، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد . فالقط أصله قط وسيظل قطا على توالي القرون . والكلب كذلك . والثور . والحصان . والقرد . والإنسان . وكل ما يمكن أن يقع - حسب نظريات الوراثة - هو الارتقاء في حدود النوع نفسه . دون الانتقال إلى نوع آخر . وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام
وقوله : الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قراء مكة والمدينة والبصرة : «أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ » بسكون اللام . وقرأه بعض المدنيين وعامة الكوفيين : أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللام .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى ، وذلك أن الله أحكم خلقه ، وأحكم كل شيء خلَقه ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أتقن كلّ شيء وأحكمه . ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا الحسين بن إبراهيم إشكاب ، قال : حدثنا شريك ، عن خَصيف عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال : أما إن است القرد ليست بحسنة ، ولكن أحكم خلقها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو النضر ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدّب ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها : الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال : أما إن است القرد ليست بحسنة ، ولكنه أحكمها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال : أتقن كلّ شيء خلقه .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ : أحصى كلّ شيء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذي حسن خلق كل شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حسن على نحو ما خلق .
وذُكر عن الحجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن الأعرج ، عن مجاهد قال : هو مثل أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثم هَدَى قال : فلم يجعل خلق البهائم في خلق الناس ، ولا خلق الناس في خلق البهائم ولكن خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أعلم كل شيء خلقه ، كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه ، وأن قوله أحْسَنَ إنما هو من قول القائل : فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال : أعطى كلّ شيء خلقه ، قال : الإنسان إلى الإنسان ، والفرس للفرس ، والحمار للحمار . وعلى هذا القول ، الخَلْق والكلّ منصوبان بوقوع أحسن عليهما .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللام قول من قال : معناه أحكم وأتقن ، لأنه لا معنى لذلك إذ قرىء كذلك إلاّ أحد وجهين : إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التحسين الذي هو في معنى الجمال والحُسن فلما كان في خلقه ما لا يشكّ في قُبحه وسماجته ، علم أنه لم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خلق ، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته . وأما على القراءة الأخرى التي هي بتسكين اللام ، فإن أولى تأويلاته به قول من قال : معنى ذلك أعلم وألهم كلّ شيء خلقه ، هو أحسنهم ، كما قال الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى لأن ذلك أظهر معانيه . وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه بمعنى : الذي أحسن خلق كلّ شيء ، فإنه جعل الخلق نصبا بمعنى التفسير ، كأنه قال : الذي أحسن كلّ شيء خلقا منه . وقد كان بعضهم يقول : هو من المقدّم الذي معناه التأخير ، ويوجهه إلى أنه نظير قول الشاعر :
وَظَعْنِي إلَيْك اللّيْل حِضْنَيْهِ أنّنِي *** لِتِلْكَ إذَا هابَ الهِدَانُ فَعُولُ
يعني : وظعني حضني الليل إليك ونظير قول الاَخر :
كأنّ هِنْدا ثَناياها وبَهْجَتَها *** يَوْمَ الْتَقَيْنا عَلى أدْحالِ دَبّاب
وقوله : وَبَدأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ يقول تعالى ذكره : وبدأ خلق آدم من طين ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ يعني ذرّيته من سلالة ، يقول : من الماء الذي انسلّ فخرج منه . وإنما يعني من إراقة من مائه ، كما قال الشاعر :
فجاءتْ بهِ عَضْبَ الأدِيمِ غَضَنْفَرا *** سُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غيرَ حَصِينِ
وقوله : مِنْ ماءٍ مَهينٍ يقول : من نطفة ضعيفة رقيقة . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَبَدأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ وهو خلق آدم ، ثم جعل نسله : أي ذرّيته من سلالة من ماء مهين ، والسلالة : هي الماء المهين الضعيف .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن أبي يحيى الأعرج ، عن ابن عباس ، في قوله مِنْ سُلالَةِ قال : صفو الماء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مِنْ ماءٍ مَهِينٍ قال : ضعيف نطفة الرجل ، ومهين : فعيل من قول القائل : مهن فلان ، وذلك إذا زلّ وضعف .