المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} (56)

56- وما خلقت الجن والإنس لشيء يعود علىّ بالنفع ، وإنما خلقتهم ليعبدوني ، والعبادة نفع لهم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} (56)

{ 56-58 } { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }

هذه الغاية ، التي خلق الله الجن والإنس لها ، وبعث جميع الرسل يدعون إليها ، وهي عبادته ، المتضمنة لمعرفته ومحبته ، والإنابة إليه والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه ، وذلك يتضمن{[866]}  معرفة الله تعالى ، فإن تمام العبادة ، متوقف على المعرفة بالله ، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه ، كانت عبادته أكمل ، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله ، فما خلقهم لحاجة منه إليهم .


[866]:- في ب: وذلك متوقف.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} (56)

ثم بين - سبحانه - الوظيفة التى من أجلها أوجد الله - تعالى - الجن والإنس فقال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } .

وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال منها : أن معناها : إنى ما أوجدت الجن والإنس إلا وهم مهيئون لعبادتى وطاعتى . بسبب ما ركبت فيهم من عقول تعقل ، وبسبب ما أرسلت إليهم من رسل يهدونهم إلى الخير ، فمنهم من أطاع الرسل ، وجرى ما مقتضى ما تقتضيه الفطرة ، فآمن بالرسل ، واتبع الحق والرشد ، ففاز وسعد ، ومنهم من أعرض عن دعوة الرسل ، وعاند فطرته وموجب استعداده فخسر وخاب .

ومنهم من يرى أن معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليقروا لى بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه ، كما فى قوله - تعالى - :

{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } ومنهم من يرى معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفونى .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قيل : إن هذا خاص فيمن سبق فى علم الله أنه يعبده . فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص . . . فالآية فى المؤمنين منهم .

وقال على - رضى الله عنه - : أى : وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتى قال - تعالى - { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ } وقيل : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أى : إلا ليقروا لى بالعبادة طوعا أو كرها .

ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال هو ما أشرنا إليه أولا ، من أن معنى الآية الكريمة ، أن الله - تعالى - قد خلق الثقلين لعبادته وطاعته ، ولكن منهم من أطاعة - سبحانه - ، ومنهم من عصاه . لاستحواذ الشيطان عليه .

قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر جملة من الأقوال : ومعنى الآية أنه - تعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب .

وفى الحديث القدسى : قال الله - عز وجل - " يا بن آدم ، تفرغ لعبادتى أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك . . " .

وفى بعض الكتب الإلهية . يقول الله - تعالى - " يابن آدم ، خلقتك لعبادتى فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب ، فاطلبنى تجدنى . فإن وجدتنى وجدت كل شىء ، وإن فتك فاتك كل شىء ، وأنا أحب إليك من كل شىء " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} (56)

هنا يجيء الإيقاع الأخير في السورة . ويتضح معنى الفرار إلى الله ، والتخلص من الأوهاق والأثقال ، لأداء الوظيفة التي خلق الله العباد لها ، ومنحهم وجودهم ليؤدوها :

( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . .

وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة ، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشرفي الأرض بدون إدراكها واستيقانها . سواء كانت حياة فرد أم جماعة . أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها .

وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي ، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة ، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة .

وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس . تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده ؛ وأصبح بلا وظيفة ، وباتت حياته فارغة من القصد ، خاوية من معناها الأصيل ، الذي تستمد منه قيمتها الأولى . وقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود ، وانتهى إلى الضياع المطلق ، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود ، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء .

هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود . هي العبادة لله . أو هي العبودية لله . . أن يكون هناك عبد ورب . عبد يعبد ، ورب يعبد . وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار .

ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة ، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر . فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر ؛ والله لا يكلفهم هذا . وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم . وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن ؛ ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان . نعرفها من القرآن من قول الله تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . . فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني . وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض ، والتعرف إلى قواها وطاقاتها ، وذخائرها ومكنوناتها ، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها . كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام .

ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى ، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا . وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين :

الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس . أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا . عبدا يعبد ، وربا يعبد . وأن ليس وراء ذلك شيء ؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد .

والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة ، والتجرد من كل شعور آخر ؛ ومن كل معنى غير معنى التعبد لله .

بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ؛ ويصبح العمل كالشعائر ، والشعائر كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله ، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله . . كلها عبادة ؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .

عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعرا أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى ، جاء لينهض بها فترة ، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها ، ولا غاية له من ورائها ، إلا الطاعة ، وجزاؤها الذي يجده في نفسهمن طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله ، ومن أنس برضى الله عنه ، ورعايته له . ثم يجده في الآخرة تكريما ونعيما وفضلا عظيما .

وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقا . يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة . ويكون قد تحرر بهذا الفرار . تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال . وخلص لله ، واستقر في الوضع الكوني الأصيل : عبدا لله . خلقه الله لعبادته . وقام بما خلق له . وحقق غاية وجوده . فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض ، وينهض بتكاليفها ، ويحقق أقصى ثمراتها ؛ وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها ؛ خالص القلب من جواذبها ومغرياتها . ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها . ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ، ثم الفرار إلى الله منها !

ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها . فلتكن النتائج ما تكون . فالإنسان غير معلق بهذه النتائج . إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال ؛ ولأن جزاءه ليس في نتائجها ، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها . .

ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيرا كاملا تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال . فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها . ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته . ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك . فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه ، وليست من شأنه . إنما هو قدر الله ومشيئته . وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته .

ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد ؛ وشعر أنه أخذ نصيبه ، وضمن جزاءه ، بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد ، فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة . فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف . ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض ، وثمرات هذا النشاط . فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته .