فلما بين البيان المبين في هذا القرآن قال في مدحه : { هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ } أي : يتبلغون به ويتزودون إلى الوصول إلى أعلى المقامات وأفضل الكرامات ، لما اشتمل عليه من الأصول والفروع ، وجميع العلوم التي يحتاجها العباد .
{ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ } لما فيه من الترهيب من أعمال الشر وما أعد الله لأهلها من العقاب ، { وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } حيث صرف فيه من الأدلة والبراهين على ألوهيته ووحدانيته ، ما صار ذلك حق اليقين ، { وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي : العقول الكاملة ما ينفعهم فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه ، وبذلك صاروا أولي الألباب والبصائر .
إذ بالقرآن ازدادت معارفهم وآراؤهم ، وتنورت أفكارهم لما أخذوه غضًّا طريًّا فإنه لا يدعو إلا إلى أعلى الأخلاق والأعمال وأفضلها ، ولا يستدل على ذلك إلا بأقوى الأدلة وأبينها .
وهذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي لم يزل في صعود ورقي على الدوام في كل خصلة حميدة .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - { هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } .
واسم الإشارة " هذا " يعود إلى ما أنزله الله - تعالى - من قرآن فى هذه السورة وفى غيرها . و { بلاغ } مصدر بمعنى التبليغ .
والإنذار : التخويف من سوء عاقبة ارتكاب الشرور والآثام .
والألباب : جمع لب وهو الخالص من كل شئ ، والمراد بها العقول .
أى : هذا القرآن الكريم الذى أنزلناه عليك يا محمد ، فيه التبليغ الكافى لهداية الناس ، وفيه ما يخوفهم من سوء عاقبة الكفر والفسوق والعصيان ، وفيه ما يجعلهم يعلمون عن طريق توجيهاته وهداياته ودلائله ، أن الله - تعالى - واحد لا شريك له ، وفيه ما يجعل أصحاب العقول السليمة يتعظون ويعتبرون ، فيترتب على ذلك سعادتهم فى الدنيا والآخرة .
وخص - سبحانه - بالتذكر أولى الألباب ، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداية القرآن الكريم ، أما غيرهم فهم كالأنعام بل هم أضل .
وقد رتب - سبحانه - فى هذه الآية ، وسائل الدعوة إلى الحق ترتيبا عقليا حكيما ، فبدأ بالصفة العامة وهى التبليغ ، ثم ثنى بما يعقب ذلك من إنذار وتخويف ، ثم ثلث بما ينشأ عنهما من العلم بوحدانية الله - تعالى - ثم ختم الثناء على أصحاب العقول السليمة الذين ينتفعون بما يسمعون وبما يبصرون .
قال الإِمام الرازى : " هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإِنسان ، ولا منقبة له ، إلا بسبب عقله ، لأنه - تعالى - بين أنه إنما أنزل هذه الكتب ، وإنما بعث الرسل ، لتذكير أولى الألباب . . " .
القول في تأويل قوله تعالى : { هََذَا بَلاَغٌ لّلنّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوَاْ أَنّمَا هُوَ إِلََهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذّكّرَ أُوْلُواْ الألْبَابِ } .
يقول تعالى ذكره : هذا القرآن بلاغ للناس ، أبلغ الله به إليهم في الحجة عليهم ، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره . وَلِيُنْذَرُوا بِهِ يقول : ولينذروا عقاب الله ، ويحذروا به نقماته ، أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم . وَلِيَعْلَمُوا أنّمَا هُوَ إلهٌ وَاحِدٌ يقول : وليعلموا بما احتجّ به عليهم من الحجج فيه أنما هو إله واحد ، لا آلهة شتى ، كما يقوله المشركون بالله ، وأن لا إله إلاّ هو الذي له ما في السموات وما في الأرض ، الذي سخر لهم الشمس والقمر والليل والنهار وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم ، وسخر لهم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخر لهم الأنهار . وَلِيَذّكّرَ أُولُوا الألْبابِ يقول : وليتذكر فيتعظ بما احتجّ الله به عليه من حججه التي في هذا القرآن ، فينزجر عن أن يجعل معه إلها غيره ، ويُشْرِك في عبادته شيئا سواه أهلُ الحجى والعقول ، فإنهم أهل الاعتبار والادّكار ، دون الذين لا عقول لهم ولا أفهام ، فإنهم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : هَذَا بَلاغٌ للنّاسِ قال : القرآن . وَلِيُنْذَرُوا بِهِ : قال : بالقرآن . وَلِيَعْلَمُوا أنّمَا هُوَ إلهٌ واحدٌ وَلِيَذَكّرَ أُولُوا الألْبابِ .
الإشارة إلى الكلام السابق في السورة كلها من أيْنَ ابتدأتهُ أصبت مراد الإشارة ، والأحسن أن يكون للسورة كلها .
والبلاغ اسم مصدر التبليغ ، أي هذا المقدار من القرآن في هذه السورة تبليغ للناس كلهم .
واللام في { للناس } هي المعروفة بلام التبليغ ، وهي التي تدخل على اسم من يَسمع قولاً أو ما في معناه .
وعطف { ولينذروا } على { بلاغ } عطف على كلام مقدر يدل عليه لفظ { بلاغ } ، إذ ليس في الجملة التي قبله ما يصلح لأن يعطف هذا عليه فإن وجود لام الجر مع وجود واو العطف مانع من جعله عطفاً على الخبر ، لأن المجرور إذا وقع خبر عن المبتدإ اتصل به مباشرة دون عطف إذ هو بتقدير كائِن أو مستَقر ، وإنما تعطف الأخبار إذا كانت أوصافاً . والتقدير هذا بلاغ للناس ليستيقظوا من غفلتهم ولينذروا به .
واللام في { ولينذروا } لام كي . وقد تقدم قريب من نظم هذه الآية في قوله تعالى { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها } في سورة الأنعام ( 92 ) .
والمعنى وليعلموا مِما ذكر فيه من الأدلة مَا الله إلا إلهٌ واحد ، أي مقصور على الإلهية الموحدة . وهذا قصر موصوف على صفة وهو إضافي ، أي أنه تعالى لا يتجاوز تلك الصفة إلى صفة التعدد بالكثرة أو التثليث ، كقوله : { إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } [ سورة النساء : 171 ] .
والتذكر : النظر في أدلة صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ووجوب اتباعه ، ولذلك خص بذوي الألباب تنزيلاً لغيرهم منزلة من لا عقول لهم { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } [ سورة الفرقان : 44 ] .
وقد رتبت صفات الآيات المشار إليها باسم الإشارة على ترتيب عقلي بحسب حصول بعضها عقب بعض ، فابتدىء بالصفة العامة وهي حصول التبليغ . ثم ما يعقب حصول التبليغ من الإنذار ثم ما ينشأ عنه من العلم بالوحدانية لما في خلال هذه السورة من الدلائل . ثم بالتذكير في ما جاء به ذلك البلاغ وهو تفاصيل العلم والعمل . وهذه المراتب هي جامع حكمة مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم موزعة على من بَلّغ إليهم . ويختص المسلمون بمضمون قوله : { وليذكروا أولوا الألباب } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.