{ 21 - 23 } { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا }
أي : قال المكذّبون للرسول المكذبون بوعد الله ووعيده الذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد ولا رجاء لقاء الخالق :
{ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } أي : هلا نزلت الملائكة تشهد لك بالرسالة وتؤيّدك عليها أو تنزل رسلا مستقلين ، أو نرى ربنا فيكلمنا ويقول : هذا رسولي فاتبعوه ؟ وهذا معارضة للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلوّ والعتوّ .
{ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ } حيث اقترحوا هذا الاقتراح وتجرأوا هذه الجرأة ، فمن أنتم يا فقراء ويا مساكين حتى تطلبوا رؤية الله وتزعموا أن الرسالة متوقف ثبوتها على ذلك ؟ وأي كبر أعظم من هذا ؟ .
{ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } أي : قسوا وصلبوا عن الحق قساوة عظيمة ، فقلوبهم أشد من الأحجار وأصلب من الحديد لا تلين للحق ، ولا تصغى للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ولا تذكير ولا اتبعوا الحق حين جاءهم النذير ، بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم وآيات الله البينات بالإعراض والتكذيب والمعارضة ، فأي عتوّ أكبر من هذا العتوّ ؟ " ولذلك بطلت أعمالهم واضمحلّت ، وخسروا أشد الخسران ، وحرموا غاية الحرمان .
ثم حكت السورة للمرة الرابعة تطاول المشركين وجهالاتهم ، وردت عليهم بما يخزيهم ، وبينت ما أعد لهم من عذاب فى يوم لا ينفعهم فيه الندم .
قال - تعالى - : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ . . . } .
قال الفخر الرازى : اعلم أن قوله - تعالى - : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } هو الشبهة الرابعة لمنكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحاصلها : لماذا لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق فى دعواه ، أو نرى ربنا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا . .
والرجاء : الأمل والتوقع لما فيه خير ونفع . وفسره بعضهم بمجرد التوقع الذى يشمل ما يسر وما يسوء ، وفسره بعضهم هنا بأن المراد به : الخوف .
والمراد بلقائه - سبحانه - : الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء لأنهم ينكرون ذلك ، ولا يبالون به ، ولا يخافون أهواله . قالوا - على سبيل التعنت والعناد- :
هلا أنزل علينا الملائكة لكى يخبرونا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم أو هلا نرى ربنا جهرة ومعاينة ليقول لنا إن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من عندى !
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { . . أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } أى : ليشهدوا بصدقك ، وقد رد الله - تعالى - عليهم بقوله : { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } .
والعتو : تجاوز الحد فى الظلم والعدوان . يقال عتا فلان يعتو عتوا ، إذا تجاوز حده فى الطغيان .
أى : والله لقد أضمر هؤلاء الكافرون الاستكبار عن الحق فى أنفسهم المغرورة ، وتجاوزوا كل حد فى الطغيان تجاوزا كبيرا ، حيث طلبوا مطالب هى أبعد من أن ينالوها بعد الأرض عن السماء . وصدق الله إذ يقول : { . . . إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ . . } ووصف - سبحانه - عتوهم بالكبر للدلالة على إفراطهم فيه ، وأنهم قد وصلوا فى عتوهم إلى الغاية القصوى منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىَ رَبّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وقال المشركون الذين لا يخافون لقاءنا ، ولا يَخْشَوْن عقابنا ، هلا أنزل الله علينا ملائكة ، فتخبرَنا أن محمدا محقّ فيما يقول ، وأن ما جاءنا به صدق ، أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك ، كما قال جلّ ثناؤه مخبرا عنهم : وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا ثم قال بعد : أوْ تَأْتِيَ باللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً يقول الله : لقد استكبر قائلو هذه المقالة في أنفسهم ، وتعظموا ، وَعَتَوْا عُتُوّا كَبِيرا يقول : وتجاوزوا في الاستكبار بقيلهم ذلك حدّه ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال كفار قريش : لَوّلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ فيخبرونا أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا في أنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّا لأن «عتا » من ذوات الواو ، فأخرج مصدره على الأصل بالواو . وقيل في سورة مريم : وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عتِيّاوإنما قيل ذلك كذلك لموافقة المصادر في هذا الوجه جمع الأسماء كقولهم : قعد قعودا ، وهم قوم قعود ، فلما كان ذلك كذلك ، وكان العاتي يجمع عتيا بناء على الواحد ، جعل مصدره أحيانا موافقا لجمعه ، وأحيانا مردودا إلى أصله .
{ وقال الذين لا يرجون } لا يأملون { لقاءنا } بالخير لكفرهم بالبعث ، أولا يخافون { لقاءنا } بالشر على لغة تهامة ، واصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي ، والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول . { لولا } هلا . { أنزل علينا الملائكة } فتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل فيكونوا رسلا إلينا . { أو نرى ربنا } فيأمرنا بتصدقيه واتباعه . { لقد استكبروا في أنفسهم } أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك . { وعتوا } وتجاوزوا الحد في الظلم . { عتوا كبيرا } بالغا أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها ، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ماسدت دونه مطامح النفوس القدسية ، واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله :
ثم أخبر عن مقالة الكفار { لولا أنزل علينا الملائكة } الآية ، وقوله { يرجون } قال أبو عبيدة وقوم معناه يخافون والشاهد لذلك قول الهذلي : [ الطويل ]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها . . . وخالفها في بيت نوب عوامل{[8805]}
قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر لي أن الرجاء في هذه الآية والبيت على بابه لأن خوف لقاء الله تعالى مقترن أبداً برجائه ، فإذا نفي الرجاء عن أحد فإنما أخبر عنه أنه مكذب بالبعث لنفي الخوف والرجاء ، وفي ذكر الكفار بنفي الرجاء تنبيه على غبطة ما فاتهم من رجاء الله تعالى ، وأما بيت الشعر المذكور فمعناه عندي لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله ، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى عنهم أنهم عظموا أنفسهم وسألوا ما ليسوا به بأهل ، { وعتوا } ، معناه صعبوا عن الحق واشتدوا ، ويقال عتو وعتي على الأصل ، وعتي معلول باستثقال الضم على الواو فقلبت ياء ثم كسر ما قبلها طلب التناسب{[8806]} .
حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسولَ عليه الصلاة والسلام ، وقد عنون عليهم في هذه المقالة ب { الذين لا يَرجُون لقاءنا } وعنون عليهم في المقالات السابقة ب { الذين كفروا } [ الفرقان : 4 ] وب { الظالمون } [ الفرقان : 8 ] لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض ، فهم قد كذّبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكةِ ، وطَلَبوا رؤية الله في الدنيا ، ونزولَ الملائكة عليهم في الدنيا ، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة ، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم .
واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهّموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل ، فمن أجل ذلك أيضاً جعل قولهم ذلك طريقاً لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله } في سورة يونس ( 15 ) .
و { لولا } حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة ، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به ، يعنون أنه إن كان صادقاً فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم .
ومعنى : { لا يرجون } لا يظنون ظنّاً قريباً ، أي يَعُدّون لقاء الله محالاً . ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم ، ولذلك عقب بقوله : { لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً } على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل .
والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم . والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كِلاب أو بني نُمير أنشده ثعلب في « مجالسه » والقالي في « أماليه » :
أَلاَ يَا سَنا برقٍ على قُلَلِ الحِمى *** لَهِنَّك مِنْ برقٍ علي كريمُ
فإن قوله : من برق ، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب .
والاستكبار : مبالغة في التكبر ، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب .
و { فِي } للظرفية المجازية ؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها ، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى : { وفي أنفُسِكم أفلا تُبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
ويجوز أن تكون { في } للتعليل كما في الحديث " دخلتتِ امرأة النارَ في هِرَّةٍ حَبَسْتَها " الحديث ، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم . وليست الظرفية حقيقية لِقلّة جدوى ذلك ؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية .
والعُتوّ : تجاوز الحد في الظلم ، وتقدم في قوله تعالى : { وعَتوا عن أمر ربّهم } في الأعراف ( 77 ) . وإنما كان هذا ظلماً لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية .
وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الذين لا يرجون لقاءنا} يعني: لا يخشون البعث... {لولا} يعني: هلا {أنزل علينا الملائكة} فكانوا رسلا إلينا، {أو نرى ربنا} فيخبرنا أنك رسول. يقول الله تعالى: {لقد استكبروا} يقول: تكبروا {في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا}، يقول: علوا في القول علوا شديدا حين قالوا: أو نرى ربنا، فهكذا العلو في القول.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال المشركون الذين لا يخافون لقاءنا، ولا يَخْشَوْن عقابنا، هلا أنزل الله علينا ملائكة، فتخبرَنا أن محمدا محقّ فيما يقول، وأن ما جاءنا به صدق، أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك، كما قال جلّ ثناؤه مخبرا عنهم:"وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا" ثم قال بعد: "أوْ تَأْتِيَ باللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً "يقول الله: لقد استكبر قائلو هذه المقالة في أنفسهم، وتعظموا، "وَعَتَوْا عُتُوّا كَبِيرا" يقول: وتجاوزوا في الاستكبار بقيلهم ذلك حدّه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا}: لا يؤمنون بالحشر والنشر والرجوع إلى الله في القيامة من الدنيا. وكما كانوا لا يخافون العذابَ، ولا ينتظرون الحَشْرَ كذلك كانوا لا يُؤْمِنون لقاءَ الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة، أو لا يخافون لقاءنا بالشر...
اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمداً صادق حتى يصدقوه، أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه... وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم، كما فعل قوم موسى حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
فإن قلت: ما معنى {فِي أَنفُسِهِمْ}؟ قلت: معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه. كما قال: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه} [غافر: 56].
{وَعَتَوْا} وتجاوزوا الحدّ في الظلم. يقال: عتا علينا فلان. وقد وصف العتوّ بالكبير، فبالغ في إفراطه يعني أنهم لم يَجْسروا على هذا القول العظيم، إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتوّ، واللام جواب قسم محذوف. وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية...
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب. ألا ترى أن المعنى: ما أشدّ استكبارهم، وما أكبر عتوّهم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا "حيث سألوا الله الشطط؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر هذا الابتلاء بعد أن ذكر أول السورة ما هو سبحانه عليه من العظمة من سعة الملك، وكثرة الصنائع، والإحسان إلى جميع الخلق، وكان من حق كل مربوب أن يتعرف إلى ربه، كائناً من كان، لا سيما إذا كان بهذه الصفة، لينال من إحسانه، ويتعزز به على أقرانه، أتبع ذلك أنه كشف الابتلاء عن أنه لا بصر لهم فقال تعالى: {وقال} وأظهر في موضع الإضمار الوصف الذي قدم أنه موجب لعماهم فقال: {الذين لا يرجون} أي ليست لهم عقول لكونهم نسوا {لقاءنا} فهم لا يعملون عملاً يطمعون في إثباتنا لهم عليه بعد الموت على ما يعلمون لنا من العظمة التي من رجاها كانت له فسعد، ومن أعرض عنها كانت عليه فهلك، فصارت لذلك عقولهم تبعاً لشهواتهم، فصاروا يتعرفون إلى جمادات سموها أربابهم، ويقصدونها ويتمسحون بها رجاء للمحال، والانهماك في الضلال، فذكر الرجاء لهذا الغرض مع أنه يلزمه عدم الخوف: {لولا} أي هلا ولم لا. ولما كان مرادهم لجهلهم أن يروهم كلهم دفعة واحدة، عبر بالإنزال فقال: {أنزل} أي على أيّ وجه كان من أيّ منزل كان {علينا الملائكة} أي كما أنزلت عليه فيما يزعم {أو نرى ربنا} بما له إلينا من الإحسان وما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة. ولما كان هذا القول مما لا ينبغي لبشر أن يجترئ عليه، لأن فيه اعتراضاً على من لا يحد وصف عظمته، ولا تدرك مقاصد حكمته، قال مصدراً بحرف التوقع لما أرشد إليه السياق جواباً لمن كأنه سأل: ما حالهم في هذا؟ {لقد} أي وعزتنا لقد {استكبروا} أي طلبوا بل أوجدوا الكبر. ولما لم يكن لكبرهم ثمرة في الظاهر، لأنه لا يعود بالضرر على أحد غيرهم، قال: {في أنفسهم} أي بطلب رؤية الملائكة. ولما كان حاصل أمرهم أنهم طلبوا رتبة النبي الذي واسطته الملك، وزادوا عليه رؤية جميع الملائكة الآخذين عن الله، وزادوا على ذلك بطلب الرؤية، قال: {وعتو} أي وجاوزوا الحد في الاستكبار بما وراءه من طلبهم رؤية جميع الملائكة ورؤية الملك الجبار، وزاد في تأكيد هذا المعنى لاقتضاء المقام له بقوله: {عتواً كبيراً} وبيان أنهم ما قالوا هذا إلا عتواً وظلماً أن ما جاءهم من الآيات التي أعظمها القرآن دلهم قطعاً بعجزهم عن الإتيان بشيء منه على صدقه صلى الله عليه وسلم عن الله في كل ما يقوله، وفي حسن هذا الاستئناف وفحوى هذا السياق دلالة على التعجب من غير لفظ تعجب فالمعنى: ما أشد استكبارهم وأكبر عتوهم!...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
قال المكذّبون للرسول، المكذبون بوعد الله ووعيده الذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد ولا رجاء لقاء الخالق: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} أي: هلا نزلت الملائكة تشهد لك بالرسالة وتؤيّدك عليها أو تنزل رسلا مستقلين، أو نرى ربنا فيكلمنا ويقول: هذا رسولي فاتبعوه؟ وهذا معارضة للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلوّ والعتوّ. {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} حيث اقترحوا هذا الاقتراح وتجرأوا هذه الجرأة، فمن أنتم يا فقراء ويا مساكين حتى تطلبوا رؤية الله وتزعموا أن الرسالة متوقف ثبوتها على ذلك؟ وأي كبر أعظم من هذا؟. {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} أي: قسوا وصلبوا عن الحق قساوة عظيمة، فقلوبهم أشد من الأحجار وأصلب من الحديد لا تلين للحق، ولا تصغى للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ولا تذكير ولا اتبعوا الحق حين جاءهم النذير، بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم وآيات الله البينات بالإعراض والتكذيب والمعارضة، فأي عتوّ أكبر من هذا العتوّ؟ "ولذلك بطلت أعمالهم واضمحلّت، وخسروا أشد الخسران، وحرموا غاية الحرمان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يبدأ هذا الشوط من السورة بما يشبه بدء الشوط الأول، ويسير سيرته في تقديم ما يتطاول به المشركون على ربهم، وما يتفوهون به من اعتراضات واقتراحات، مقدمة لما يتطالون به على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في مقام تسليته وتعزيته. غير أن السياق هنا يعجل بعرض ما ينتظرهم من عذاب الآخرة عقابا على ذلك التطاول، في سلسلة متصلة من مشاهد القيامة، ردا على قولهم: (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا).. ثم يعرض اعتراضاتهم على تنزيل القرآن منجما، ويعقب ببيان الحكمة من تنزيله متتابعا، ويطمئن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على عون الله له كلما تحدوه في جدل: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا).. ويعرض عليه وعليهم مصارع المكذبين قبلهم، ويوجه نظرهم إلى مصرع قوم لوط، وهم يمرون على قريته المدمرة، مستنكرا ألا يحرك قلوبهم منظرها وهم يمرون عليها.. كل أولئك مقدمة لعرض استهزائهم بشخصه [صلى الله عليه وسلم] وتطاولهم على مقامه، وما يكاد يعرض هذا حتى يعقب عليه تعقيبا قويا، يحقرهم فيه ويحتقرهم: (إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى: {لا يرجون} لا يظنون ظنّاً قريباً، أي يَعُدّون لقاء الله محالاً. ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم، ولذلك عقب بقوله: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً} على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل. والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم. والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب... والاستكبار: مبالغة في التكبر، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب. و {فِي} للظرفية المجازية؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى: {وفي أنفُسِكم أفلا تُبصرون} [الذاريات: 21]. ويجوز أن تكون {في} للتعليل كما في الحديث "دخلتِ امرأة النارَ في هِرَّةٍ حَبَسْتَها "الحديث، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم. وليست الظرفية حقيقية لِقلّة جدوى ذلك؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية.
والعُتوّ: تجاوز الحد في الظلم، وتقدم في قوله تعالى: {وعَتوا عن أمر ربّهم} في الأعراف (77). وإنما كان هذا ظلماً لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية. وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} فيه إشارة إلى أن السبب في لجاجتهم في الكفر وإنكارهم للمعجزات، وعدم تعلقهم للحقائق هو أنهم لا يرجون لقاء الله، ولو رجوا لقاء الله، لعملوا حساب هذا اللقاء واهتدوا بدل الكفران...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
منذ نبتت نابتة سوء من أولياء الشيطان، وأعلنوا حرب التزييف والتشويه والطعن على أولياء الرحمان، وهم يدورون في حلقة مفرغة، يرددون طبقة بعد طبقة، نفس القول المتهافت المبتذل، من كل هراء، وسلاحهم الوحيد هو سلاح العناد والجدال والمراء، ولذلك نجد كتاب الله يلاحقهم بقوارعه في كل جيل، ويسلط الأضواء الكاشفة على ما هم متصفون به من سفه وتدجيل. وقد تصدى كتاب الله في هذا الربع للكشف عن تُرّهاتهم وإبطال شبهاتهم، وحكاية مزاعمهم التي لا تستند إلى أساس، وتحدياتهم التي بلغت الغاية في الإسفاف والإفلاس. ومن هذه المزاعم والتحديات ما حكاه عنهم كتاب الله تعبيرا عن كفرهم بلقاء الله وشكهم في البعث والنشور، إذ قال تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} ثم أتبع كتاب الله تحديهم ببيان الحافز عليه، والمصير المفجع الذي يؤدي إليه، فقال تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا}...
{وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوّاً كبيرا}:
واللقاء: يعني البعث، وقد آمنا بالله غيبا، وفي الآخرة نؤمن به تعالى مشهدا {لمن الملك اليوم... 16} (غافر): حتى من لم يؤمن في الدنيا سيؤمن في الآخرة...
كل ما يغيظهم أن يكون الرسول بشرا، وهذا الاستدراك يدل على غبائهم، فلو جاء الرسول ملكا ما صح أن يكون لهم قدوة، وما جاء الرسول إلا ليكون قدوة ومعلما للمنهج وأسوة سلوك، ولو جاء ملكا لأمكنه نعم أن يعلمنا منهج الله، لكن لا يصح أن يكون لنا أسوة سلوك، فلو أمرك بشيء وهو ملك لكان لك أن تعترض عليه تقول: أنت ملك تقدر على ذلك، أما أنا فبشر لا أقدر عليه.
فالحق سبحانه يقول: لاحظوا أن للرسل مهمتين: مهمة البلاغ، ومهمة الأسوة السلوكية، فلو أنهم كانوا من غير طبيعة البشر لتأتى لهم البلاغ، لكن لا يتأتى لهم أن يكونوا قدوة ونموذجا يحتذى.