56- إن الذين جحدوا حُجَجَنَا البينات ، وكذَّبوا الأنبياء ، سوف ندخلهم النار التي تُكْوَى بها جلودهم ، وكلما فقدت الإحساس بالعذاب بدَّلهم الله جلوداً غيرها جديدة ليستمروا في ألم العذاب ، إن الله تعالى غالب على أمره ، حكيم في فعله ، يعذب من جحد به وأصرَّ على ذلك حتى مات{[42]} .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا }
أي : عظيمة الوقود شديدة الحرارة { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي : احترقت { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } أي : ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ . وكما تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية ؛ كرر عليهم العذاب جزاء وِفاقا ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي : له العزة العظيمة والحكمة في خلقه وأمره ، وثوابه وعقابه .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة كل كافر ، وحسن عاقبة كل مؤمن ، فقال : { إِنَّ الذين . . . . ظَلِيلاً } .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 56 ) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ( 57 )
والمراد بالذين كفروا هنا : كل كافر سواء أكان من بنى إسرائيل أم من غيرهم .
وقوله : { نُصْلِيهِمْ } من الإِصلاء وهو إيقاد النار . والمراد هنا إدخالهم فيها وقوله : { نَضِجَتْ } من النضج وهو بلوغ نهاية الشئ . يقال : نضج الثمر واللحم ينضج نضجاً إذا أدرك وبلغ نهايته . والمراد هنا : احتراق الجلود احتراقا تاما .
والمعنى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا } الدالة على أن الله وحده هو المستحق للعبادة والخضوع { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } أى : سوف ندخلهم نارا هائلة عظيمة وسوف هنا - كما قال سيبويه - للتهديد وتأكيد العذاب المقبل ولو مع التراخى العذاب مع تأكيده يجعل النفس فى فزع دائم ، وخوف مستمر حتى يقع .
وقوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } بيان لشدة العذاب ودوامه أى : كلما احترقت جلودهم وتلاشت أعطيناهم بدل الجلود المحترقة جلودا غير متحرقة مغايرة للمحترفة .
فالتدبيل على هذا حقيقى مادى . بمعنى أن يخلق الله - تعالى - مكان الجلود المحترقة جلودا أخرى جديدة مغايرة للمحترقة .
ويرى بعضهم أن الجملة الكريمة كناية عن دوام العذاب لهم . وقد ذكر هذا الرأى الفخر الرازى فقال : ويمكن أن يقال : هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع . كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام : كلما انتهى فقد ابتدأ . وكلما وصل إلى آخره فقد أبتدأ من أوله . فكذا قوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } .
يعنى : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك ، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة . فيكون المقصود ببيان دام العذاب وعدم انقطاعه .
والذى نراه أن حمل التبديل على حقيقته أولى ، لأنه ليس لنا أن نعدل فى كلام الله عن الحقيقة إلى المجاز ، إلا عند الضرورة . وهنا لا ضرورة لذلك ، لأن تبديل الجلود داخل تحت قدرة الله - تعالى - ولأن هذا المعنى الذى ذكره الإِمام الرازى يتأتى مع حمل اللفظ على حقيقته إذ كلمة " لك " تدل على دوام العذاب وعدم انقطاعه ، ولأن كثيرا من السلف قد فسروا الآية على الوجه الأول ، فقد روى عن ابن عمر أنه قال : تلا رجل عند عمر هذه الآية قال : فقال عمر : أعدها على . فأعادها . فقال معاذ بن جبل : عندى تفسيرها : تبدل جلودها فى كل ساعة مائة مرة . فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله { لِيَذُوقُواْ العذاب } جملة تعليلية لقوله { بَدَّلْنَاهُمْ } أى بدلناهم جلودا غيرها ليقاسوا شدة العذاب ، وليحسوا به فى كل مرة كما يحس الذائق للشئ الذى يذوقه .
وقوله { إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } تذييل قصد به تأكيد التهديد والوعيد الذى اشتملت عليه الآية الكريمة .
أى : أن الله - تعالى كان وما زال عزيزا لا يغلبه غالب ، ولا يمنع عقابه مانع ( حكيما ) فى تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه وإثابة من يثيبه .
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } . .
هذا وعيد من الله جلّ ثناؤه للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنزل الله على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر الكفار برسوله . يقول الله لهم : إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من آياتي ، يعني من آيات تنزيله ووحي كتابه ، وهي دلالاته وحججه على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم يصدّقوا به من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر أهل الكفر به¹ { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نارا } يقول : سوف ننضجهم في نار يَصْلُوْن فيها : أي يشوون فيها . { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } يقول : كلما انْشَوَتْ بها جلودهم فاحترقت ، { بَدّلْناهُمْ جُلودا غيرَها } يعني : غير الجلود التي قد نضجت فانشوت . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن ثوير ، عن ابن عمر : { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها } قال : إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودا بيضا أمثال القراطيس .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نارا كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها } يقول : كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } قال : سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأوّل أن جلد أحدهم أربعون ذراعا ، وسنّه سبعون ذراعا ، وبطنه لو وضع فيه جبل لوَسِعَهُ ، فإذا أكلت النار جلودهم بُدّلوا جلودا غيرها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : بلغني عن الحسن : { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها } قال : نُنضجهم في اليوم سبعين ألف مرّة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، قوله : { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها } قال : تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد ، وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعا ، والله أعلم بأيّ ذراع .
فإن سأل سائل ، فقال : وما معنى قوله جلّ ثناؤه : { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلودا غيرَها } ؟ وهل يجوز أن يبدّلوا جلودا غير جلودهم التي كات لهم في الدنيا ، فيعذّبوا فيها ؟ فإن جاز ذلك عندك ، فأجز أن يبدّلوا أجساما وأرواحا غير أجسامهم وأوراحهم التي كانت لهم في الدنيا فتعذّب ! وإن أجزت ذلك ، لزمك أن يكون المعذّبون في الاَخرة بالنار غير الذين أوعدهم الله العقاب على كفرهم به ومعصيتهم إياه ، وأن يكون الكفار قد ارتفع عنهم العذاب ! قيل : إن الناس اختلفوا في معنى ذلك ، فقال بعضهم : العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم ، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب ، وأما الجلد واللحم فلا يألمان . قالوا : فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان له في الدنيا ، أو جلد غيره ، إذ كانت الجلود غير آلمة ولا معذّبة ، وإنما الاَلمة المعذّبة النفس التي تحسّ الألم ، ويصل إليها الوجع . قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، فغير مستحيل أن يخلق لكل كافر في النار في كل لحظة وساعة من الجلود ما لا يُحْصَى عدده ، ويحرق ذلك عليه ، ليصل إلى نفسه ألم العذاب ، إذ كانت الجلود لا تألم .
وقال آخرون : بل الجلود تألم ، واللحم وسائر أجزاء جِرْمِ بني آدم ، وإذا أحرق جلده أو غيره من أجزاء جسده ، وصل ألم ذلك إلى جميعه . قالوا : ومعنى قوله : { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْناهُم جُلُودا غيرَها } : بدلناهم جلودا غير محترقة ، وذلك أنها تعاد جديدة ، والأولى كانت قد احترقت فأعيدت غير محترقة ، فلذلك قيل غيرها ، لأنها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا التي عصوا الله وهي لهم . قالوا : وذلك نظير قول العرب للصائغ إذا استصاغته خاتما من خاتم مصوغ ، بتحويله عن صياغته التي هو بها إلى صياغة أخرى : صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره ! فيكسره ويصوغ له منه خاتما غيره والخاتم المصوغ بالصياغة الثانية هو الأوّل ، ولكنه لما أعيد بعد كسره خاتما قيل هو غيره . قالوا : فكذلك معنى قوله : { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها } لما احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد الاحتراق ، قيل هي غيرها على ذلك المعنى .
وقال آخرون : معنى ذلك : { كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } سرابيلهم ، بدلناهم سرابيل من قطران غيرها . فجعلت السرابيل القطران لهم جلودا ، كما يقال للشيء الخاصّ بالإنسان : هو جلدة ما بين عينيه ووجهه لخصوصه به . قالوا : فكذلك سرابيل القطران التي قال الله في كتابه : { سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النّارُ } لما صارت لهم لباسا لا تفارق أجسامهم جُعلت لهم جلودا ، فقيل : كلما اشتعل القطران في أجسامهم واحترق بدّلوا سرابيل من قطران آخر . قالوا : أوما جلود أهل الكفر من أهل النار فإنها لا تحرق ، لأن في احتراقها إلى حال إعادتها فناءها ، وفي فنائها راحتها . قالوا : وقد أخبرنا الله تعالى ذكره عنها أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها . قالوا : وجلود الكفار أحد أجزاء أجسامهم ، ولو جاز أن يحترق منها شيء فيفنى ثم يعاد بعد الفناء في النار ، جاز ذلك في جميع أجزائها ، وإذا جاز ذلك وجب أن يكون جائزا عليهم الفناء ثم الإعادة والموت ثم الإحياء ، وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون . قالوا : وفي خبره عنهم أنهم لا يموتون دليل واضح أنه لا يموت شيء من أجزاء أجسامهم ، والجلود أحد تلك الأجزاء .
وأما معنى قوله : { لِيَذُوقُوا العَذَابَ } فإنه يقول : فعلنا ذلك بهم ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدّته بما كانوا في الدنيا يكذّبون آيات الله ويجحدونها .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ كانَ عَزِيزا حَكِيما } .
يقول : إن الله لم يزل عزيزا في انتقامه ممن انتقم منه من خلقه ، لا يقدر على الامتناع منه أحد أراده بضرّ ، ولا الانتصار منه أحد أحلّ به عقوبة ، حكيما في تدبيره وقضائه .
{ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا } كالبيان والتقرير لذلك . { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك : بدلت الخاتم قرطا ، أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب كما قال : { ليذوقوا العذاب } أي ليدوم لهم ذوقه . وقيل يخلق لهم مكانه جلد آخر والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها فلا محذور . { إن الله كان عزيزا } لا يمتنع عليه ما يريده . { حكيما } يعاقب على وفق حكمته .
تقدم في الآيات وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم ، ثم جاء بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم ممن فعل فعلهم من الكفر ، والقراءة المشهورة { نُصليهم } بضم النون من أصليت ومعناه قربت من النار وألقيت فيها ، وهو معنى صليت بتشديد اللام ، وقرأ حميد «نَصليهم » بفتح النون من صليت ، ومعناه شويت ، ومنه الحديث ، أتي رسول الله بشاة مصلية ، أي مشوية{[4107]} ، وكذا وقع تصريف الفعل في العين وغيره ، وقرأ سلام ويعقوب «نصليهُم » بضم الهاء ، واختلف المتأولون في معنى تبديل الجلود{[4108]} ، فقالت فرقة : تبدل عليهم جلود غيرها ، إذ نفوسهم هي المعذبة والجلود لا تألم في ذاتها ، فإنها تبدل ليذوقوا تجديد العذاب{[4109]} ، وقالت فرقة : «تبديل الجلود » هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا ، تأكله النار ويعيده الله دأباً لتجدد العذاب ، وإنما سماه «تبديلاً » ، لأن أوصافه تتغير ثم يعاد ، كما تقول : بدل من خاتمي هذا خاتماً وهي فضته بعينها ، فالبدل إنما وقع في تغيير الصفات ، وقال ابن عمر ، كلما احترقت جلودهم بدلوا جلوداً بيضاء كالقراطيس ، وقال الحسن بن أبي الحسن ، تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة ، وقالت فرقة : الجلود في هذا الموضع سرابيل القطران{[4110]} ، سماها جلوداً للزومها فصارت كالجلود ، وهي تبدل دأباً عافانا الله من عذابه برحمته ، حكاه الطبري ، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالعزة والإحكام ، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله ، ولا يفعل شيئاً إلا بحكمة وإصابة ، لا إله إلا هو تبارك وتعالى .
تهديد ووعيد لجميع الكافرين ، فهي أعمّ ممّا قبلها ، فلها حكم التذييل ، ولذلك فُصلت . والإصْلاء : مصدر أصلاهُ ، ويقال : صلاهُ صَلْيا ، ومعناه شيُّ اللحم على النار ، وقد تقدّم الكلام على ( صلى ) عند قوله تعالى : { وسيَصْلون سعيرا } [ النساء : 10 ] وقوله : { فسوف نصليه ناراً } في هذه السورة [ النساء : 30 ] ، وتقدّم أيضاً الكلام على ( سوف ) في الآية الأخيرة . و { نصليهم } بضم النون من الإصلاء . و { نضجت } بلغت نهاية الشيّ ، يقال : نضج الشِّواء إذا بلغ حدّ الشيّ ، ويقال : نضج الطبيخ إذا بلغ حدّ الطبخ . والمعنى : كلّما احترقت جلودهم ، فلم يبق فيها حياة وإحساس . بدّلناهم ، أي عوّضناهم جلوداً غيرها ، والتبديل يقتضي المغايرة كما تقدّم في قوله في سورة البقرة : { أتستبدلون الذي هو أدنى } [ البقرة : 61 ] . فقوله : { غيرها } تأكيد لما دلّ عليه فعل التبديل . وانتصب { ناراً } على أنَّه مفعول ثان لأنّه من باب أعطَى .
وقوله : { ليذوقوا العذاب } تعليل لقوله : { بدّلناهم } لأنّ الجِلد هو الذي يوصل إحساس العذاب إلى النفس بحسب عادة خلق الله تعالى ، فلو لم يبدّل الجلد بعد احتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس . وتبديل الجلد مع بقاء نفس صاحبه لا ينافي العدل لأنّ الجِلد وسيلة إبلاغ العذاب وليس هو المقصود بالتعذيب ، ولأنّه ناشىء عن الجلد الأوّل كما أنّ إعادة الأجسام في الحشر بعد اضمحلالها لا يوجب أن تكون أناساً غير الذين استحقّوا الثواب والعقاب لأنّها لمّا أُودعت النفوسَ التي اكتسبت الخيرَ والشرّ فقد صارت هي هي ولا سيما إذا كانت إعادتها عن إنبات من أعجاب الأذناب ، حسبما ورد به الأثر ، لأنّ الناشىء عن الشيء هو منه كالنخلة من النواة .
وقوله : { إنّ الله كان عزيزاً حكيماً } واقع موقع التعليل لِما قبله ، فالعزّة يتأتى بها تمام القدرة في عقوبة المجترىء على الله ، والحكمة يتأتّى بها تلك الكيفية في إصلائهم النار .