{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ } الكلام الخفي { وَأَخْفَى } من السر ، الذي في القلب ، ولم ينطق به . أو السر : ما خطر على القلب . { وأخفى } ما لم يخطر . يعلم تعالى أنه يخطر في وقته ، وعلى صفته ، المعنى : أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، دقيقها ، وجليلها ، خفيها ، وظاهرها ، فسواء جهرت بقولك أو أسررته ، فالكل سواء ، بالنسبة لعلمه تعالى .
وقوله - سبحانه - : { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } بيان لشمول علمه بكل شىء ، بعد بيان شمول قدرته .
والجهر بالقول : رفع الصوت به . والسر : ما حدث به الإنسان غيره بصورة خفية . وأخفى أفعل تفضيل وتنكيره للمبالغة فى الخفاء .
والمعنى : وإن تجهر - أيها الرسول - بالقول فى دعائك أو فى مخاطبتك لربك ، فربك - عز وجل - غنى عن ذلك ، فإنه يعلم ما يحدث به الإنسان غيره سرا ، ويعلم أيضا ما هو أخفى من ذلك وهو ما يحدث به الإنسان نفسه دون أن يطلع عليه أحد من الخلق .
قال - تعالى - : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } وقال - سبحانه - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } ومنهم من يرى أن لفظ { أَخْفَى } فعل ماض . فيكون المعنى : وإن تجهر بالقول فى ذكر أو دعاء فلا تجهد نفسك
بذلك فإنه - تعالى - يعلم السر لاذى يكون بين اثنين ، ويعلم ما أخفاه - سبحانه - عن عباده من غيوب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما سيفعله الإنسان من أعمال فى المستقبل ، قبل أن يعلم هذا الإنسان أنه سيفعلها .
قال الجمل : وقوله : { أَخْفَى } جوزوا فيه وجهين : أحدهما : أنه أفعل تفضيل . أى : وأخفى من السر . والثانى : أنه فعل ماض . أى : وأخفى الله من عباده غيبه ، كقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنّهُ يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى * اللّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن تجهر يا محمد بالقول ، أو تخف به ، فسواء عند ربك الذي له ما في السموات وما في الأرض فإنّهُ يَعْلَمُ السّرّ يقول : فإنه لا يخفى عليه ما استسررته في نفسك ، فلم تبده بجوارحك ولم تتكلم بلسانك ، ولم تنطق به وأخفى .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله وأخْفَى فقال بعضهم : معناه : وأخفى من السرّ ، قال : والذي هو أخفى من السرّ ما حدّث به المرء نفسه ولم يعمله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : السرّ : ما عملته أنت وأخفى : ما قذف الله في قلبك مما لم تعمله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " يعني بأخفى : ما لم يعمله ، وهو عامله وأما السرّ : فيعني ما أسرّ في نفسه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله " يَعْلَمُ السّر وأخْفَى " قال : السرّ : ما أسرّ ابن آدم في نفسه . وأخفى : قال : ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله ، فالله يعلم ذلك ، فعلمه فيما مضى من ذلك ، وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة ، وهو قوله : " ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ " .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : السرّ : ما أسرّ الإنسان في نفسه وأخفى : ما لا يعلم الإنسان مما هو كائن .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : أخفى : الوسوسة . زاد ابن عمرو والحارث في حديثيهما : والسرّ : العمل الذي يسرّون من الناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وأخْفَى قال : الوسوسة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : أخفى حديث نفسك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : حدثنا أبو كُدَينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : السرّ : ما يكون في نفسك اليوم . وأخفى : ما يكون في غد وبعد غد ، لا يعلمه إلاّ الله .
وقال آخرون : بل معناه : وأخفى من السرّ ما لم تحدّث به نفسك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : السرّ : ما أسررت في نفسك وأخفى من ذلك : ما لم تحدّث به نفسك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة " وَإنْ تَجْهَرْ بالقَوْلِ فإنّهُ يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " كنا نحدث أن السرّ ما حدّثت به نفسك ، وأن أخفى من السرّ : ما هو كائن مما لم تحدّث به نفسك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا أبو قتادة ، قوله في " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : يعلم ما أسررت في نفسك ، وأخفى : ما لم يكن وهو كائن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : أخفى من السرّ : ما حدّثت به نفسك ، وما لم تحدث به نفسك أيضا مما هو كائن .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " أما السرّ : فما أسررت في نفسك . وأما أخفى من السرّ : فما لم تعمله وأنت عامله ، يعلم الله ذلك كله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه يعلم سرّ العباد ، وأخفى سرّ نفسه ، فلم يطلع عليه أحدا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " يَعْلَمُ السّرّ وأخْفَى " قال : يعلم أسرار العباد ، وأخفى سرّه فلا يعلم .
قال أبو جعفر : وكأن الذين وجّهوا ذلك إلى أن السرّ هو ما حدّث به الإنسان غيره سرّا ، وأن أخفى : معناه : ما حدّث به نفسه ، وجهوا تأويل أخفى إلى الخفيّ . وقال بعضهم : قد توضع أفعل موضع الفاعل ، واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر :
تَمَنّى رِجالٌ أنْ أمُوتَ وَإنْ أمُتْ *** فتلكَ طَرِيقٌ لَسْتُ فِيها بأوْحَدِ
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : معناه : يعلم السرّ وأخفى من السرّ ، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام ولو كان معنى ذلك ما تأوّله ابن زيد ، لكان الكلام : وأخفى الله سرّه ، لأن أخفى : فعل واقع متعدّ ، إذ كان بمعنى فعل على ما تأوّله ابن زيد ، وفي انفراد أخفى من مفعوله ، والذي يعمل فيه لو كان بمعنى فعل الدليل الواضح على أنه بمعنى أفعل ، وأن تأويل الكلام : فإنه يعلم السرّ وأخفى منه . فإذ كان ذلك تأويله ، فالصواب من القول في معنى أخفى من السرّ أن يقال : هو ما علم الله مما أخفى عن العباد ، ولم يعلموه مما هو كائن ولما يكن ، لأن ما ظهر وكان فغير سرّ ، وأن ما لم يكن وهو غير كائن فلا شيء ، وأن ما لم يكن وهو كائن فهو أخفى من السرّ ، لأن ذلك لا يعلمه إلاّ الله ، ثم من أعلمه ذلك من عباده .
ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على سواء فقال : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } أي وإن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى منه ، وهو ضمير النفس . وفيه تنبيه على أن شرع الذكر والدعاء والجهر فيهما ليس لإعلام الله بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار .