{ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ } الذي لا شك فيه { مِنْ عِنْدِنَا } وهو القرآن ، الذي أوحيناه إليك { قَالُوا } مكذبين له ، ومعترضين بما ليس يعترض به : { لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } أي : أنزل عليه كتاب من السماء جملة واحدة . أي : فأما ما دام ينزل متفرقا ، فإنه ليس من عند اللّه . وأي : دليل في هذا ؟ وأي : شبهة أنه ليس من عند اللّه ، حين نزل مفرقا ؟
بل من كمال هذا القرآن ، واعتناء اللّه بمن أنزل عليه ، أن نزل متفرقا ، ليثبت اللّه به فؤاد رسوله ، ويحصل زيادة الإيمان للمؤمنين { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } وأيضا ، فإن قياسهم على كتاب موسى ، قياس قد نقضوه ، فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ولم يؤمنوا ؟ ولهذا قال { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } أي : القرآن والتوراة ، تعاونا في سحرهما ، وإضلال الناس { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحق بما ليس ببرهان ، وينقضونه بما لا ينقض ، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة ، وهذا شأن كل كافر . ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين ، ولكن هل كفرهم بهما كان طلبا للحق ، واتباعا لأمر عندهم خير منهما ، أم مجرد هوى ؟ .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقفهم بعد مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا } متمثلا فى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وفيما أيدناه به من معجزات دالة على صدقه ، وعلى رأسها القرآن الكريم .
لما جاءهم هذا الرسول الكريم { قَالُواْ } على سبيل التعنت والجحود : هلا أوتى هذا الرسول مثل ما أوتى موسى ، من توراة أنزلت عليه جملة واحدة ومن معجزات حسية منها العصا واليد والطوفان ، والجراد . . . إلخ .
وقوله - عز وجل - { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ . . } رد عليهم لبيان أن ما قالوه هو من باب العناد والتعنت ، والاستفهام لتقرير كفرهم وتأكيده .
أى : قالوا ما قالوا على سبيل الجحود ، والحال أن هؤلاء المشركين كفروا كفرا صريحا بما أعطاه الله - تعالى - لموسى من قبلك - يا محمد - من معجزات ، كما كفروا بالمعجزات التى جئت بها من عند ربك ، فهم ديدنهم الكفر بكل حق .
ثم حكى - سبحانه - بعض أقوالهم الباطلة فقال : { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } .
وقوله : { سِحْرَانِ } خبر لمبتدأ محذوف . أى : قالوا ما يقوله كل مجادل بغير علم : هما - أى ما اء به موسى وما جاء به محمد - عليهما الصلاة والسلام ، { سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } أى : تعاونا على إضلالنا ، وإخراجنا عن ديننا ، وقالوا - أيضا - { إِنَّا بِكُلٍّ } أى بكل واحد مما جاءوا به { كَافِرُونَ } كفرا لا رجوع معه إلى ما جاء به هذان النبيان - عليهما الصلاة والسلام - .
قال الآلوسى : وقوله : { قَالُواْ } استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإنكار السابق ، وبيان كيفيته ، و { سِحْرَانِ } ، يعنون بهما ما أوتى نبينا وما أوتى موسى . . { تَظَاهَرَا } أى : تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر ، وتأييده إياه ، وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود فى عيد لهم ، فسألوهم عن شأنه صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نجده فى التوارة بنعته وصفته ، فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود . قالوا ذلك .
وقرأ الأكثرون { قَالُواْ ساحْرَانِ تَظَاهَرَا } وأرادوا بهما محمد وموسى - عليهما الصلاة والسلام - .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلآ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىَ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنّا بِكُلّ كَافِرُونَ } . يقول تعالى ذكره : فلما جاء هؤلاء الذين لم يأتهم من قبلك يا محمد نذير فبعثناك إليهم نذيرا ( الحقّ من عِنْدِنَا ) ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة من الله إليهم ، قالوا تمردا على الله ، وتماديا في الغيّ : هلا أوتي هذا الذي أرسل إلينا ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتي موسى بن عمران من الكتاب ؟ يقول الله تبارك وتعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لقومك من قريش ، القائلين لك لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسَى : أو لم يكفر الذين علموا هذه الحجة من اليهود بما أوتي موسى من قبلك ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : اليهود تأمر قريشا أن تسأل محمدا مثل ما أوتي موسى ، يقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل لقريش يقولوا لهم : أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ؟ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ( قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسَى ) قال : اليهود تأمر قريشا ، ثم ذكر نحوه .
«قالُوا ساحِرَانِ تَظاهَرَا » واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : «قالُوا ساحِرَانِ تَظاهَرَا » بمعنى : أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ، وقالوا له ولمحمد صلى الله عليه وسلم في قول بعض المفسرين ، وفي قول بعضهم لموسى وهارون عليهما السلام ، وفي قول بعضهم : لعيسى ومحمد ساحران تعاونا . وقرأ عامة قرّاء الكوفة : قالُوا سِحْرَانِ تَظاهَرَا بمعنى : وقالوا للتوراة والفرقان في قول بعض أهل التأويل ، وفي قول بعضهم للإنجيل والفُرقان .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على قدر اختلاف القرّاء في قراءته . ذكر من قال : عُنِيَ بالساحرين اللذين تظاهرا محمد وموسى صلى الله عليهما :
حدثنا سليمان بن محمد بن معدي كرب الرعيني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة قال : سمعت مسلم بن يسار ، يحدّث عن ابن عباس ، في قول الله ساحِرانِ تَظاهَرَا قال : موسى ومحمد .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سمعت مسلم ابن يسار ، قال : سألت ابن عباس ، عن هذه الآية ساحِرَانِ تَظاهَرَا قال : موسى ومحمد .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن أبي حمزة ، عن مسلم بن يسار ، أن ابن عباس ، قرأ ساحِرَانِ قال موسى ومحمد عليهما السلام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن كيسان أبي حمزة ، عن مسلم بن يسار ، عن ابن عباس ، مثله .
ومن قال : موسى وهارون عليهما السلام :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ساحِرانِ تَظاهَرَا قال : اليهودُ لموسى وهارون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قالُوا ساحِرَانِ تَظاهَرَا قول يهودَ لموسى وهارون عليهما السلام .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جُبَير وأبي رزين أن أحدهما قرأ : «ساحِرَانِ تَظاهَرَا » ، والآخر : سِحْرَانِ ، قال : الذي قرأ سِحْرَانِ قال : التوراة والإنجيل . وقال : الذي قرأ : «ساحِرَانِ » قال : موسى وهارون .
وقال آخرون : عنوا بالساحرين : عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن ، قوله : ساحِرَانِ تَظاهَرَا قال : عيسى ومحمد ، أو قال موسى صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال : عنوا بذلك التوراة والفرقان ، ووجه تأويله إلى قراءة من قرأ سِحْرَانِ تَظاهَرَا :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : سِحْرانِ تَظاهَرَا يقول : التوراة والقرآن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قالُوا سِحْرَانِ تَظاهَرَا يعني : التوراة والفرقان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قالُوا سِحْرَانِ تَظاهَرَا قال : كتاب موسى ، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال : عنوا به التوراة والإنجيل :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : كنت إلى جنب ابن عباس وهو يتعوّذ بين الركن والمقام ، فقلت : كيف تقرأ سِحْران ، أو ساحران ؟ فلم يردّ عليّ شيئا ، فقال عكرِمة : ساحران ، وظننت أنه لو كره ذلك أنكره عليّ . قال حميد : فلقيت عكرِمة بعد ذلك فذكرت ذلك له ، وقلت : كيف كان يقرؤها ؟ قال : كان يقرأ سِحْرانِ تَظاهَرَا أي التوراة والإنجيل . ذكر من قال : عنوا به الفرقان والإنجيل :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك ، أنه قرأ سِحْرانِ تظَاهَرا يعنون الإنجيل والفرقان .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله قالُوا سِحْرَانِ تَظاهَرَا قالت ذلك أعداء الله اليهود للإنجيل والفرقان ، فمن قال ساحِرَانِ فيقول : محمد ، وعيسى ابن مريم .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندك بالصواب ، قراءة من قرأه قالُوا سِحْرَانِ تَظاهَرَا بمعنى : كتاب موسى وهو التوراة ، وكتاب عيسى وهو الإنجيل .
وإنما قلنا : ذلك أولى القراءتين بالصواب ، لأن الكلام من قبله جرى بذكر الكتاب ، وهو قوله : وَقالُوا لَوْلا أُوتِيَ مثْلَ ما أُوتِيَ مُوسَى والذي يليه من بعده ذكر الكتاب ، وهو قوله : فَأْتُوا بكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ هُوَ أهْدَى مِنْهُما أتّبِعْهُ فالذي بينهما بأن يكون من ذكره أولى وأشبه بأن يكون من ذكر غيره . وإذ كان ذلك هو الأولى بالقراءة ، فمعلوم أن معنى الكلام : قل يا محمد : أَوَ لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى من قبل ، وقالوا لما أوتي موسى من الكتاب وما أوتيته أنت ، سحران تعاونا .
وقوله : وَقالُوا إنّا بِكُلّ كافِرُونَ يقول تعالى ذكره : وقالت اليهود : إنا بكلّ كتاب في الأرض من توراة وإنجيل ، وزبور وفرقان كافرون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل ، وخالفه فيه مخالفون . ذكر من قال مثل الذي قلنا في ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّا بكُلّ كافِرُونَ قالوا : نكفر أيضا بما أوتي محمد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وَقالُوا إنّا بكُلَ كافِرُونَ قال اليهود أيضا : نكفر بما أوتي محمد أيضا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقالوا إنا بكلّ الكتابين الفرقان والإنجيل كافرون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك وَقالُوا إنّا بكُلّ كافِرونَ يقول : بالإنجيل والقرآن .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَقالُوا إنّا بِكُلَ كافِرُونَ : يعنون الإنجيل والفرقان .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَقالُوا إنّا بِكُلَ كافِرُونَ قال : هم أهل الكتاب ، يقول : بالكتابين : التوراة والفُرقان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَقالُوا إنّا بِكُلَ كافِرُونَ الذي جاء به موسى ، والذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
{ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا أوتي مثل ما أوتي موسى } من الكتاب جملة واليد والعصا وغيرها اقتراحا وتعنتا . { أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل } يعني أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم كفرة زمان موسى ، أو كان فرعون عربيا من أولاد عاد . { قالوا ساحران } يعني موسى وهارون ، أو موسى ومحمدا عليهما السلام . { تظاهرا } تعاونا بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق الكتابين . وقرأ الكوفيون " سحران " بتقدير مضاف أو جعلهما سحرين مبالغة ، أو إسناد تظاهرهما إلى فعلهما دلالة على سبب الإعجاز . وقرئ ظاهرا على الإدغام . { وقالوا أنا بكل كافرون } أي بكل منهما أو بكل الأنبياء .