خلقناه بقدر : بتقدير سابق ، أو خلقناه مقدّرا محكما .
28- { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
كل شيء في هذا الكون أبدع الله صنعه ، وأحكم تقديره على مقتضى الحكمة البالغة ، والنظام الشامل وبحسب السنن التي وضعها في الخليقة .
قال تعالى : { وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا } . ( الفرقان : 2 ) .
وقال عز شأنه : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } . ( الأعلى : 1-3 ) .
وقد استدل أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها ، وكتابته – أي تسجيله – لها قبل حدوثها .
أخرج الإمام أحمد ، ومسلم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدَر ، حتى العجز والكسل " xii .
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ومسلم أيضا ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل : قدَّر الله وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " xiii .
وأخرج أحمد ، والترمذي ، والحاكم ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا غلام ، إني أعلّمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، جفت الأقلام وطويت الصحف " xiv .
إذا تأملنا في هذا الكون البديع المنظم أدركنا أن يد القدرة البالغة وراء التناسق والتكامل بين أجزاء الكون وما فيه .
فالسماء والنجوم والكواكب والمجرات ، والشمس والقمر والليل والنهار ، والأرض والبحار والأنهار ، والجبال والهواء والفضاء ، كل هذه المخلوقات على آية من الإبداع والتناسق والتكامل ، بحيث تصيح وهي صامته : إن يد القدرة الإلهية التي أبدعت كل شيء ، وخلقت النجوم بقدر في مجراتها ومسيراتها ، إلى حدّ أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يودي بهذه الحياة كلّها ، أو لا يسمح أصلا بقيامها ، فحجم الأرض وكتلتها وبعدها عن الشمس ، وكتلة هذه الشمس ، ودرجة حرارتها ، وميل الأرض على محورها بهذا القدر ، وسرعتها في دورانها حول نفسها وحول الشمس ، وبُعْد القمر عن الأرض ، وحجمه وكتلته ، وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض . . . إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديرا ، لو وقع الاختلال في أيّ منها لتبدّل كل شيء ، ولكانت هي النهاية المقدَّرة لعمر الحياة على هذه الأرض .
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } . ( سورة فاطر : 41 ) .
سبحان من بيده ملكوت السماوات والأرض ، وسبحان من بيده الخلق والأمر ، وهو على كل شيء قدير .
قال تعالى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } . ( الإسراء : 12 ) .
وستجد في أعقاب تفسير سورة ( القمر ) إن شاء الله ضميمة في بيان النظام البديع في هذا الكون .
قال تعالى : { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } . ( السجدة : 6-7 )
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } أي مقدرا محكما ، مستوفى فيه ما تقتضيه الحكمة التي عليها مدار التكوين ؛ وهو كقوله تعالى : " وخلق كل شيء فقدره تقديرا " {[340]} . والقدر : اسم لما صدر عن القادر مقدرا . يقال : قدرت الشيء وقدرته – بالتخفيف والتثقيل – بمعنى واحد . أو المعنى : خلقناه مقدرا مكتوبا في اللوح قبل حدوثه ؛ فهو بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء . وقال النووي : القدر تقدير الله الأشياء في القدم ، وعلمه تعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه ، وعلى صفات مخصوصة ؛ فهي تقع على حسب ما قدرها الله تعالى . اه . وفي شرح المواقف : قضاء الله هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال . وقدره : إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها . وقد ناقشه محشيه المولى حسن جلبي ، واختار : أن القضاء هو الفعل مع الإتقان ؛ بحيث يأتي على ما تقتضيه الحكمة . والقدر : تحديد كل محدود بحده الذي يوجد به .
{ إنا كل شيء خلقناه بقدرٍ } : أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض فهو يقع كما كتب كمية وصورة وزمانا ومكاناً لا يتخلف في شيء من ذلك .
وقوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } إعلام منه تعالى عن نظام الكون الذي خلقه تعالى وهو أن كل حادث يحدث في هذا العالم قد سبق به علم الله وتقديره له فحَدَّد ذاته وصفاته وأعماله ومآله إلى جنة أو إلى نارٍ ، إن كان إنسانا أو جانا وليس هناك شيء يحدث بدون تقدير سابق له وعلم تام به قبل حدوثه .
ويقال لهم : { ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر } يعني : ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ ، قال الحسن : قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له .
أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أنبأنا مسلم بن غالب بن علي الرازي ، أنبأنا أبو معشر يعقوب بن عبد الجليل بن يعقوب ، حدثنا أبو يزيد حاتم بن محبوب ، أنبأنا أحمد بن نصر النيسابوري ، أنبأنا عبد الله بن الوليد العدني ، أنبأنا الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال : جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية : { إن المجرمين في ضلال وسعر } إلى قوله : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد شريك الشافعي الخدشاهي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجويدري ، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وكان عرشه على الماء " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاوس اليماني قال : أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : كل شيء بقدر الله ، قال وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ، أو الكيس والعجز " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أنبأنا أحمد بن حازم بن أبي عروة أنبأنا يعلى بن عبيد ، وعبد الله بن موسى وأبو نعيم عن سيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر زاد عبد الله خيره وشره " . ورواه أبو داود عن شعبة عن منصور وقال : عن ربعي عن علي ولم يقل : عن رجل ، وهذا أصح .
قوله تعالى : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " قراءة العامة " كل " بالنصب . وقرأ أبو السمال " كل " بالرفع على الابتداء . ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين ؛ لأن إن تطلب الفعل فهي به أولى ، والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى ؛ لأنك لو حذفت " خلقناه " المفسر وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كل شيء بقدر . ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء ؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله .
الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدر الأشياء ، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه ، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه ، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه ، سبحانه لا إله إلا هو ، ولا خالق غيره ، كما نص عليه القرآن والسنة ، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا . قال أبو ذر رضي الله عنه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا ، فنزلت هذه الآيات إلى قوله : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فقالوا : يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا ؟ فقال : ( أنتم خصماء الله يوم القيامة ) .
روى أبو الزبير عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم ) . خرجه ابن ماجة في سننه . وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقدر ) . وأسند النحاس : وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد ابن ميسرة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني ) وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر ، ثم أكد هذا بقوله : والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر . وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين : " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله{[14499]} " [ التوبة : 54 ] وهذا واضح . وقال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ) .
ولما أخبر بقيام الساعة وما يتفق لهم فيها جزاء لأعمالهم التي قدرها عليهم وهي ستر فرضوا بها لاتباع الشهوات واحتجوا على رضاه بها ، وكان ربما ظن ظان أن تماديهم على الكفر لم يكن بإرادته سبحانه ، علل ذلك منبهاً على أن الكل فعله ، وإنما نسبته إلى العباد بأمور ظاهرية ، تقوم عليهم بها الحجة في مجاري عاداتهم ، فقال : { إنا } أي بما لنا من العظمة { كل شيء } أي من الأشياء المخلوقة كلها صغيرها وكبيرها .
ولما كان هذا التعميم في الخلق أمراً أفهمه النصب ، استأنف قوله تفسيراً للعامل المطوي وإخباراً بجعل ذلك الخلق كله على نظام محكم وأمر مقدر مبرم { خلقناه بقدر * } أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقودة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه تقيسه الملائكة بالزمان وغيره من العد وجميع أنواع الأقيسة - فلا يخرم عنه مثقال ذرة لأنه لا منازع لنا مع ما لنا من القدرة الكاملة والعلم التام ، فهذا العذاب بقدرتنا ومشيئتنا فاصبروا عليه وارضوا به كما كنتم ترضون أعمالكم السيئة ثم تحتجون على عبادنا بأنها مشيئتنا بنحو
{ ولو شاء الله ما أشركنا }[ الأنعام : 148 ] فقد أوصلكم إلى ما ترون وانكشف أتم انكشاف أنه لا يكون شيء على خلاف مرادنا ، ولا يقال لشيء قدرناه : لم ؟ قال الرازي في اللوامع : الكمية ساقطة عن أفعاله كما أن الكيفية والكمية ساقطتان عن ذاته وصفته - انتهى . ولا يكون شيء من أمره سبحانه إلا ما هو على غاية الحكمة ، ولو كان الخلق لا يبعثون بعد الموت ليقع القصاص والقياس العدل ليكون القياس جزافاً لا بقدر وعدل ، لأن المشاهد أن الفساد في هذه الدار من المكلفين من الصلاح أضعافاً مضاعفة ، وقرئ في الشواذ برفع " كل " وجعله ابن جني أقوى من النصب ، وليس كذلك لأن الرفع لا يفيد ما ذكرته ، وما حمله على ذلك إلا أنه معتزلي ، والنصب على ما قدرته قاصم لأهل الاعتزال .
قوله : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } يعني : إن كل شيء من الأشياء مخلوق بتقدير الله وقضائه السابق في علمه ، المكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه . وبذلك فإن قدر الله سابق لخلقه . وقدره معناه علمه الأشياء قبل أن تقع . أي أن الله قدر الأشياء وعلم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، فلا يحدث شيء أو حدث في الوجود إلا وهو صادر عن علم الله تعالى وقدرته وإرادته . فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس " .
وفي الحديث الصحيح : " استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل : قدر الله وما شاء فعل ولا تقل : لو أني فعلت لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان " وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك ، جفت الأقلام وطويت الصحف " .