القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : تلك الدار الاَخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحقّ في الأرض وتجبرا عنه ولا فسادا . يقول : ولا ظلم الناس بغير حقّ ، وعملاً بمعاصي الله فيها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن زياد بن أبي زياد ، قال : سمعت عكرِمة يقول لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْض وَلا فَسادا قال : العلوّ : التجّبر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مسلم البطين تِلكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُها لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ وَلا فَسادا قال : العلوّ : التكبر في الحقّ ، والفساد : الأخذ بغير الحقّ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مسلم البطين لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ قال : التكبر في الأرض بغير الحقّ وَلا فَسادا أخذ المال بغير حقّ .
قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبَير لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ قال : البغي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ قال : تعظّما وتجبرا ، ولا فسادا : عملاً بالمعاصي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أشعث السمان ، عن أبي سلمان الأعرج ، عن عليّ رضي الله عنه قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه ، فيدخل في قول تِلكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُها لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ وَلا فَسادا ، والعاقِبَةُ للْمُتّقِينَ .
وقوله : وَالعاقِبَةُ للْمُتّقِينَ يقول تعالى ذكره : والجنة للمتقين ، وهم الذين اتقوا معاصي الله ، وأدّوا فرائضه . وبنحو الذي قلنا في معنى العاقبة قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة والعاقِبَةُ للْمُتّقِينَ أي الجنة للمتقين .
انتهت قصة قارون بما فيها من العبر من خير وشر ، فأعقبت باستئناف كلام عن الجزاء على الخير وضده في الحياة الأبدية وأنها معدة للذين حالهم بضد حال قارون ، مع مناسبة ذكر الجنة بعنوان الدار لذكر الخسف بدار قارون للمقابلة بين دار زائلة ودار خالدة .
وابتدىء الكلام بابتداء مشوق وهو اسم الإشارة إلى غير مذكور من قبل ليَسْتَشْرِف السامع إلى معرفة المشار إليه فيعقبه بيانه بالاسم المعرف باللام الواقع بياناً أو بدلاً من اسم الإشارة كما في قول عبيدة بن الأبرص :
تلك عِرسي غَضْبَى تريد زِيالي *** ألِبَيْنٍ تريدُ أم لدَلالِ . .
وجملة { نجعلها } هو خبر المبتدأ وكاف الخطاف الذي في اسم الإشارة غير مراد به مخاطب معيّن موجّه إلى كل سامع من قراء القرآن . ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود تبليغه إلى الأمة شأن جميع آي القرآن .
و { الدار } : محل السكنى ، كقوله تعالى { لهم دار السلام عند ربهم } في الأنعام ( 127 ) . وأما إطلاق الدار على جهنم في قوله تعالى { وأحَلُّوا قومَهم دارَ البَوَار } [ إبراهيم : 28 ] فهو تهكّم كقول أبي الغُول الطَهَوي :
ولا يَرْعَوْن أكناف الهُوَيْنَا *** إذا نزلوا ولا روضَ الهُدون
فاستعمال الروض للهدون تهكُّم لأن المقام مقام تعريض .
و { الآخرة } : مراد به الدائمة ، أي التي لا دار بعدها ، فاللفظ مستعمل في صريح معناه وكنايته .
ومعنى جعلها لهم أنها محضرة لأجلهم ليس لهم غيرها . وأما من عداهم فلهم أحوال ذات مراتب أفصحت عنها آيات أخرى وأخبار نبوية فإن أحكام الدين لا يقتصر في استنباطها على لوك كلمة واحدة .
وعن الفضيل بن عياض أنه قرأ هذه الآية ثم قال : ذهبتْ الأماني ههنا ، أي أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب ، وهذا قول المرجئة قال قائلهم :
كُن مسلماً ومن الذنوب فلا تخف *** حاشا المهيمن أن يُري تنكيدا
لو شاء أن يُصليك نار جهنم *** ما كان ألْهَم قلبَك التوحيدا
ومعنى { لا يريدون } كناية عن : لا يفعلون ، لأن من لا يريد الفعل لا يفعله إلا مكرهاً . وهذا من باب { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } كما تقدم في أول هذه السورة ( 5 ) .
والعُلوّ : التكبر عن الحق وعلى الخلق ، والطغيان في الأعمال ، والفساد : ضد الصلاح ، وهو كل فعل مذموم في الشريعة أو لدى أهل العقول الراجحة .
وقوله { والعاقبة للمتقين } تذييل وهو معطوف على جملة { تلك الدار } وبه صارت جملة { تلك الدار } كلها تذييلاً لما اشتملت عليه من إثبات الحكم للعام بالموصول من قوله { للذين لا يريدون علواً في الأرض } والمعرف بلام الاستغراق .
و { العاقبة } : وصف عومل معاملة الأسماء لكثرة الوصف به وهي الحالة الآخرة بعد حالة سابقة وغلب إطلاقها على عاقبة الخير . وتقدم عند قوله تعالى { ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } في [ الأنعام : 11 ]
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.